فتح تصويت الكنيست الإسرائيلي “البرلمان” على تشريع قضائي يطلق عليه “انعدام المعقولية”، الباب أمام تفنيد ادّعاء الاحتلال الديمقراطية التي لطالما تغنّى بها منذ تأسيس كيانه في المنطقة عام 1948.
جاء اعتماد القانون بالقراءة الثانية والثالثة (النهائية) مخالفًا لتقديرات الكثيرين، بأن الائتلاف الحكومي برئاسة بنيامين نتنياهو قد يتراجع في اللحظات الأخيرة ويقبل ببعض التسويات التي من شأنها أن توقف تمريره، لا سيما مع موقف الولايات المتحدة الذي عارض القانون.
على مدى الأشهر الستة الماضية، خرج مئات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين إلى شوارع تل أبيب ومدن رئيسية أخرى في نهاية كل أسبوع، للاحتجاج على هذا المشروع وغيره من مشاريع خطة “الإصلاح القضائي” كما يصفه الائتلاف الحكومي، في الوقت الذي يصفه المعارضون بـ”الانقلاب القضائي”.
يقف خلف صياغة قانون بند “المعقولية” عضو الكنيست عن الائتلاف الحاكم، سيمشا روثمان، وهو مقترح مررته لجنة الدستور والقانون والعدالة بالكنيست مطلع شهر يوليو/ تموز الجاري، بعد 9 جلسات تم خلالها إعداد النص النهائي لهذا التعديل الجدلي.
بموجب هذا القانون، سنشهد خلال الفترة القليلة المقبلة عودة بعض الشخصيات الإسرائيلية السياسية التي خرجت من المشهد، بسبب فضائح فساد أو قضايا تمسّ بالشرف، إلى الحكم، بعدما ساهم تمرير هذا التشريع في حمايتهم أو الاعتراض عليهم من قبل القضاء الإسرائيلي.
ما هو بند “المعقولية”؟
وقبل الشروع في الحديث عن الأسباب والجوانب التي ستتأثر بها دولة الاحتلال خلال الفترة المقبلة، لا سيما أن القرار سيضرب “فزاعة الديمقراطية” التي لطالما تغنّى بها القادة الإسرائيليون على مدار أكثر من 70 عامًا على تأسيس كيانهم في أرض فلسطين.
“اختبار المعقولية” قانون يتيح للمحكمة الإسرائيلية مراقبة ومراجعة القرارات الحكومية، وإبطال مفعول بعضها في حال لم تتوافق مع الصالح العام، إذ ينص القانون على منح السلطة القضائية الصلاحية القانونية والإدارية لرفض القرارات الحكومية، سواء فيما يتعلق بالتعيينات في السلك العام من الوزارات وغيرها، أو قرارات عامة أخرى تتعارض مع الصالح العام ولا تعطي المصلحة العامة الوزن المناسب.
وجاء أصل التشريع من القضاء البريطاني، إذ يعطي القانون صلاحية واسعة للمحاكم من أجل التدخل في التعيينات الحكومية وغيرها من القرارات، التي يُعتقد أنها تمسّ بالحقوق الفردية المحمية، أما على صعيد القضاء الإسرائيلي فاستخدم القانون البريطاني من حقبة الانتداب، وتطور على مدار السنوات ليصبح من أقوى طرق إبطال صلاحية قرارات حكومية تتعارض مع الصالح العام، وخاصة تعيين شخصيات متهمة بأفعال جنائية في السلك العام.
وفي السابق، اُستخدم قانون “اختبار المعقولية” في رفض تعيين وزراء ومسؤولين أمنيين، بينهم مسؤول الشاباك الأسبق يوسي غينوسار، الذي رُفض قرار تعيينه مديرًا عامًّا لوزارة البناء والإسكان عام 1993، بعد اتهامه بقضية إعدام منفذي عملية الحافلة 300، إذ ادّعى مقدمو الالتماس أن تعيينه “سيزعزع ثقة الجمهور بالسلطة الحاكمة”.
وفي العام نفسه، أصدرت المحكمة العليا قرارًا ببطلان تعيين أرييه درعي وزيرًا في حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين بعد أن قُدمت بحقه لائحة اتهام، علاوة على ذلك فإن عدة دول تطبّق “عقيدة المعقولية” في نظامها القضائي، بما في ذلك بريطانيا وكندا وأستراليا.
ما هي التعديلات الجديدة؟
بعد التصويت على القرار الأخير، فإن ما جرى يمسّ بتعديل قانون أساس “القضاء”، خاصة البند المتعلق بـ”أساس المعقولية”، إذ يتضمن التعديل “بغض النظر عمّا هو منصوص عليه بقانون “أساس: القضاء”، لن تكون هناك أي صلاحية لأي شخص لديه سلطة قضائية وفقًا للقانون، بما في ذلك المحكمة العليا، ومناقشة حجّة المعقولية لإلغاء القرارات الصادرة عن رئيس الوزراء، وعن الحكومة، وعن الوزراء”.
ووفق التعديل على قانون “المعقولية” الذي يحدّ من صلاحيات المحكمة العليا، لن يتمكن القضاة من إصدار أي أمر أو قرار في المسائل المتعلقة بقرارات الحكومة والائتلاف، ويشمل ذلك التعيينات الحكومية أو الطرد والفصل من المناصب.
وقبيل تعديل بند “المعقولية” الذي يعتبر منظومة للضوابط والرقابة والتوازنات، كان البند يمنح المحاكم بـ”إسرائيل”، بما في ذلك المحكمة العليا، صلاحيات إلغاء قرارات الحكومة وأذرعها التنفيذية، في حال تبيّن لها أن القرارات “غير معقولة”.
ويهدف التعديل رقم 3 على قانون القضاة -المعروف بـ”فقرة التغلب”، والذي صودق عليه بالقراءة الأولى- إلى تقويض نفوذ المحكمة العليا وسحب صلاحياتها، عبر السماح للكنيست بالالتفاف على قراراتها وعدم تنفيذها في حال توفرت أغلبية 61 من أعضاء الكنيست من أصل 120.
كما تنص “فقرة التغلب” على تعديل البند 8 من القانون الأساسي الذي يحمل اسم “كرامة الإنسان وحريته”، والبند 4 من قانون “حرية العمل”، ومنع المحكمة العليا من إلغاء أي تعديلات على قانون “الحكومة” الذي يحظر عزل رئيس الوزراء من منصبه، أو الإعلان عن تعذّر القيام بمهامه.
ليس هذا فحسب، بل يهدف تعديل “فقرة التغلب” إلى التأثير على مجريات محاكمة نتنياهو بتهم فساد، وعدم إقالته من منصبه خلال محاكمته، وكذلك إعادة تعيين رئيس حزب شاس، أرييه درعي، وزيرًا للداخلية وإلغاء قرار سابق للمحكمة بإقالته.
كما سيقوي تعديل بند “فقرة التغلب” سلطة الكنيست، حيث سيتمكن بموجبه من رفض تفسيرات المحكمة العليا للقانون الأساسي، والتغلب على حكم المحكمة العليا الذي سيبطل القانون.
أما تعديل البند 4 من قانون القضاء، فيهدف إلى منح الحكومة صلاحيات واسعة في تشكيل تركيبة لجنة تعيين القضاء، ما يعني أن الحكومة ستكون صاحبة القول الفصل في تعيين القضاة بجهاز المحاكم الإسرائيلية، بما في ذلك المحكمة العليا.
كيف يدمّر القانون “ديمقراطية إسرائيل”؟
يؤكد هذا التشريع على أن المزاعم الإسرائيلية بشأن الديمقراطية ما هي إلا شعارات يتباهى بها الجيل الحالي من الساسة في الاحتلال، إذ إن الإصرار على تمرير القانون جاء من أجل حماية الائتلاف الحكومي الحالي من الانهيار، في ضوء التهديدات التي قامت بها الأحزاب اليمينية المشاركة في الحكومة.
وقبل التصويت على القرار بالقراءتين الثانية والثالثة، لوّح كل من وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير أو أرييه درعي الذي أقاله نتنياهو سابقاً من الحكومة، بسبب رفض تعيينه من القضاء الإسرائيلي على خلفية تهم تمسّ بالشرف والأمانة؛ بإمكانية إسقاط الائتلاف الحكومي.
وبالتالي، يعكس تمرير هذا القانون بدرجة أساسية تحكم الأحزاب اليمينية بالمشهد السياسي الإسرائيلي، لا سيما أن غالبية الإسرائيليين يرفضون التعديلات وفقًا لاستطلاع رأي نشره المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في فبراير/ شباط الماضي، حيث يؤيد 72% التوصل إلى حل وسط، و66% يؤيدون إبقاء القدرة على إلغاء القوانين بيد المحكمة العليا، و63% يدعمون بقاء الطريقة الحالية في تعيين القضاة.
ما سبق يعكس أن هذه الأحزاب لا تبحث إلا عن مصالحها السياسية ومكاسبها الخاصة فقط، بعيدًا عن الصورة النمطية التي لطالما كان الاحتلال يروّج لها على أنه دولة ديمقراطية، إلا أن السنوات الأخيرة أثبتت عكس هذا الأمر تمامًا، رغم الذهاب لصندوق الاقتراع 5 مرات خلال فترة قياسية.
وبات مصطلح “الحرب الأهلية” الأكثر رواجًا في الفترة الأخيرة من قبل الساسة الإسرائيليين، في تحذيرهم للتداعيات المترتبة عن التعديلات القضائية، وهو ما يعني أن أنصار اليمين والمعارضة من الوارد أن يتعاركوا بالسلاح في الشوارع في ضوء حالة الاستقطاب.
ومن أحد أوجُه تمزيق هذا القانون للمزاعم الإسرائيلية بالديمقراطية، حالة الانسحابات التي تقوم بها الشركات التكنولوجية العالمية، وتلويح أخرى بالانسحاب ووقف الاستثمارات وحالة التراجع الكبير في العملة مقابل العملات الأجنبية الأخرى نتيجة لهذه التغييرات.
وتعكس هذه الحالة عدم ثقة النظام العالمي والشركات الكبرى في النظام السياسي الإسرائيلي، وأن ما يحصل هو بداية للخراب الثالث كما تروج الجماعات الإسرائيلية المعارضة، التي تتهم نتنياهو بأنه يقوّض كيان الاحتلال نحو المصير المحتوم المتمثل في الانهيار.