في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، استضافت مدينة سوتشي الروسية قمة روسيا-أفريقيا الأولى تحت شعار “من أجل السلام، الأمن والتنمية”، تحت إشراف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، رئيس الاتحاد الأفريقي آنذاك.
كانت هذه القمة أولى جهود روسيا الحقيقية للعودة إلى القارة الأفريقية، إذ اختارت موسكو تنظيم قمم تجمعها مع الأفارقة، استئناسًا بتجارب الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان وفرنسا وألمانيا، التي نظمت العديد من القمم الإقليمية التي جمعتها بالقادة الأفارقة.
كان انعقاد تلك القمة حدثًا فارقًا في تاريخ العلاقات الروسية الأفريقية، فهو حدث يعدّ الأول بمثل هذا المستوى في تاريخ العلاقات بين الطرفَين، وكانت موسكو تأمل أن يسمح لها ذلك بالعمل بأريحية في أفريقيا، ومدّ أذرعها هناك ورعاية مصالحها عن قرب.
مرّت 4 سنوات على تلك القمة، وعاد الأفارقة مجددًا إلى روسيا وهذه المرة إلى سان بطرسبرغ على دلتا نهر نيفا -عُرفت سابقًا باسم لينينغراد-، للقاء بوتين في قمة ثانية تجمع الروس بالقادة الأفارقة، لكن الحضور الدبلوماسي لم يكن كالمنتظر لأسباب عديدة سنشرحها لاحقًا.
قمة سان بطرسبرغ
تختَتم اليوم القمة الروسية الأفريقية، بعد يومَين من الانعقاد في مدينة سان بطرسبرغ -العاصمة الإمبراطورية الروسية السابقة-، وسط وعود روسية للقادة الأفارقة وأحاديث عن مساعٍ لتشكيل عالم متعدد الأقطاب، وسط تعقيدات دولية وأزمات تعاني منها أفريقيا، خاصة على مستوى الغذاء والأمن والطاقة.
عُقدت القمة على مدى يومَين إلى جانب منتدى اقتصادي وإنساني في سان بطرسبورغ، ثاني كبرى المدن الروسية، وتعوّل روسيا على نجاح هذه القمة الثانية في ضوء استراتيجية توسيع نفوذها في القارة الأفريقية.
وفي كلمة ترحيبية بالمشاركين، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن تعاون بلاده مع أفريقيا بلغ مستوى جديدًا في السنوات الأخيرة، مشيرًا إلى أن القارة السمراء أصبحت “أحد أقطاب العالم المتبلور متعدد الأقطاب”.
وأكّد بوتين أن بلاده تعتزم تطوير هذا التعاون لتحفيز التجارة والاستثمار، والعمل على حلّ مشاكل ملحّة في أفريقيا مثل مكافحة الفقر وضمان الأمن الغذائي ومواجهة التغير المناخي، ويتنزل ذلك ضمن خطط روسيا للتوسع في أفريقيا ومزاحمة القوى التقليدية هناك.
وعدت موسكو بإلغاء ديون الدول الأفريقية، وهو ما لم يحصل إلى الآن ويستبعد أن يحصل في الوقت القريب.
ضمن هذه المساعي، أعلن بوتين قدرة روسيا على تعويض صادرات الحبوب الأوكرانية إلى أفريقيا، مبديًا استعداده لتوريد الحبوب مجانًا إلى 6 دول بالقارة في غضون 3 أو 4 أشهر، وهذه الدول هي بوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية أفريقيا الوسطى وإريتريا، مضيفًا أنها ستحصل على ما يتراوح بين 25 و50 ألف طن لكل منها.
سبق أن تعهّد بوتين في مارس/ آذار الماضي بتزويد الدول الأفريقية بالحبوب مجانًا، في حال عدم تمديد اتفاق نقل الحبوب عبر موانئ البحر الأسود، وأعلن أن بلاده ستلغي ديونًا مستحقة على الدول الأفريقية بقيمة 20 مليار دولار.
يأمل بوتين من خلال هذه القمة تنمية نفوذ بلاده في أفريقيا والاستفادة من السوق الكبير هناك، إذ تضم القارة الأفريقية 1.3 مليار شخص، فضلًا عن الاستفادة من القوة التصويتية للأفارقة في المحافل الدولية، حيث تتكون القارة من 54 دولة، أي أن لها ثقلًا تصويتيًّا كبيرًا في المؤسسات الدولية.
ضعف التمثيل
قبل أشهر من انطلاق القمة، كثّف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من زياراته للعواصم الأفريقية، لكسب دعمها وحثّ قادتها على المشاركة في قمة سان بطرسبرغ، كما كثفت موسكو اتصالاتها مع البعثات الدبلوماسية العاملة في روسيا لأجل الهدف نفسه.
يُظهر هذا الأمر حرص الروس على تحقيق نتائج إيجابية أفضل من تلك التي تحققت عام 2019 في قمة سوتشي، خاصة بعد النشاط الكبير الذي قامت به مجموعة فاغنر في القارة الأفريقية ودعمها عديد الأنظمة -وإن كانت أغلبها استبدادية-.
صورة جماعية للمشاركين في قمة “روسيا أفريقيا” في سان بطرسبورغ pic.twitter.com/KDO3im77rP
— روسيا الآن✪ (@Russianowarabic) July 28, 2023
شارك في القمة وفود من حوالي 50 دولة أفريقية، لكن عدد رؤساء الدول الحاضرين تقلّص من 43 إلى 17 دولة الآن، وقد أقرت موسكو بذلك، وأرجعت السبب إلى ما وصفه الكرملين بالضغط الغربي الفظّ لثني الدول الأفريقية عن الحضور.
تداعيات الحرب ضد أوكرانيا
يعود ضعف التمثيل في هذه القمة في جزء كبير منه إلى تداعيات الحرب الروسية ضدّ أوكرانيا على صورة موسكو لدى القادة الأفارقة، فالحرب المستمرة منذ فبراير/ شباط 2022 أثّرت كثيرًا على نفوذ روسيا في أفريقيا.
حجم الانتهاكات والجرائم المرتكبة في هذه الحرب زعزع رواية الروس بعدم تلطخ أيديهم بالدماء، كما أن الانسحاب من معاهدة الحبوب أثّر على صورة الروس لدى الأفارقة أيضًا، فالعديد من القادة يحمّلون موسكو مسؤولية أزمة الغذاء العالمية وارتفاع أسعار الحبوب.
فضلًا عن ذلك، يرى بعض القادة الأفارقة أن فشل روسيا في حسم معركة أوكرانيا لصالحها رغم مرور حوالي سنة ونصف، دليل على ضعف موسكو، وأنه لا يمكن الوثوق بها، رغم أنها تقدم نفسها بأنها حليف قوي لا يُهزم.
وعود “كاذبة”
إلى جانب ذلك، يعود تراجع تمثيل القادة في القمة الروسية الأفريقية الثانية، إلى عدم تحويل روسيا وعود القمة الماضية إلى حقائق ووقائع، ففي قمة سوتشي وعد بوتين أمام القادة الأفارقة بـ”مضاعفة 5 مرات التبادلات التجارية” مع القارة السمراء، وهو ما لم يحصل.
على العكس من ذلك، تراجعت قيمة التبادلات التجارية بين روسيا والقارة الأفريقية من 20 مليار دولار إلى 18 مليار في فترة 2017-2022، عكس الاقتصاد الصيني الذي سجّل 282 مليار من التبادلات مع أفريقيا، والاتحاد الأوروبي الذي سجّل 254 مليار دولار، والولايات المتحدة الأمريكية التي سجّلت 83 مليار دولار.
📣 بوتين:-
مستعدون لدعم سيادة دول إفريقيا لتصبح أحد أهم الشركاء بالعالم الجديد متعدد الأقطاب.– روسيا ستدعم افريقيا لتكون قطب عالمي في عالم متعدد الأقطاب..#قمة_روسيا_افريقيا pic.twitter.com/e414ZOCtWu
— Inal 🇷🇺 (@Inal_Al_N) July 27, 2023
فضلًا عن تراجع قيمة التبادلات التجارية، تراجعت الاستثمارات الروسية أيضًا في القارة، إذ لا تمثل الاستثمارات الروسية سوى 1% من إجمالي الاستثمارات العالمية الأخرى في أفريقيا، وتعتبر الأرقام الروسية ضعيفة مقارنة بمنافسيها، وهي أرقام لا يمكنها أن تدعم استراتيجية موسكو في القارة السمراء.
كما وعدت موسكو بإلغاء ديون الدول الأفريقية، وهو ما لم يحصل إلى الآن ويستبعد أن يحصل في الوقت القريب، خاصة في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي تعرفها روسيا، وحاجتها إلى أي مبلغ يمكن أن يساعدها في الخروج من أزمتها العميقة.
أزمة فاغنر
ارتبط وجود الروس في عدد من الدول الأفريقية بمجموعة فاغنر شبه العسكرية، فهذه المجموعة فتحت الطريق أمام موسكو للتوسع في العديد من الدول على غرار أفريقيا الوسطى ومالي وليبيا والسودان، لكن الوضع تغير الآن.
يبدو أن تداعيات تمرد فاغنر الأخير ومحاولة زعيمها الانقلاب على النظام والسيطرة على موسكو، أثرت على حجم النفوذ الروسي في القارة الأفريقية، فعديد القادة الأفارقة علاقتهم مع فاغنر وليس مع روسيا مباشرة.
يفغيني فاغنر مقضيها سلامات وصور في قمة روسيا أفريقيا. pic.twitter.com/v0WQr2XFP4
— أحمـد (@A_MQQ) July 27, 2023
توتر العلاقات بين فاغنر والقيادة الروسية دفع عديد القادة إلى عدم المشاركة في القمة الحالية والاكتفاء بتمثيل ضعيف على مستوى الوزراء فقط، فالمصالح التي تجمعها مع مرتزقة فاغنر أقوى من مصالحها مع الكرملين ونظام بوتين.
لا يعني هذا أن النفوذ الروسي في أفريقيا في أفول، لكن ينبغي على الروس تغيير استراتيجية عملهم في القارة الأفريقية، وعدم الاقتصار على الدعم العسكري للقادة المستبدين، فهذه الطريقة لن تنجح وسيكون مصيرها الفشل، ذلك أن الشعوب الأفريقية تحنّ دائمًا إلى الديمقراطية.