على مساحة 223 ألف كيلومتر مربع، بداية من شمال شرق إفريقيا، وصولًا إلى إريتريا، مرورًا بالسودان وإثيوبيا، تقع الصحراء الشرقية، التي يعتبرها الجغرافيون جزءًا من الصحراء الكبرى، تلك البقعة الساحرة من القارة الإفريقية التي تحتضن في باطنها أغلى ثروات إفريقيا المعدنية، هذا بخلاف احتوائها على أشهر المحميات والقمم الجبلية ذات القيمة الأثرية والسياحية والبيئية الكبيرة.
وفي مصر تحديدًا حيث الشريط الممتد الذي يحده غربًا نهر النيل ومن الشرق البحر الأحمر وخليج السويس، تعد الصحراء الشرقية الكنز الاقتصادي الأبرز للمصريين، فهي مخزن الذهب العالمي، وقلعة التعدين الأكثر اتساعًا، كما أنها منارة المحاجر في المحروسة التي يُستخرج منها الطَفلة والجرانيت والحجارة.
ظلت تلك المنطقة لعقود طويلة غائبة عن رادار الاهتمام الرسمي المصري، وبقيت كنوزها حائرة بين عصابات التنقيب وبعض الشركات الخاصة، فيما كان نشاطها الأبرز هو المحاجر والمناجم، إذ تمتلك مصر ما يصل إلى 4500 منجم بمختلف أنواعها، فضلًا عن 5000 محجر، تحتل بها المرتبة الثالثة عالميًا في الثروة المحجرية والمعدنية.
لكن في السنوات الأخيرة، نهاية حكم حسني مبارك وحتى اليوم، تحولت تلك المنطقة إلى ساحة حرب كبرى بين الجيش المصري ومعه الشرطة بين الحين والآخر من جانب، وعصابات التنقيب من جانب آخر، وذلك من أجل السيطرة على كنوز الذهب المدفونة في هذا الشريط الطويل.
وسقط في تلك الحرب العشرات من الضحايا من الطرفين، فيما لم تنته تلك الحرب بعد، فالمعارك مستمرة في ظل تفاقم أهمية الذهب الذي أصبح أحد الملاذات الآمنة في هذا العصر، ما دفع الجميع للهرولة من أجل الاستحواذ على احتياطيه، دول وحكومات وشركات وشعوب.. فما حقيقة تلك الحرب الدائرة في الصحراء الشرقية؟
ما هو إنتاج مصر من الذهب؟
– تنتج مصر نحو 15.8 طن من الذهب سنويًا، كما تمتلك نحو 270 موقع ذهب، بينها 120 موقعًا ومنجمًا تم استخراج الذهب منها قديمًا، وفق آخر إحصاءات مجلس الذهب العالمي.
– يعود إنتاج الذهب في مصر إلى عهد الفراعنة، الذين كانوا يملكون 120 منجمًا، كلها في الصحراء الشرقية في ثلاثة مواقع رئيسية جبل السكري ومنطقة حمش ووادى العلاقي.
– جاءت مصر في المرتبة الثالثة بين الدول الأكثر نموًا في الاحتياطي من الذهب خلال عام 2022، حيث شهد شراء المصريين 44.64 طن، إضافة إلى 44 طنا آخرين للاحتياطي، وشراء 64 كيلوغرامًا تقريبًا في مرحلة لاحقة ليسجل احتياطي الذهب في مصر 125.55 طن، وفق تصنيف مجلس الذهب العالمي الصادر في فبراير/شباط 2023.
– خلال الأشهر العشر الأولى من 2022 ارتفعت صادرات مصر من الذهب والحلي والأحجار الكريمة بنسبة 47% لتصل إلى 1.326 مليار دولار، مقارنة بـ901 مليون دولار خلال نفس الفترة من 2021 بحسب تقرير المجلس التصديري لمواد البناء.
– صدّرت مصر ذهبًا وأحجار كريمة لأكثر من 37 دولة خلال 2022، وجاءت كندا في المرتبة الأولى حيث استحوذت على 50.2% من إجمالي الصادرات المصرية بقيمة 666 مليون دولار في مقابل 500 مليون دولار بنمو 33%.
خريطة الذهب في مصر والصحراء الشرقية
– لا يوجد إحصاء رسمي بعدد مناجم الذهب في مصر، فمنطقة الصحراء الشرقية ما زالت غير خاضعة بشكل كامل للمسح الجيولوجي، هذا بخلاف الاكتشافات بين الحين والآخر لمناجم ما كان يعرفها أحد، فضلًا عن خروج أخرى عن التصنيف بعد الاستحواذ على كل ما فيه، إلا أن إنتاج الذهب في تلك البقعة يتمركز في ثلاث مناطق محددة هي جبل السكري ومنطقة حمش ووادي العلاقي.
– منجم السكري.. أضخم وأكبر منجم للذهب في مصر، ويعد من ضمن أكبر 10 مناجم في العالم من حيث الاحتياطي والإنتاج، يقع على مسافة 30 كيلومترًا جنوبي مرسى علم، اكتشف عام 1995، ودخل حيز العمل في 2009، وحقق في 2019 أكبر نسبة بيع في التاريخ بلغت نحو 15 طنًا من الذهب والفضة، فيما بلغت إجمالي قيمة مبيعات المنجم نحو 650 مليون دولار، وبلغت قيمة الإتاوة المستحقة عليها 3% نحو 19.5 مليون دولار.
– منجم حمش.. يقع على بعد 100 كيلومتر غرب مدينة مرسى علم، قرب محمية وادي “الجمال حماطة”، دخل حيز الإنتاج عام 2007 حين تم إنتاج أول سبيكة ذهبية تجريبية لأول مرة في مصر، وقد بلغ إنتاجه في 2010 نحو 65 كيلوغرامًا.
– منجم وادي العلاقي.. يقع على بعد 250 كيلومترًا جنوب شرق مدينة أسوان (جنوب) وأسفرت عمليات التنقيب والاستكشاف عن وجود كميات كبيرة في مناطق سيجا وأم شاشوبة وحايمور، كذلك بمعدلات تركيز مرتفعة تتراوح بين 2 إلى 4 غرامات في الطن وهي المعدلات الاقتصادية المثلى في السوق العالمي.
– منجم عتود.. يقع غرب مرسى علم بنحو 55 كيلومترًا وجنوب طريق إدفو ـ مرسى علم 5 كيلومترات، ويتميز الذهب هناك بأنه موجود داخل عروق مرو المنتشرة في منطقة نحو 9 كيلومترات مربعة، ويصل حجم احتياطي الذهب المؤكد به بحجم 8595 طنًا بمتوسط نسبة ذهب 12.68جم في الطن.
– منجم البرامية.. يقع عند الكيلو 105 شرق مدينة إدفو، ويوجد الذهب هناك في عروق المرو، ويعد من أكبر وأغنى مناجم الذهب في مصر، تشير التقديرات إلى أن احتياطيه يقع في 3 نطاقات: الأول يحتوي على 14.8 مليون طن خام بنسبة ذهب 1.07 جم في الطن ويحتوي على كمية من الذهب 16 طنًا، والثاني يحتوي على 1.22 مليون طن خام بنسبة ذهب 2.85 جم للطن، ويحتوي على كمية ذهب 3.5 طن، والثالث يحتوي على 0.5 مليون طن خام بنسبة ذهب 3.00 جم في الطن، ويحتوي على كمية ذهب 1.5 طن.
– منجم أبومروات.. جنوب طريق سفاجا قرب جبل أبو مروات، ويوجود به الذهب ممزوجًا بمعادن أحرى مثل الفضة والزنك والرصاص والنحاس، ويبلغ حجم احتياطيه قرابة 290 ألف طن بنسبة ذهب تترواح ما بين 3.8 – 7.7 جم في الطن وفضة تترواح ما بين 43.3 – 102 جم في الطن.
– منجم أم عود.. يقع عند الكيلو 55 جنوب غرب مدينة مرسى علم، 6 كيلومترات إلى الغرب من الصباحية، وكالعادة يوجد الذهب هناك في عروق الكوارتز الأبيض الرمادي، ويبلغ حجم الاحتياطي 15600 طن، ونسبة الذهب 22.7 جم في الطن.
– منطقة حلايب وشلاتين.. وتشتمل على صخور مليئة بالمعدن الأصفر، ومن أكثر المناطق التي يوجود بها الذهب جبل الأنبط الذي استخرج سكان القبائل 7 كيلوغرامات منه في صورة عرق ذهب، وعرق آخر يزن 6 كيلوغرامات من منطقة أخرى من الجبل ذاته.
– المثلث الذهبي.. هي منطقة تقع في البحر الأحمر بين سفاجا والقصير، وتشتمل وحدها على 94 موقعًا للذهب، الموجود هناك في عروق المرو وممتزجًا ببعض المعادن الأخرى، ويعد من أكثر المناطق التي تحتوي على كميات كبيرة من المعادن النفيسة في مصر.
المحاجر.. باكورة نشاط التعدين في مصر
ما قبل 2011 كان النشاط التعديني الأبرز في الصحراء الشرقية هو المحاجر، واستخراج الطفلة والجرانيت خاصة من الجزء المتاخم لأسوان، هذا النشاط الذي كان يدر عوائد كبيرة جدًا، وكان خاضعًا معظم الوقت لشركات خاصة مع مزاحمة نسبية من الكيانات التابعة للمؤسسة العسكرية.
أسالت عوائد المحاجر لعاب القوات المسلحة التي سعت خلال السنوات الماضية للسيطرة على تلك التورتة بشكل منفرد، ومن هنا بدأ التضييق على أصحاب المحاجر من خلال بعد الإجراءات منها رفع رسوم مرور سيارات النقل المحملة بخامات المحاجر، وفرض غرامات مشددة دون وجه حق، كذلك التضييق من خلال كميات السولار المشتراه من محطات الوقود الموجودة في الجبل.
في عام 2020 أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قانون رقم 193 الخاص بترخيص تعاقد وزراء البترول والتنمية المحلية والإسكان مع الشركة المصرية للتعدين وإدارة واستغلال المحاجر والملاحات، المملوكة لجهاز الخدمة الوطنية، لاستغلال المحاجر والملاحات في الأراضي التي تقع في دائرة اختصاص المحافظات وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، وهو القرار الذي قضى تمامًا على نشاط المحاجر بالنسبة للقطاع الخاص بصورة شبه كاملة.
أمام تلك التضييقات والعراقيل فطن العاملون في مجال المحاجر أن الجيش يرغب في السيطرة على هذا القطاع بأكمله، خاصة بعد الأرباح التي حققها خلال العقود الماضية، وتزايد نشاطه في الداخل والإقبال على منتجاته خارجيًا، وهو ما أسال لعاب الجميع للهيمنة على تلك التورتة، ومن هنا كان التفكير في تغيير النشاط من المحاجر إلى التنقيب عن الذهب.
التوجه نحو التنقيب عن الذهب
كان نشاط التنقيب عن الذهب حكرًا على بعض الجهات والأشخاص في السابق، نظرًا لكلفته الباهظة وصعوبة تصديره، والتعقيدات الكبيرة التي تصاحب عمليات البيع، لكن في السنوات السبعة الأخيرة تحديدًا، وبعد الأزمات الاقتصادية التي واجهها العالم جراء جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، فرض الذهب نفسه كأحد أبرز الملاذات الآمنة في مواجهة التضخم والسيولة الكبيرة في أسعار السلع والعملات المختلفة.
من هنا ارتفع معدن الذهب في الأسواق العالمية بصورة لم يشهدها من قبل، وتوجهت دول بأكملها نحو الاستثمار في هذا النوع من النشاط، ومن بين مصر، حيث كان البنك المركزي المصري “أكبر مشتر للذهب” بين البنوك المركزية العالمية خلال الربع الأول من 2022، بعدما اقتنى خلال فبراير/شباط 44 طنًا من المعدن، وفقًا للتقرير الصادر عن مجلس الذهب العالمي.
التوجه نحو التنقيب عن الذهب أسال لعاب الجميع وليس الحكومات فقط، ومن هنا بدأت عصابات ممنهجة، بعضها مدعم بعناصر من الخارج، للبحث عن المعدن النفيس، حيث اكتظت الصحراء الشرقية بعشرات العصابات والكيانات المسلحة وبعض القبائل الباحثة عن الذهب والمعروفين باسم “الدهابة”.
يتعامل المنقبون عن الذهب في الصحراء بمبدأ “أن الصحراء مثل البحر وأن الذهب مثل السمك”، حق للجميع دون احتكار، وهو المبدأ الذي يتبناه المنقبون عن الآثار، حيث يعتبرون أن هذا المعدن أو ذاك الأثر ليس ملك الدولة، لكنه ملك من يجده أيًا كانت هويته، وهو المبدأ الذي صاحبه الكثير من الجدل خلال العقود الماضية وصل إلى حد الخلاف الفقهي بشأنه.
حاولت الدولة من خلال المؤسسة العسكرية إحكام السيطرة على المشهد قبل انفلات الوضع، ومحاولة الهيمنة على هذا الكنز الدفين تحت رمال الصحراء الشرقية وبين صخور جبالها، ومن ثم كان لا بد من التدخل العاجل، وبالفعل وضعت السلطات الحاكمة خطة السيطرة من خلال تدشين شركة جديدة تكون خاضعة للقوات المسلحة ومدعومة بالحماية الكاملة في مواجهة تلك العصابات.
شركة شلاتين للثروة المعدنية.. الجيش يحاول الهيمنة
في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 تأسست شركة شلاتين للثروة المعدنية، بموجب قرار مجلس الوزراء كشركة مساهمة مصرية وفقًا لأحكام قانون الشركات المساهمة رقم 159 لسنة 1981 وتعديلاته وقانون سوق رأس المال، الصادر بالقانون رقم 95 لسنة 1992 ولائحته التنفيذية.
الشركة تابعة لجهاز مشروعات الخدمة المدنية التابع للجيش المصري، وجاء التأسيس بهدف البحث واستغلال الخامات التعدينية في جمهورية مصر العربية عدا منطقة شبه جزيرة سيناء مع الاحتفاظ بحقوق الشركة في البحث والاستغلال عن الخامات التعدينية في المنطقة الواقعة بين خطي عرض 22˚و24˚ شمالًا بجنوب الصحراء الشرقية.
بحسب ما هو معلن على موقع الشركة على الإنترنت، فإن الهدف الأبرز لها هو تقنيين أوضاع العاملين في التنقيب العشوائي عن الذهب في الصحراء الشرقية وتحصيل حقوق الدولة وتعظيم الاستفادة من ثروات مصر الطبيعية وتقوم على وضع خطة مستقبلية لتطوير نشاط الشركة بعد ذلك للتنجيم عن الذهب والمعادن بمفردها أو بالشراكة مع الشركات المحلية والعالمية وتعظيم الاستفادة من ثروات مصر الطبيعية.
كما تهدف إلى إعادة استغلال مناجم الذهب القديمة، عمل قيمة مضافة للخامات التعدينية، إنشاء مصنع أو مصانع لإنتاج الذهب سواء بنفسها أم بالاشتراك مع الغير، الاستثمار في مجال الثروات التعدينية سواء بنفسها أو بالاشتراك مع الغير، قيام الشركة بتسويق الخامات المعدنية في السوق المحلي والعالمي.
توزعت ملكية الشركة على أربع جهات: الهيئة المصرية العامة للثروة المعدنية (35%) وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية (34%) وبنك الاستثمار القومي (24%) والشركة المصرية للثروات التعدينية (7%).
طرحت الحكومة المصرية في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 مزايدة عالمية – كمرحلة أولى – للتنقيب عن الذهب في الصحراء الشرقية، حيث تم إسناد 82 منطقة بالصحراء الشرقية إلى 11 شركة مصرية وعالمية، وفي 10 أبريل/نيسان 2023 طرحت المرحلة الثانية من المزايدة حيث فازت 4 شركات إنجليزية وكندية ومصرية.
تستهدف الدولة المصرية من خلال تلك المزايدات ضخ استثمار يقارب مليار دولار في قطاع التعدين بحلول عام 2030، من أجل توسعة الاستفادة بالثروات المعدنية، وتحقيق أكبر قدر من الاستفادة من تلك الكنوز المدفونة تحت الأرض خاصة الذهب الذي حلق في سماء أفضل الاستثمارات في العالم.
النشاط المكثف للتنقيب عن الذهب في الصحراء الشرقية ينطلق من مركز إدفو بمحافظة أسوان ثم تمدد بمحازاة وادي النيل إلى البحر الأحمر، من قنا وحتى حدود السودان، وهناك 8 مواقع رئيسية تستحوذ على الجانب الأكبر من نشاط التنقيب هي: جبل أم أراقة، أم حبال، أم غزال، البرامية، أبو رماد، شلاتين، برانيس، قرية العلاقي ومحيطها.
التنقيب غير الشرعي.. الاستخراج والبيع
نظرًا لأن التنقيب في معظمه يتم بشكل غير قانوني عبر عصابات التنقيب فإن طرق الاستخراج ووسائل البيع بالطبع ليست قانونية هي الأخرى، وبحسب شهادة بعض المتخصصين في هذا الأمر لموقع “مدى مصر” فإن طرق استخراج الذهب تطورت من الاستعانة بجهاز كشف المعادن الذي كان الأكثر انتشارًا إلى أدوات أخرى.
كشفت شركة #لوتس_جولد الكندية، أن حجم انفاقها الاستثماري بعمليات التنقيب عن #الذهب في #مصر بلغ حتى الآن نحو 8 ملايين دولار منذ إسناد الأعمال لها#مزيد pic.twitter.com/nfeMpN9XwU
— مزيد – Mazid (@MazidNews) July 19, 2023
أولها طريقة تسمى “الغربال” وتتضمن وضع التراب الموجود به الذهب في غربال كبير بحيث يتلم فلترة الغبار غير المطلوب واستخراج التراب العالق به الذهب، أما الطريقة الثانية والأكثر انتشارًا فهي “العروق”، حيث يتم طحن حجارة الكوارتز الموجود بها خام الذهب في طواحين خاصة، وتستغرق عملية الطحن نحو 12 ساعة، وتتراوح نسبة الخام المستخرج من الطريقة بين 3- 150 غرامًا من الذهب في الطن الواحد، وتنتشر تلك الطريقة بشكل أكبر في مدينة إدفو شمال أسوان.
يُباع الذهب المستخرج بطرق غير رسمية في حي الصداقة في أسوان، لتجار معروفين بالاسم، متخصصين في هذا النوع، حيث يصهرون الخام المستخرج في النار، ثم يعيدون تشكيله مرة أخرى، إذ إنهم يمتلكون محلات صاغة كبيرة في القاهرة والعواصم الرئيسية.
تحاول الحكومة فرض قيود مشددة على تجارة الذهب المستخرج بالطرق غير القانونية، لكن تطور الأساليب المستخدمة من الدهابة والتجار وتعدد حيلهم حالت دون إحكام السيطرة على هذا النوع من التجارة غير الشرعية، هذا بخلاف الفساد المستشري والرشاوى التي يمكن تقديمها لعبور كميات كبيرة من المادة الخام على مرأى ومسمع من الحكومة.
فشل استمالة عصابات التنقيب
رغم محاولة الدولة السيطرة على المشهد من خلال شركة “شلاتين” التابعة للقوات المسلحة، فإن الشركة فشلت في الهيمنة على المساحة الشاسعة من الصحراء ومئات المناجم التي تحتضنها، هذا بخلاف قلة الخبرة في التعرف على أماكن الاستحواذ الأكبر للمادة الخام التي تمتلك العصابات بشأنها خبرات واسعة النطاق.
ميدانيًا فإن المعركة محسومة لعصابات التنقيب، فيما تحاول شركة شلاتين وفروعها وأذرعها ووزارة البترول مجتمعة المشاكسة مع تلك العصابات التي تستأثر بالمناطق الإستراتيجية الزاخرة بالذهب، لكنها موقعة غير متكافئة بطبيعة الحال، وهو ما دفع الجيش للبحث عن آلية جديدة للحصول على أكبر قدر من المكاسب.
حاولت شركة “شلاتين” استمالة المنقبين عن الذهب، وذلك من خلال طرح مزايدات قانونية على مواقع تنقيب مخصصة لهم، والسماح بدخول الأجهزة المطلوبة في عمليات الحفر والتنقية، التي كانت تمثل مشكلة كبيرة للعصابات قبل ذلك، وفي مقابل أن تحصل الشركة على نسبة من الذهب المستخرج.
لم يقتنع المنقبون بتلك الخطة الجديدة، فمعظم المواقع التي تم طرح مزايدات عليها لا تحتوي على كميات كبيرة من الذهب، ومن ثم رأوا أن الهدف هو إشغالهم بتلك المواقع عن غيرها من المكتظة بالمادة الخام التي تسعى الشركة التابعة للجيش للسيطرة عليها، وهنا جاء الرفض والإصرار على استكمال التنقيب غير القانوني.
خلال السنوات الماضية زاد نشاط عصابات التنقيب غير القانونية، ودعمت حضورها في الصحراء بعناصر مسلحة استعانت بها من ليبيا والسودان لحمايتها في مواجهة الجيش من جانب وعصابات السلب من جانب آخر، وفي الوقت نفسه منيت شركة “شلاتين” بخسائر كبيرة، وهنا كان لا بد من تدخل حازم من القوات المسلحة.
حرب الذهب بين الجيش والعصابات
الوضعية الصعبة للاقتصاد المصري دفعت النظام للبحث عن أي مصادر للحصول على ثروات يمكن من خلالها تقليل العجز الذي يعاني منه، ويأتي الذهب على رأس تلك الثروات التي يمكن أن تسد ثغرة من ثغور هذا العجز، لذا كان لا بد من السيطرة على تلك الكنوز ولو كان الثمن الدخول في حرب مع عصابات التنقيب هناك.
منذ 2017 بدأت عصابات التنقيب في الاستعانة بمسلحين لحمايتها وحماية نشاطها وأفرادها، ومن هنا بدأ ظهور عصابات مسلحة في هذا الشريط الصحراوي الممتد من أسوان حتى البحر الأحمر، بعضهم جاء من إفريقيا، وكان من أبرز العصابات المسلحة هناك عصابتي “أبو صالح” و”راشد”.
بعض التشكيلات المسلحة القادمة تحصل على أجر ثابت نظير حمايتها لعصابات التنقيب، فيما يحصل آخرون على نسبة من الذهب المستخرج، شريطة ألا تبخل تلك التشكيلات في الدفاع عن المنقبين مهما كلفهم الأمر، وهو ما دفعهم لاستيراد مسلحين من الخارج.
دخلت القوات المسلحة والشرطة في مواجهات دامية مع العصابتين (أبو صالح وراشد) أسفرت عن سقوط العشرات من القتلى في صفوفهما، بجانب مقتل بعض الضباط وأفراد الأمن من المؤسستين العسكرية والشرطية، ورغم التعتيم على أرقام الضحايا، فإنه بين والحين والآخر كان يتم الكشف عن بعض أسماء القتلى آخرها النقيب محمد عبد الفتاح كيلاني معاون مباحث مركز إدفو بأسوان، الذي قتل في 25 يناير/كانون الثاني 2023 إثر اشتباكات مع عناصر بعض تلك العصابات، حسبما ذكرت وسائل إعلام محلية.
نجحت القوات المسلحة في القضاء على العصابتين بشكل كبير، لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، حيث انبثق عنهما عشرات العصابات الفرعية الأخرى، التي حذت نفس الحذو، وسارت في طريق حماية المنقبين، وهو ما مثل حملًا كبيرًا على الجهاز الأمني المصري الذي بات اليوم أمام تشكيلات مسلحة عدة.
عامًا تلو الآخر تحولت الصحراء الشرقية فيما يتعلق بكثرة العصابات المسلحة بها، إلى ما يشبه الصحراء الغربية وشبه جزيرة سيناء، حيث الكيانات المسلحة والمعارك الضارية مع الجيش والشرطة هناك، الأمر الذي ينذر بإطالة أمد تلك المواجهات، وسط توقعات بأن تكون حرب الذهب واحدة من أطول الحروب وأشرسها بين الجيش والعصابات المسلحة.