كانت القارة السمراء، يوم الأربعاء 26 يوليو/ تموز، على موعد مع انقلاب جديد، لكن هذه المرة في النيجر غربي أفريقيا، إذ احتجز جنود من الحرس الرئاسي رئيس البلاد محمد بازوم داخل القصر في العاصمة النيجرية نيامي، ومنعوا الوصول إلى المقرّات الوزارية، ومهّدت هذه الخطوة لإعلان مجموعة من العسكريين عزل أول رئيس يحكم البلاد دون انقلاب.
وشهدت النيجر أول انتقال سلمي للسلطة بتولي محمد بازوم الرئاسة عام 2021 بعد فوزه بالانتخابات، كونها تواجه كغيرها من الدول الأفريقية شبح الانقلابات منذ استقلالها عن فرنسا بواقع 4 انقلابات ناجحة مقابل العشرات من محاولات الانقلاب الفاشلة، التي كان آخرها في مارس/ آذار من العام الجاري.
وعلى مدى العقود الماضية، اتخذت القارة الأفريقية طابع عدم الاستقرار الأمني والسياسي، وتمثل ذلك بأعداد الانقلابات التي وقعت في دولها الـ 49، لأسباب عديدة سنحاول الخوض في تفاصيلها في ثنايا هذا التقرير.
سجل الانقلابات في أفريقيا
مع حلول عام 1975، كانت دول القارة الأفريقية قد حصلت على استقلالها وتستعدّ لمرحلة جديدة، محمّلة بآمال العيش بنعيم الديمقراطية والانتفاع من موارد أراضيها الخصبة الممتدة، لكن طموحات الشعب اصطدمت بإرادة السلطات الحاكمة والعسكر المسيطرين على مصير غالبية بلدان القارة.
وحافظت أفريقيا على موقعها المتدني في سلَّم الديمقراطيات والنهوض الاقتصادي، ويمكن تلخيص سبب ذلك بعاملَين ذكرهما المفكر الجنوب أفريقي موليتسى مبيكي، أولهما سوء إدارة النخب الوطنية الأفريقية الحاكمة للفائض الاقتصادي، والثاني يتمثل في عمليات السلب والنهب التي تقوم بها القوى الدولية لموارد أفريقيا وثرواتها الطبيعية.
فمن الواضح أن مرور السنوات لم يغير من واقع أفريقيا المتأزم شيئًا، وانعكس ذلك على أعداد الانقلابات في بلدان القارة، إذ شهدت بين عامي 1960 و1990 أكثر من 200 انقلاب، بمتوسط بلغ نحو 4 محاولات سنويًّا، ورغم انخفاض وتيرتها في الألفية إلا أنها استمرت بواقع محاولتَين كل عام، تراوحت بين محاولات ناجحة وفاشلة.
كما شهدت القارة الأفريقية 6 انقلابات ناجحة في فترة 2001-2010، وهو العدد ذاته الذي سُجّل فترة 2011-2020، فيما ضربت المنطقة خلال عام 2022 وحده 4 انقلابات، اثنان منها في دولة واحدة هي بوركينا فاسو في يناير/ كانون الثاني وسبتمبر/ أيلول.
وكانت السلطة في عام 1980 بيد المؤسسة العسكرية في 43 دولة أفريقية، أما التقديرات الأخيرة فتشير إلى أن 18 رئيس دولة من قادة الدول الأفريقية الحاليين عسكريون أساسًا، أو وصلوا إلى الحكم جراء حركات التمرد.
مولّدات الانقلابات
تحولت ظاهرة الانقلابات العسكرية إلى وباء مستشرٍ في أنحاء القارة الأفريقية، وباتت جغرافيا السمراء بؤرة للنزاعات السياسية والإرهاب.
وخلصت دراسة أجراها مركز إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، إلى 4 أسباب تقف وراء هذه الظاهرة المتنامية، والتي تواصل زعزعة الحكم والاستقرار في إفريقيا:
– تدهور الأحوال الأمنية وهشاشة الدول الأفريقية: صنّف تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، على أنها واحدة من بؤر التطرف العنيف الجديدة على مستوى العالم.
وفي عام 2021 سجّل 34% من قتلى الإرهاب حول العالم في هذه الدول، بينما استنزفت النزاعات المسلحة 20 دولة أفريقية بينها النيجر وجنوب السودان وبوركينا فاسو وغيرها، وتأتي 11 دولة أفريقية ضمن الدول الأكثر هشاشة في العالم التي تشهد صراعًا عنيفًا أو حربًا أهلية، راح ضحيتها ملايين الأشخاص.
– المعاناة من تدهور الظروف الاقتصادية والمعيشية: رغم مواردها الغنية والهائلة، يعاني غالبية سكان القارة فقرًا مدقعًا، إذ أظهر تقييم للأمم المتحدة صادر في مايو/ أيار أن نحو 350 مليونًا من أبناء القارة الأفريقية يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، ويعيش أكثر من 55% من سكانها تحت خط الفقر، فيما يشير تقرير أممي إلى أن الفقر كان عاملًا رئيسيًّا في انضمام الأفراد إلى الجماعات المتطرفة في أفريقيا جنوب الصحراء.
– الافتقار للحكم الرشيد: يغلب على الأنظمة الحاكمة في الدول الأفريقية طابع الاستبداد، إذ تتخذ من نظام الحكم الشخصي مبدأ لها، وتمارس القمع والعنف للوصول إلى أهدافها، إذ تعدّ مسؤولة عن 75% من النزاعات التي تحدث في القارة.
وبحسب الخبير في الشؤون الأفريقية، حمدي عبد الرحمن، تتصف المؤسسات التشريعية والقضائية في هذه الدول بالضعف وعدم قيامها بالوظائف المنوطة بها دستوريًّا، بحيث أصبحت أداة طبيعية يستخدمها النظام الحاكم للحصول على الدعم والتأييد السياسي.
ويرى الخبير أن الحكّام يربطون بين المنصب السياسي العام وتحقيق الثروة والمكانة في المجتمع، كما يمكن إدراج تراجع مصداقية وشفافية الانتخابات كنتيجة لفساد السلطات.
– على الضفة الأخرى، لا يمكن تجاهل دور القوة الخارجية في تفشي ظاهرة الانقلابات بالقارة، إذ تدعم “القوة” بعض الانقلابات في دول أفريقية خدمةً لمصالحها، ولعلّ المثال الأبرز يكمن بدعم روسيا للنشاطات الانقلابية في السودان.
إذ تمدّ روسيا قوات الدعم السريع بالأسلحة والمال للقتال ضد الجيش السوداني، مقابل الحفاظ على تجارتها في تهريب الذهب والأسلحة، وليست السودان الوحيدة بل تصل مخالب الدب الروسي إلى دول أفريقية أخرى، عبر ميليشيات فاغنر التي تسيطر على موارد دولة جمهورية أفريقيا الوسطى.
ماذا حلّ بمشروع ردع الانقلابات في القارة؟
قررت الدول الأعضاء في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس”، أواخر العام المنصرم، إنشاء قوة إقليمية مشتركة وظيفتها ردع الانقلابات العسكرية حال حدوثها.
وقال رئيس مفوضية “إيكواس”، عمر تراوي، حينها: “مصمّمون على إنشاء قوة إقليمية تتدخل عند الضرورة، سواء كانت مسألة أمن أو إرهاب أو إعادة النظام الدستوري في الدول الأعضاء”، مشيرًا إلى أن تمويل المشروع لن يعتمد على المساهمات التطوعية المحدودة.
وكان قد اتفق قادة الدول على أن يبحث مسؤولون عسكريون آلية تشكيل القوة الإقليمية في يناير/ كانون الثاني الماضي، بينما لم يُعلن رسميًّا حتى تاريخ اليوم عن إنشاء هذه القوة.
و”رغم أن الانقلابات في أفريقيا القاعدة لا الاستثناء، كان رد “إيكواس” على جميعها هو فرض العقوبات على منفذيها”، هكذا وجّه المرصد العالمي التابع للمعهد الدولي للسلام انتقادًا لمجموعة “إيكواس”، على طريقة تعاملها مع وباء الانقلابات.
وفرضت مجموعة “إيكواس” في سبتمبر/ أيلول الماضي عقوبات تدريجية على المجلس العسكري الحاكم في غينيا، بسبب رفضه إعادة السلطة إلى المدنيين، إذ كان الكولونيل مامادي دومبيا قد أطاح بالرئيس ألفا كوندي في سبتمبر/ أيلول 2021، وعيّن نفسه قائدًا للبلاد.
وشددت “إيكواس” بدعم من الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا، الحصار على المؤسسة العسكرية في مالي بفرضها عقوبات دبلوماسية واقتصادية قاسية، تضمنت إغلاق الحدود مع مالي وتعليق التجارة باستثناء السلع الأساسية، بالإضافة إلى تجميد أصول مالي في البنك المركزي لدول غرب أفريقيا.
جاء ذلك ردًّا على اقتراح المجلس العسكري في مالي إجراء انتخابات رئاسية في ديسمبر/ كانون الأول 2026، وهو الأمر الذي رفضته “إيكواس” بشكل قاطع لأنه يعني أن حكومة عسكرية انتقالية غير شرعية ستأخذ الشعب المالي رهينة خلال السنوات الخمس المقبلة، وفق تعبيرها.
في المقابل، يرى المرصد العالمي أن العقوبات لا يمكن أن تكون حلًّا لردع الانقلابات، إنما “الاستجابة الحقيقية تكمن في تشجيع النخبة الحاكمة على احترام سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والقضاء على الفساد في مهده، من أجل حلّ جذري للمشكلات الأمنية في الإقليم”.
سيبقى داء الانقلابات ممسكًا برقبة القارة الأفريقية، طالما يغيب الحكم المدني عن السلطة ويعبث الفساد بمفاصل الحكم، ولن يمرّ طريق الخلاص إلا عبر ملئ بطون الجياع وتوفير فرص عمل للبطالة، والحد من انتشار الجريمة، وكفّ يد القوة الخارجية عن نهب ثروات المنطقة.