“أنا مكتئب، أعيش حالة من الاكتئاب”، لا تصدقوا من يردد هذه العبارة كثيرًا كما يقول طبيب نفسي، فليس لأنك تضجر من فعل شيء معيّن، ومزاجك معكّر بسبب مشاداة حصلت في العمل أو البيت أو حتى الشارع، يستدعي أن تصف نفسك بالمكتئب، فالاكتئاب له أعراضه وأسبابه.
لكن الأكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب والاضطرابات النفسية هم من يعيشون في حالة صراع مستمر، بفعل الظروف السياسية التي تنعكس على مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، كما الشعب الفلسطيني الذي يقع تحت الاحتلال الإسرائيلي، فقد كشف البنك الدولي مؤخرًا في دراسة جديدة، أن أكثر من نصف الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة يصارعون الاكتئاب.
وقالت الدراسة إن 50% من الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية و71% من سكان غزة تظهر عليهم أعراض تتفق مع الاكتئاب، و7% من البالغين الفلسطينيين الذين خضعوا لفحوصات ظهر عليهم اضطراب ما بعد الصدمة.
وعزت الدراسة أسباب ذلك إلى نقاط الضعف المتداخلة والصدمات التراكمية على السكان الفلسطينيين، بسبب عقود من التعرض للنزاع، والقيود المفروضة على التنقل، وسوء الأحوال المعيشية، خاصة لسكان غزة.
وليس هيّنًا ما يمرّ به الفلسطيني من أحداث عسكرية يفرضها الاحتلال الإسرائيلي، فمثلًا العدوان المتكرر على قطاع غزة جعل الكثير من المواطنين شهودًا على جرائم القتل والتدمير، وكذلك الحال في الضفة المحتلة.
فالاقتحامات الليلية تربك أهالي المنطقة عند اعتقال المطلوبين من الشباب المقاوم، وكذلك الأوامر التي يتسلمونها لهدم بيوتهم بأيديهم، أو سرقة المستوطنين لأراضيهم لإحلال المستوطنات مكانها، وبالتالي يؤثر ذلك على وضعهم النفسي بشكل كبير.
تجارب وأعراض الاكتئاب
لم يكن الوصول إلى حالات عاشت الاكتئاب صعبًا، خاصة بعد برامج الدعم النفسي التي تتنقل في كل المدن والقرى الفلسطينية للوصول إلى الضحايا، وبالتالي أصبح لديهم الجرأة لطرق أبواب العيادات النفسية المنتشرة، سواء الحكومية أو الخاصة أو التي تتبع وكالة الغوث (الأونروا).
وصل “نون بوست” إلى حالة في الضفة المحتلة وتحديدًا من سكان مدينة نابلس، الشاب مصطفى (27 عامًا) يقول إنه عاش فترة من الاكتئاب الحاد أوصلته إلى محاولة الانتحار مرتَين، بسبب ما تعرض له من اعتقال سياسي في سجون السلطة وضربه، ومحاولة الاعتداء عليه جنسيًّا، واتهامه بتهم ليست صحيحة اضطر للاعتراف بها تحت التعذيب لينجو بجسده، ومن ثم بقي معتقلًا مدة عام ونصف.
ويذكر مصطفى أن طيلة وجوده في السجن كانت المعاملة سيئة ويقذف بالشتائم ويعامل معاملة قاسية، لدرجة أنه كان يلتزم الصمت ولا يستطيع الثقة بأحد للحديث معه، فأمضى اعتقاله صامتًا.
ويحكي أنه بمجرد خروجه من السجن قبل 4 سنوات، وبعد 6 شهور من الحرية كما يصفها، أعاد الاحتلال اعتقاله بحجّة انتمائه إلى فصيل سياسي مقاوم، وبقيَ على إثرها أيضًا عامًا في المعتقلات الإسرائيلية تحت الاعتقال الإداري.
لا يريد مصطفى أن يتذكر تلك التجربة القاسية كما يقول، ويعلق: “بعد خروجي من سجن الاحتلال، فقدت ثقتي بالجميع وحاولت الانتحار مرتَين، شعرت أن الحياة ليست لي، كرهت كل من حولي وأصبحت ملازمًا لغرفتي، وبعد ضغوط من أهلي سافرت وتلقيت العلاج النفسي في الأردن، فلم أرغب بالعلاج في الضفة”.
ويؤكد أنه خرج من حالة الاكتئاب التي لم يتخيّل يومًا سيصلها، بحث عن ذاته أكثر وصقل مهاراته في تركيا حتى حصل على فرصة عمل، والآن يتجهّز لتكوين عائلة.
وفي السياق ذاته، يقول الطبيب النفسي يوسف عوض الله، مدير عيادة مركز رفح للصحة النفسية جنوب قطاع غزة، إن الاكتئاب هو مرض العصر، حيث يعاني حوالي 10% من سكان العالم منه، ومتوقع في عام 2030 أن يصنّف إعاقة.
وعن أعراضه التي تظهر على المصابين الذين يترددون على عيادته، ذكر أنه يغلب على المريض المزاج الحزين، وفقدان الشغف والاهتمام بالأنشطة اليومية، وكذلك الأرق، وانخفاض شهية الطعام، وأيضًا انخفاض في الوزن بمعدل 5% على مدار الشهر.
هذا بالإضافة إلى انعدام الرغبة الجنسية، والشعور بقلة القيمة، والعزلة والانطواء والتفكير بالانتحار أو الإقدام عليه، لافتًا إلى أنه في حال توفرت 5 أعراض على الشخص يصنَّف بالمكتئب.
ولفت عوض الله خلال حديثه لـ”نون بوست”، أن الشخص المكتئب حال فكر في الانتحار على من حوله أخذ الحيطة والحذر، لأن الاكتئاب هو من الأكثر الأمراض التي يصاب بها المنتحرون.
أما عن أسباب الاكتئاب، ذكر الطبيب النفسي أنه يأتي في الدرجة الأولى العامل الوراثي، ثم الأسباب الكيماوية البيولوجية حين يكون المكتئب مصابًا بالأساس في خلل غدد معيّنة، لكن الأكثر شيوعًا في السنوات الأخيرة في قطاع غزة العوامل النفسية والاجتماعية نتيجة الأوضاع السياسية.
وأوضح أن الوضع السياسي والاقتصادي الذي يعيشه الغزيون، لعب دورًا رئيسيًّا في ارتفاع نسبة الاكتئاب لدى المواطنين، وذلك عقب الحروب المتكررة التي خلّفت العديد من الاضطرابات النفسية، ومنها الاكتئاب.
وأشار عوض الله إلى أن الحصار المفروض منذ 16 عامًا، خلّف وراءه عددًا كبيرًا من البطالة والفقر المدقع، ما يصيب الشباب بالإحباط والاكتئاب لعدم قدرتهم على إعالة أسرهم أو تدبير مصروفهم اليومي.
وعن مدى تقبُّل المصابين في التردد على عيادات الدعم النفسي، لفت الطبيب إلى أنه رغم الوعي بتقبُّل المرض النفسي بفعل جلسات الدعم النفسي التي تجوب القطاع، لا سيما وقت العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وبعده، إلا أن الشخص المكتئب لا يزال يشعر بوصمة العار حال طرق باب طبيب نفسي للعلاج.
ويقول عوض الله: “70% قبل زيارتهم للطبيب النفسي ذهبوا إلى المشايخ لمعالجتهم، فالأب والزوج يقبل أن يضرب المشعوذون زوجاتهم وبناتهم دون الذهاب للطبيب”، متابعًا: “حين تظهر الأعراض على المريض، يظن بعض الأهالي أنه محسود، فتبدأ رحلة البحث عن علاج لدى من يدّعون العلاج بالقرآن”.
وبحسب متابعته، فإن أكثر الذين يأتون للعلاج هم من الرجال، باعتبار هم من يتحملون المسؤولية ويواجهون صعوبات الحياة.
ويستذكر الطبيب النفسي تجربة لشابّ جاء إليه للعلاج بعدما حاول الانتحار، فقد تعرض منزل الشاب للقصف الإسرائيلي حين كان بعمر الـ 18 فدُمّر جزء من بيته، بينما هو بقيَ مختبئًا أسفل السرير عاجزًا لا يقوى على تقديم المساعدة، فقط بقيَ يسمع صراخ والدته وشقيقاته.
وكما يخبر الطبيب، حين وصل الشاب إليه كان في حالة اكتئاب حاد، بعد دخوله في حالة نفسية جعلته يهدد ويقدم على الانتحار، لكن بعد التدخل العاجل وتقديم الحوافز المشجّعة له والعلاج اللازم، تماثل إلى الشفاء.
هل يؤثر الوضع السياسي على الفلسطينيات نفسيًّا؟
في السنوات الأخيرة، وبعد وصول برامج الدعم النفسي لكل مناطق قطاع غزة وحتى الضفة المحتلة، بدأت النساء بإعلاء أصواتهن والحديث عن مشاكلهن النفسية دون خجل، حتى أن التردد على عيادة طبيب نفسي لم تعد مخجلة أو وصمة عار كما ينظر إليها البعض.
داخل إحدى العيادات الحكومية في مدينة غزة، كانت تنتظر أسماء دورها للدخول إلى طبيبتها النفسية، فهذه الجلسة السابعة لها، حيث مراسلة “نون بوست” استأذنت منها الحديث، فوافقت دون ذكر تفاصيلها الشخصية.
تحكي أسماء، وهي تبلغ من العمر 23 عامًا، أمّ لـ 5 أطفال، وتحمل الشهادة الإعدادية، أنها تزوجت من ابن عمها ويعمل يومًا واحدًا مقابل 10 أيام عاطلًا في مجال السباكة، ما يضطره للاستدانة من صاحب الدكان الذي يلاحقه بعدما تتراكم عليه الديون، فينفث غضبه تجاهها بالضرب والإهانة.
تقول: “صبرت كثيرًا وبقيت صامتة دون شكوى لأحد من أجل أولادي، لكن صدمتي الأكبر حين فقدت شقيقي خلال معركة “سيف القدس” عام 2021، فقد كان يدعمني ماديًّا من حين لآخر، وقت استشهاده اعتزلت من حولي وفقدت القدرة على الكلام والطعام، حتى أولادي لم أهتم بهم”، مضيفة: “لم أكن أعلم بإصابتي بالاكتئاب إلا بعد ضرب زوجي لي، حتى فقدت صوابي وتمَّ نقلي إلى المستشفى”.
وأكملت: “هناك بعد تقديم العلاج تمَّ الضغط عليّ لمعرفة الفاعل، لكني تنازلت ولم أشتكي عليه، حُوّلت بأمر من المباحث الطبية إلى العيادة النفسية لتلقي العلاج، وفي حال رفض زوجي سيتم حبسه”.
وتوضّح أنها منذ 6 شهور وهي تتردد أسبوعيًّا على العيادة، تمَّ تقديم العلاج اللازم لها، حتى تحسّنت حالتها بشكل ملحوظ، وقدرتها على مواجهة زوجها عند تعنيفها.
وفي السياق ذاته، تؤكد الاختصاصية النفسية علا دويك، أنه نتيجة الأوضاع السياسية والاقتصادية التي يعاني منها الشعب الفلسطيني خاصة في قطاع غزة، بدأت الاضطرابات النفسية تزداد بالظهور، ومن أبرزها الاكتئاب والقلق العام ونوبات الهلع.
وأشارت إلى أن الاكتئاب يأتي نتيجة الضغوط النفسية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، حيث يترك آثارًا جسدية ونفسية وسلوكية لا يحمد عقباها حال عدم علاجه.
ولفتت لـ”نون بوست” أن من أسباب تعرض الشخص للاكتئاب، لا سيما من يعيش تحت الاحتلال، يرجع إلى فقدان شخص قريب خلال التصعيد العسكري بين الاحتلال والمقاومة، أو وجود طفل مريض لا يقوى والده على توفير العلاج له، والتعرض لضغوط حياتية صعبة.
وذكرت دويك أن كثيرًا من الأشخاص يرددون كلمة “مكتئب” على مسامعها، لكن هو تشخيص دون فهم، فمن يشعر بالضيق والعصبية وعدم السعادة يصف نفسه بالمكتئب، بينما في واقع الأمر هي ضغوط نفسية متراكمة يمكن حلها بسهولة، بخلاف الاكتئاب الذي قد يصل إلى الانتحار.
وتقول: “من خلال عملي، فإن الوضع الاقتصادي السيّئ من أهم الأسباب التي تودي بالشخص إلى الإصابة بالاكتئاب، حيث إن الشخص يشعر بالعجز وعدم القدرة على توفير أدنى متطلبات الحياة، ما يجعل الضغط النفسي يزداد يومًا بعد يوم دون أي تغيُّر في الظروف المحيطة، ودون القدرة على التفريغ ما يسبّب الانفجار مع الوقت، ويؤدي أحيانًا الى الانتحار”.
وإن كانت الدراسات تشير إلى ارتفاع نسبة الاكتئاب في صفوف الفلسطينيين، فإن ذلك دليل الوعي لديهم بعلاج أي اضطراب نفسي يتعرضون له، بعيدًا عن وصفات الدجالين ومن يدّعون العلاج بالقرآن.