الخط الكوفي
اندفع العرب والمسلمون في بداية الدولة الإسلامية لدراسة علوم الفلك ثم الرياضيات، حتى يدركوا مواعيد الصلاة والصيام ومقدار الزكاة بدقة، إذ حرك الدين والرغبة في إقامة شعائره والحفاظ عليه عقل العرب، ليخرجوا من قمقم الصحراء ويبنوا علومًا ومعارف كثيرة، فقد قرأ العرب القرآن، وكان لزامًا بعدها أن يدونوا ما علموا، وتلك كانت البذرة الأولى لولادة الخط العربي بكل أنواعه وعلومه.
بدأ الاهتمام بالخط لحظة كتابة الوحي الكريم، بخطّ بسيط وأدوات أبسط، وبعد تدوين القرآن بأمر أبو بكر الصديق ثم نسخه بأمر عثمان بن عفان وتسميته بالمصحف العثماني، بدأ الخطاطون يتنافسون لكتابة المصحف بأفضل الأشكال وأجود الطرق، ونُسخ حينها باستخدام ما عُرف بالخط المكي والمدني أولًا، ثم سمّاهما المتأخرون بالخطوط الحجازية، ثم تطور الخط تباعًا وسُمّي الشكل الأحدث منه بالخط الكوفي لاحقًا، وكانت له السيادة في نسخ القرآن في القرون الثلاثة الهجرية الأولى.
من النقش إلى الاحتراف
مع بداية الدولة الأموية تخصّص بعض الكتّاب في كتابة المصحف فقط، فأصبحت الكتابة حرفة، لتظهر بعدها مدارس خط تعنى بالنواحي الجمالية للكتابة، فبدأ الخط ينتشر في الأمصار الإسلامية مع انتشار الإسلام وإقبال الناس على تعلُّم القرآن.
تطور الخط في العراق بشكل كبير وأصبح أكثر وضوحًا، فاشتهرت به الكوفة أكثر من غيرها، ومن هنا لحق اسم الخط الكوفي بخط كتابة المصاحف (الخط الحجازي)، وهو الخط الذي نتتبّع تحوله إلى فن في هذا المقال.
نُسب هذا النوع من الخطوط إلى مدينة الكوفة لأن المؤرّخين العرب اعتادوا أن ينسبوا الخطوط إلى الأقاليم التي تزدهر بها، رغم أن الخطوط المستقيمة والزوايا الحادة طبيعة أساسية في الخطوط الأولى التي استخدمها الخطاطون الأوائل في نسخ المصحف في عهد أبو بكر وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، حتى قبل تأسيس الكوفة وعنايتها بالخط العربي.
من الاحتراف إلى الفن
في نسخ القرآن الأولى، كان الخط الكوفي على شكل واحد تقريبًا ولم تمسسه الظواهر الفنية، وكان خطًّا بسيطًا، لم تستخدَم به النقاط بالشكل الذي تستخدَم به حاليًّا، ولم يكن به زينة أو زخارف، وكان يمكن للكلمة أن يقطع كل جزء منها في سطر.
في العصر العباسي تطور الخط الكوفي تطورًا كبيرًا، فما أن انتهى القرن الثالث حتى كانت أشكال الحروف العربية قد اكتملت، وأضيفت النقاط والحركات، وتنوعت أشكاله واستخداماته.
وفقًا لكتاب “موسوعة الخط العربي الكوفي”، فإن هذه الأنواع الجديدة للخط الكوفي امتازت بتركيزها على الزخارف للتزيين، أبرزها الخط الكوفي المورّق، إذ كان الخطاط يضيف زخارف كأوراق الشجر على رؤوس الأحرف، واُستحدث في مصر وانتقل منها إلى شرق العالم العربي، وأقدم لوحة محفوظة بهذا الخط تعود إلى القرن الثاني الهجري.
كما ظهر الكوفي المزهّر أو المخمّل، حيث يرسم على أرضية مزخرفة نباتية تشغل الفراغات بين الحروف، وبدأ في مصر أيضًا وبلغ أوجه في عهد الدولة الفاطمية وزُيّنت فيه كثير من الجوامع، وأشهر الأماكن المزينة به هي جامع الحاكمي في مصر.
شهد القرن الثالث الهجري المرحلة الأهم في تطور الخط العربي، وجاء القرن الذي يليه ليحصد الجهود التي كانت في العقود الأولى، وكان ذروة الازدهار الحضاري
من أنواعه الفنية أيضًا الكوفي المضفور أو المترابط، حيث يقوم الكاتب بتضفير حروف الكلمة الواحدة أو كلمتَين متجاورتَين، وأحيانًا يصبح من الصعب قراءة الكلمة لشدة تشابكها، وأشهر الآثار التي خلّدت هذا النمط من الخط تعود للقرن الخامس الهجري، وهي موجودة في إيران.
أما أبرز أشكال الخط الكوفي الفنية فربما يكون الخط الهندسي الذي يتخذ العمل فيه شكلًا مربعًا أو خماسيًّا أو سداسيًّا ويكون حاد الزوايا، والخط زخرفي بحت ربما يصعب قراءته من شدة تلاعب الخطّاط بالأحرف والكلمات حتى يستقيم الشكل الهندسي معه، ويحمل مسجد السلطان القلاوون في مصر أبرز الأعمال بهذا الشكل، لكنه شائع في جوامع إيران والعراق أيضًا.
فلماذا أقدم الخطاطون العرب على تزيين الخط والتركيز على جوانب الجمال فيه؟ للإجابة هذا السؤال، نرصد البيئة التي تشكلت بها هذه الأنواع من الخط الكوفي، والأفكار التي حملها الخطاطون والدوافع التي حركتهم، وغيرها أيضًا من الأسباب التي أوردها المؤرخون والمفكرون دارسو تاريخ الخط العربي.
بدايات الإبداع
بدأت هذه الخطوط ضمن بيئة ثقافية وفنية تشهد تطورًا كبيرًا في البلاد الإسلامية، وكانت حركة العمران آخذة بالتصاعد، والرخاء بدأ يعمّ البلاد، وكلها عوامل فتحت الأبواب أمام الإبداع والاختراع، وشهد القرن الثالث الهجري المرحلة الأهم في تطور الخط العربي، وجاء القرن الذي يليه ليحصد الجهود التي كانت في العقود الأولى، وكان ذروة الازدهار الحضاري.
احتضن آخر القرن الثالث الهجري عددًا من الخطاطين الذين كانوا أعلامًا في فن الخط، وأصبحت الكتابة حرفة لبعض العائلات تتوارثها كابرًا عن كابر، وكان الوزير والخطاط ابن مقلة (توفي 328هـ) أول من تصدر الخطاطين لإصلاح الخط الكوفي، وتحويل صورته اليابسة لشكل أكثر مرونة في العصر العباسي.
وعن دافع الخطاطين للإبداع، نستحضر قول المفكر الإسلامي علي عزت بيغوفيتش، إنه بصرف النظر عن وعي الفنان أو رغبته وأفكاره، فإن الفن رسالة مقدسة، واللوحات الفنية هي بشكل ما نوع من أنواع الشعائر الدينية المرسومة على قماش، والفن هو أخيرًا ابن الدين.
الخط لا يقلد نموذجًا ولا يستلهم من آخر بل يستمد جماله من ذاته، ولا يحاكي الطبيعة بل يقوم على التجريد والاستطراد
هذا التفسير لعلاقة الفن بالدين يمكن أن يوضّح منشأ الكثير من الفنون الإسلامية في الحضارة الوليدة، والإبداع الذي خلقه الفنانون منطلقين من تقديسهم للنص القرآني وكتابته والحفاظ عليه، فهذه الحضارة الجديدة ولّدت جيلًا جديدًا، مختلفًا بتفكير فريد، انطلق من هذه الحضارة لبناء عالم جديد، وكان فنانوها كذلك ينطلقون من مبادئها لبناء عوالمهم، فكان نتاجهم فنًّا مختلفًا بخصائص فريدة.
وفي التنقل بين الكتب التي درست الخط الكوفي لسبر أغواره ومعرفة أسباب تطوره واتخاذه أشكال فنية تزيينية في تلك الحقبة، نلحظ عدة أسباب كررها المؤرخون، حيث وجد كثير منهم أن تشريعات الإسلام التي منعت تجسيد الحيوان والإنسان وجّهت الفنانين في القرون الأولى نحو الخط والنقش والزخارف الهندسية، لسكب فنهم ومواهبهم بطريقة حرة جديدة ترضي تطلعاتهم ضمن قناعاتهم الدينية.
وفي كتاب “اللغة العربية من النقوش إلى الكتاب المخطوط”، درج الكاتب على رأي مشابه، فقال إن الإسلام جاء بفلسفة مختلفة عن الثقافات الأخرى أدّت إلى ظهور المدرسة الفنية في الخط العربي، وساهمت هذه الفلسفة في جعل الخط أداة فنية تعبيرية لا حدود للأبداع فيها.
الخط الكوفي، بأنواعه التزيينية خصوصًا، يراعي مسألة الذوق والابتكار أكثر ممّا يلتزم بالقواعد الخطية
ويضيف أن للخط العربي جمالًا مطلقًا لا مرجعية له، على عكس الفنون الأخرى التي تعتمد القدرة على محاكاة الأصل لقياس الجودة والجمال كالرسم والنحت، فالخط لا يقلد نموذجًا ولا يستلهم من آخر بل يستمد جماله من ذاته، ولا يحاكي الطبيعة بل يقوم على التجريد والاستطراد.
هذا بالنسبة إلى الخط العربي عامة، وإذا ما سلطنا الضوء على الخط الكوفي، فإننا نرى الكاتب يشير إلى صفة الخط الأساسية المعتمدة على التوازن، التي تجعله من أرحب الخطوط العربية وأكثرها طوع يد الخطاط في التراكيب الزخرفية لا يحده إلا خياله، فالخط الكوفي، بأنواعه التزيينية خصوصًا، يراعي مسألة الذوق والابتكار أكثر ممّا يلتزم بالقواعد الخطية، وفي الوقت ذاته إن الاتزان والتوازن بين حروفه وفراغاته لهما كبير الأثر في إخراجه بشكل جميل.
ومن خصائص الكوفي التي ساعدت على تحويله إلى فن أيضًا الخطوط العمودية والأفقية التي ألهمت الفنان بالزخرفة، غير عابئ بما تفرضه أصول الخط، بل كان همّه إرضاء الذوق الفني، فأصبح الخط ينتسب إلى الرسم والفن أكثر من انتسابه إلى الخط بقواعده.
كان لاستخدام الخط الكوفي في العمران الهندسي دور أساسي في تطوير كتابته ونشوء أنواعه، وكان الخط الكوفي سيد الفن الكتابي في العصور الإسلامية الأولى، حتى جاء من ينازعه في العصر المملوكي في مصر
كما ما أورده الدكتور إبراهيم جمعة في كتابه “دراسة في تطور الكتابات الكوفية”، أن البنية الأساسية للحرف العربي واعتمادها على الخط والدائرة، خلقت بيئة خصبة مرنة يطوعها الفنان في الزخرفة.
ويعتبر الدكتور إبراهيم أن الخط الكوفي صُنّف وتطور كذلك بناء على استخداماته، فكان هناك خط خاص للتزيين هو الخط الكوفي التذكاري، وهو خط ثقيل يابس، اُستخدم في زخرفة الجدران في المساجد والمدارس والقصور لقرون خمسة كاملة.
وقد كان لاستخدام الخط الكوفي في العمران الهندسي دور أساسي في تطوير كتابته ونشوء أنواعه، وكان الخط الكوفي سيد الفن الكتابي في العصور الإسلامية الأولى، حتى جاء من ينازعه في العصر المملوكي في مصر.
أفول نجم وظهور آخر
تطوير الخط العربي لم يقتصر على الكوفي، فقد ظهرت خطوط أخرى معه كالثلت الذي نشأ عنه النسخ إضافة إلى الخط الديواني وغيره، ولعبت هذه الخطوط دورًا في تنحية الخط الكوفي نظرًا إلى صعوبة قراءته وكتابته مقارنة بها.
وما أن جاء القرن الـ 13 ميلادي حتى توارى الخط الكوفي عن كتابة المصاحف والكتابات اليومية، وحلَّ محله الثلث المملوكي في مصر وخط النسخ في بلاد الشام وشمال العراق وآسيا وإيران، فيما اتجه العثمانيون إلى استخدام الرقعة.
وفي هذا الصدد سألنا الخطاطة السورية أسيل كوجان، وهي مختصة في الكوفي والرقعة، إذ قالت إن الخطوط الأخرى بمجملها منسوبة وليّنة وأسهل في الكتابة اليومية وأوضح للقراءة، لذلك انحسر الكوفي لأغراض فنية، كالنقش على البنيان والأضرحة والشواهد، أما على الورق فبقيَ يستخدم فقط في كتابة العناوين الصغيرة أو أسماء سور القرآن عند خطه.
كذلك صنف كثير من الخطاطين في العهد العثماني الكتابة في الخط الكوفي باعتبارها نوعًا من الرسم والفن أكثر من أنه خط للتدوين، خصوصًا نوعه الهندسي، فقد استخدمه الخلفاء في تزيين العملات والكتابة عليها حين صكها، وهي عوامل أيضًا ساهمت بجعل الكوفي خطًّا فنيًّا أكثر من أنه خط للكتابة والاستخدام اليومي، وأصبحت الكتابة به نوعًا من أنواع الفن والزخرفة.
خسر الخطاطون أماكنهم الرفيعة إلى دكاكين صغيرة بعد اختراع الطابعة وأفول مكانة الخط لدى السلاطين
وتضيف أسيل أن الاستقرار المادي الذي عاشه الخطاطون في كنف الدول الإسلامية والتقدم الحضاري والثقافي والفني، انعكس على حياة الخطاطين، فقد كانت لهم رواتب من الدولة تساعدهم على الإبداع والتفرغ للخط وفنونه وتطويره، على عكس الأوضاع الحالية، إذ لا يستطيع الخطاطين التفرغ للخط كمهنة، بل يمارسونه كهواية ويلجأون إلى أعمال أخرى تعينهم على أمور حياتهم، بسبب غياب أو ضعف الدعم الرسمي للخط والخطاطين.
تاريخيًّا تؤكد كل المصادر أن الخط كان حرفة وفنًّا يجلب الرفعة والمكانة للخطاط، ويقرّبه من بلاط السلطان ووجهاء المجتمع، وكلما أبدع الخطاط وأضاف إلى فن التخطيط زاد ذلك من حظوته الاجتماعية والسياسية، وبلغت هذه المهنة أوجها في عهد الدولة العثمانية، التي اعتنى سلاطينها بالخط والخطاطين وتدارسوا الخط وعلموه لأبنائهم.
لكن هذه المكانة تقهقرت وخسر الخطاطون أماكنهم الرفيعة إلى دكاكين صغيرة بعد اختراع الطابعة وأفول مكانة الخط لدى السلاطين، إضافة إلى ذلك لم يغادر الاستعمار الدول العربية إلا بعد تغيير جزء كبير من ثقافة السكان الأصليين، وغرس ثقافته في أروقة إداراتها ومدارسها فكان العزوف عن الخط وعلومه حتميًّا.
يتقدم الإيرانيون صفوف الخطاطين المهتمين بالكوفي كتابة وفنًّا، ويبرعون به دونًا عن غيرهم
كما كان تحويل الكتابة باللغة التركية من الأحرف العربية إلى اللاتينية ضربة قاسية كذلك للخط، فقد كانت الدولة العثمانية آنذاك حاضنة أساسية للخط العربي وتعليمه.
لعبت التكنولوجيا وتطورها كذلك دورًا في تهميش الخط العربي، إذ يقول الخطاط نور الدين خليفة في لقاء صحفي، إن المجتمع مع عصر التكنولوجيا أصبح يميل إلى العمل السريع دون فهم جمالية الخط العربي.
أما عن تحول الخط إلى لوحات فنية تكتَب وتعلَّق، فيقول الخطاط الإيراني محسن عبادي، المختص بكتابة الخط الكوفي، عن نشأتها، إن الكتابة بالكوفي لأغراض الزينة كانت تقتصر سابقًا في فن العمارة في القرون السابقة، ولم يكن الخط يكتب ليكون لوحات فنية.
ويعود الفضل بتحويلها إلى لوحات للخطاط محمد وحيد جزايري قبل أكثر من 3 عقود، وما يدفع الخطاطين اليوم لتعلُّم الكوفي والكتابة به في أيامنا هذه هي اللذة الروحية والمتعة الحسية التي يضفيها الخط إلى روح كاتبه، فتعلُّم الخط الكوفي هو بناء علاقة فنية بشيء قديم وجميل من أعماق التاريخ، خصوصًا أن للخط الكوفي قوة في الحرف دون غيره من الخطوط، وقد اختفى استخدامه من الحياة اليومية بشكل تام.
وفي أيامنا هذه تُخصَّص الكثير من المسابقات الفنية لدعم الخط العربي وتشجيع الخطاطين على العمل به وتطويره، ويتقدم الإيرانيون صفوف الخطاطين المهتمين بالكوفي كتابة وفنًّا، ويبرعون به دونًا عن غيرهم.