مباشرة إثر طرد جنودها من مالي منتصف سنة 2021، وجّهت باريس أنظارها إلى النيجر لتكون نقطة الارتكاز الرئيسية للإستراتيجية الفرنسية الجديدة في المنطقة، كما نقلت الثقل العسكري للقيادة الفرنسية في الساحل من العاصمة التشادية نجامينا إلى عاصمة النيجر ميامي.
يعود اختيار فرنسا في جزء منه إلى قاعدة نيامي الجوية التي تعتبر ذات أهمية إستراتيجية كبرى لأنها تستضيف طائرات دون طيار مسؤولة عن جمع المعلومات الاستخباراتية في جميع أنحاء منطقة الساحل والصحراء، كما يعود اختيار فرنسا للنيجر التي ظلت مستعمرة فرنسية لمدة 60 عامًا، حتى نالت استقلالها عام 1960، إلى أسباب أخرى من بينها العلاقة الكبيرة التي تربط قيادة البلدين.
في الأثناء، ما فتئ رئيس النيجر محمد بازوم يعرب عن امتنانه لفرنسا، مشيدًا “بتضحياتها” في دول الساحل، مؤكدًا أن فرنسا هي الدولة التي تقدم كبرى التضحيات، رغم المظاهرات الشعبية المناهضة لفرنسا في بلاده.
لكن كالعادة، لا تمر فترة قصيرة إلا وتتلقى فرنسا ضربة موجعة جديدة في القارة الإفريقية، إذ تم عزل حليفها محمد بازوم وإبعاده عن رأس السلطة في النيجر من مجموعة من العسكريين، ما يؤكد أن النفوذ الفرنسي والغربي ككل في المنطقة آخذ في الانحسار.
انقلاب النيجر
في أحدث الانقلابات في إفريقيا، أعلنت مجموعة جنود من الحرس الرئاسي في النيجر أمس الأربعاء – عبر التليفزيون الوطني – عزل الرئيس محمد بازوم وإغلاق الحدود وفرض حظر التجوال، وتعتبر النيجر ثالث دولة في منطقة الساحل تشهد انقلابًا منذ عام 2020، وذلك بعد مالي وبوركينا فاسو.
وعزا الرائد أمادو عبد الرحمن وهو محاط بـ9 عسكريين آخرين يرتدون الزي العسكري انقلابهم على السلطة إلى “استمرار تدهور الوضع الأمني وسوء الإدارة الاقتصاديّة والاجتماعيّة” في البلاد، مؤكدًا تمسّك المجلس بـ”احترام كلّ الالتزامات التي تعهّدتها النيجر”.
إثر هذا الانقلاب، تم حجز الرئيس بازوم في القصر الرئاسي وتعليق كلّ المؤسّسات المنبثقة من الجمهوريّة السابعة، كما تم تكليف الأمناء العامّين للوزارات بمسؤولية تصريف الأعمال، وتكليف قوّات الدفاع والأمن بإدارة الوضع في الطلب، وتمت مطالبة جميع الشركاء الخارجيّين عدم التدخل.
تؤكد هذه الانقلابات المتتالية ضد حلفاء باريس وتوالي المظاهرات ضدها، انحسار الدور الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء
تشير تقارير إعلامية إلى وقوف قائد الحرس الرئاسي الجنرال عمر تشياني – الذي يتولى منصبه منذ 10 سنوات – وراء احتجاز الرئيس محمد بازوم، وكان هذا الأخير يعتزم إقالة تشياني من منصبه ضمن سلسلة من الإقالات.
وإلى الآن الوضع غامض في النيجر، فالرئيس ما زال متمسكًا بمنصبه، إذ قال بازوم في رسالة عبر خدمة “إكس” (تويتر سابقًا)، “ستُصان المكتسبات التي حققت بعد كفاح طويل. كل أبناء النيجر المحبين للديموقراطية والحرية سيحرصون على ذلك”.
يُذكر أن النيجر، سبق أن شهدت أربعة انقلابات منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1960، فضلًا عن العديد من محاولات الانقلاب، وكان آخر انقلاب شهدته البلاد في فبراير/شباط 2010، الذي أسفر عن الإطاحة بالرئيس آنذاك مامادو تانجا.
خسارة حليف “موثوق”
يعد الرئيس المنقلب عليه محمد بازوم، الذي وصل السلطة سنة 2021، حليفًا وثيقًا لفرنسا، كان بازوم، الوحيد بين زعماء الساحل الذي شارك في قمة الساحل الافتراضية من باريس، التي عُقدت في يوليو/تموز 2021، جنبًا إلى جنب مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، فيما شارك باقي رؤساء موريتانيا وتشاد ومالي بوركينا فاسو عبر الفيديو.
ويحتل هذا البلد الإفريقي موقعًا خاصًا في إستراتيجية الأمن القومي الفرنسي منذ سنوات عديدة، إذ تستحوذ شركة “أريفا” الفرنسية – التي تعمل في مجال الطاقة النووية واستخراج اليورانيوم وصنع المفاعلات النووية – منذ سبعينيات القرن الماضي على استخراج يورانيوم النيجر الذي يمد فرنسا بـ35% من احتياجاتها من الطاقة النووية التي تساهم بدورها في 75% من الطاقة الكهربائية الفرنسية.
سبق أن طالب الرئيس النيجري الأسبق حماني ديوري بزيادة حصة دولة النيجر من عائدات اليورانيوم التي تستخرجها الشركات الفرنسية من بلاده، إلا أن باريس دبرت ضده انقلابًا عسكريًا في أبريل/نيسان 1974 قاده الجنرال سيني كونتشي.
#النيجر
اذا اكتملت العملية الانقلابية بنجاح وتم عزل محمد بزوم فتلك ضربة موجعة للمجرمة #فرنسا ! #انقلاب_النيجر #النيجر_حرة_فرنسا_برا #افريقيا_حرة_فرنسا_برا pic.twitter.com/VZhFZhKds9
— Jebren جبرين (@jebren_) July 26, 2023
كما أطاحت باريس بالرئيس ممادو طانجا في فبراير/شباط 2010، بعد أن تجرأ على إعادة التفاوض مع أريفا بشأن اليورانيوم، وفتح الاستثمار أمام الشركات الأجنبية ومنح عدة تراخيص لشركات صينية وهندية وكندية.
نفهم من هنا أهمية النيجر الكبيرة لفرنسا، ما يعني أن الإطاحة بحليفها في الحكم، يعتبر ضربة موجعة لها، خاصة أنها تأتي ضمن سلسلة ضربات سابقة تلقتها باريس في القارة الإفريقية، خاصة في غربها.
وكانت باريس تدعم بازوم بقوة للبقاء في السلطة لفترة أطول، فهو الصديق المفضل للرئيس السابق محمد إيسوفو المهندس والإطار السابق في “أريفا النيجر”، كما أنه الشخص المناسب لحماية مصالح فرنسا في النيجر الغنية بالثروات.
انحسار الدور الفرنسي
لم تكن النيجر أول دولة تشهد انقلابًا على حليف باريس في المنطقة، فقد سبقتها مالي وبوركينا فاسو كما بيّنا في البداية، ونتيجة هذه الانقلابات أعلنت مالي إلغاء الاتفاقيات الدفاعية الموقعة مع فرنسا وشركائها الأوروبيين، وأجبرت فرنسا على سحب قواتها من هناك بعد 9 سنوات من الوجود في هذا البلد الإفريقي.
نفس الأمر حصل في بوركينا فاسو، إذ قامت السلطات العسكرية الجديدة بطرد القوات الفرنسية من أراضيها وأوقفت التعاون مع باريس، ما أربك عمل القوات الفرنسية في المنطقة، ذلك أن بوركينا فاسو تحتضن على أراضيها غرفة عمليات قوات عملية “سابر” التي يتراوح تعدادها ما بين 350 و400 من القوات الخاصة، وهي المنفّذ الرئيسي لأغلب الضربات النوعية الفرنسية ضد قيادات الجماعات المسلحة بالمنطقة.
رفض الوجود الفرنسي في مالي وبوركينا فاسو لم يكن رسميًّا فقط، فقد كان شعبيًّا أيضًا، إذ خرجت المظاهرات الشعبية المنددة بالوجود العسكري الفرنسي هناك، وهي المرة الأولى التي يتفق فيه الشعب والقيادة على مسألة ما في البُلدان الإفريقية، كما شهدت التشاد والنيجر في وقت سابق مظاهرات مماثلة.
خلال هذه المظاهرات، تم رفع شعارات منددة بفرنسا و”سياساتها الاستعمارية” في منطقة الساحل والصحراء، كما أحرقت فيها علم فرنسا وقطعت صور الرئيس إيمانويل ماكرون، ما يدلّ على الغضب الشعبي الكبير تجاه باريس.
يعود هذا التراجع الكبير في النفوذ الغربي في إفريقيا في جزء منه إلى بروز قوى جديدة لم تتلطخ بدماء الأفارقة
تؤكد هذه الانقلابات المتتالية ضدّ حلفاء باريس وتوالي المظاهرات ضدّها، انحسار الدور الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء، ذلك أن فرنسا لم تفِ بوعودها، فرغم مرور سنوات على عودتها العسكرية للمنطقة، لم تتمكن بعد من القضاء على مجموعات صغيرة من المسلحين، بل العكس ما حصل.
فضلًا عن ذلك، استغلت فرنسا ما تعتبره حربًا على الإرهاب للتحكم في القرار السيادي لدول المنطقة ومواصلة نهب ثرواتها الطبيعية، فهي المسيطر الأبرز على ثروات دول المنطقة بما فيها اليورانيوم والنفط والذهب.
تراجع النفوذ الغربي
تراجع النفوذ في إفريقيا لا يقتصر على فرنسا فقط، وإنما مسّ المعسكر الغربي ككل، فالقادة الموالون للغرب يتضاءل عددهم شيئًا فشيئًا في القارة الإفريقية، ما يهدّد نفوذهم هناك.
بعد حوالي 15 ساعة من #انقلاب_النيجر .. العسكر يعلنون رسمياً عزل الرئيس #محمد_بازوم وإغلاق الحدود وإعلان الطوارئ في #النيجر pic.twitter.com/2JLxWmiquR
— أيمن سالم (@ayman0salem) July 26, 2023
يعود هذا التراجع الكبير في النفوذ الغربي بإفريقيا في جزء منه إلى بروز قوى جديدة لم تتلطخ بدماء الأفارقة واشتداد المنافسة على النفوذ هناك، فضلًا عن بروز جيل إفريقي جديد متحرر إلى حد كبير لا ينظر إلى الغرب إلا باعتباره مستعمرًا لا يضع مصالح الأفارقة ضمن قائمة الاهتمامات.
إلى جانب ذلك، أثر تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية للشعوب الإفريقية بعد جائحة كورونا، مع انسداد الآفاق في مكانة الغرب، إذ يرى الأفارقة أن الدول الغربية هي السبب الأبرز وراء أزمات دولهم.
من المرتقب أن يعدّل المعسكر الغربي برامجه وإستراتيجيته التي تمسّ الدول الإفريقية لضمان عدم انهياره هناك وفقدان مكانته كليًا في هذه المنطقة الحيوية والغنية بالثروات، فالمنافسة على أشدها والوضع الآن ليس كما كان عليه قبل نصف قرن.