تسعى حكومة بنيامين نتنياهو منذ قدومها إلى فرض تعديلات قضائية، ستعيد تعريف وضع الاحتلال الداخلي سياسيًا وعلاقة السلطات الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبينما يعتبر القضاء في كل العالم أكبر قوة داخل حدود الكيانات، فإن نتنياهو يسعى بتعديلاته إلى أن يجعل لسلطة الحكومة اليد العليا فوق السلطات الأخرى.
لا تقتصر مساعي نتنياهو على منحه وحكومته الحصانة وكف يد القضاء عن ملاحقته القانونية، بل إن التعديلات أيضًا لها وجه آخر متعلق بطبيعة “إسرائيل” كدولة محتلة، تريد أن تلغي حدودًا من الممكن أن تقوض ممارستها الاستيطان والتهجير وهدم بيوت الفلسطينيين، وإقامة “دولة يهودية – إسرائيل الكبرى” على كل مساحة فلسطين التاريخية، وأن تستثني “نحن نحترم حقوق الإنسان” التي تضحك فيها على مجتمعها الدولي من خطاباتها.
لن تستطيع حكومة نتنياهو التي تضم تحالف اليمين المتطرف في دولة الاحتلال، أن تتجاوز هذه الحدود وتلغيها، إلا من سحب البساط من تحت المحكمة العليا والمستشار القضائي للحكومة وأجهزة الرقابة في “إسرائيل”، هذا الجهاز القضائي الذي لم يتوانَ عن إعطاء الضوء الأخضر للنكبات الفلسطينية على مر الاحتلال، لكنه احتفظ بهامش رفض صغير لاعتداءات الجيش والمستوطنين والحكومة، تحت غطاء القانون الدولي واتفاقيات حقوق الإنسان.
المحكمة العليا الإسرائيلية.. شرعنة الاحتلال قانونيًا
بعد النكبة الفلسطينية عام 1948، عملت المحكمة العليا الإسرائيلية على تصديق وشرعنة قوانين الاحتلال لترسيخ ممارساته واستعماره، فصادقت على الحكم الإسرائيلي الذي فرضته حكومة الاحتلال على الفلسطينيين الذين لزموا أراضيهم في أعقاب النكبة، واستمر العمل بالحكم حتى عام 1966.
يقول الباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية رازي النابلسي إن المحكمة العليا الإسرائيلية صادقت بشكل منهجي على استخدام “أنظمة الطوارئ” المنقولة إلى القانون الإسرائيلي من ترسانة القوانين العسكرية التي وضعها الانتداب البريطاني، التي تسمح بحبس شخصٍ بوصفه “محتجزًا إداريًّا” لستة أشهر قابلة للتجديد، دون تزويده بأدنى معلومات عن الجرائم التي ارتكبها ودون توجيه اتهام، أي أنها شرعنت الاعتقال الإداري.
وفيما يخص الأسرى الفلسطينيين أيضًا، منعت المحكمة العليا التعذيب في “إسرائيل” جسديًا مراعاةً للقانون الدولي، لكنها في الوقت نفسه، سمحت بالتعذيب في حال كان المشتبه به “قنبلة موقوتة” أي أن استخراج المعلومات منه سيؤدي إلى “إنقاذ الأرواح”، وتُرك قرار تحديد الحاجة لاستخدام التعذيب إلى الشاباك والمستشار القضائي في الحكومة، أي أنها منحت تعذيب الأسرى الفلسطينيين غطاءً قانونيًا
المنظمات المسجلة في “إسرائيل” والعاملة في الضفة الغربية ستحصل على إعفاءات ضريبية إذا قدمت خدمات للإسرائيليين اليهود الذين يعيشون في مستوطنات غير قانونية، ولن تحصل عليها إذا قدمت خدمات للفلسطينيين
وبحسب النابلسي، تبنّت ما يسمى إسرائيليًا بـ”الأمن القومي”- وهو كل ما يتعارض مع “حقوق الإنسان”، لكنه ضروري لـ”إسرائيل” كي تستمر كدولة يهودية، فمثلاً، كانت المحكمة العليا تصادق على استمرار منع لم شمل الفلسطينيين على جانبيْ الخط الأخضر، استنادًا إلى معلومات من جهاز الأمن الداخلي “الشاباك”، تفيد بأن أفراد هذه العائلات ينخرطون في “قضايا أمنية”، وفي الوقت ذاته، تقر حق كل إنسان في الزواج والعيش كعائلة في بلده.
في عام 2018، أقر الكنيست قانون “القومية” الذي يعني أن حق تقرير المصير في دولة “إسرائيل” هو حق يقتصر على الشعب اليهودي، ويتجاهل حقوق الفلسطينيين في الداخل المحتل، وعندما أبدت المؤسسات الحقوقية الفلسطينية اعتراضها على القانون لمعارضته الأساسية مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان، جاء ردّ المحكمة بالمصادقة على القانون، بادعاء أنه لا يؤثر في ديمقراطية الدولة التي تضمن الحقوق الفردية لغير اليهود.
وأشارت منظمة هيومن رايتس ووتش عام 2021، إلى أن المحكمة العليا منحت إعفاءً ضريبيًا لمنظمة مسجلة في “إسرائيل” تدير مدرسة في الضفة الغربية بدعوى أن المدرسة تعلم أطفالًا فلسطينيين، وليس إسرائيليين، ما يضع عبئًا ماليًا على منظمات المجتمع المدني التي تقدم خدمات للفلسطينيين، بما فيها منظمات تتحمل مسؤوليات تهربت منها الحكومة الإسرائيلية.
يعني هذا الحكم أن المنظمات المسجلة في “إسرائيل” والعاملة في الضفة الغربية ستحصل على إعفاءات ضريبية إذا قدمت خدمات للإسرائيليين اليهود الذين يعيشون في مستوطنات غير قانونية، ولن تحصل عليها إذا قدمت خدمات للفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال العسكري في نفس المنطقة.
الحفاظ على الوضع القائم.. الهامش الذي تريد حكومة نتنياهو سحقه
مع ذلك، تشكل المحكمة العليا أهم ركائز الحفاظ على الوضع القائم فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وإقامة حواجز، تبدو هشة، لكنها تعيق نسبيًا ما يريده اليمين المتطرف، لا سيما بعد وصول إيتمار بن غفير إلى الحكومة الفلسطينية، ورغبته التي لا يكتمها سرًا في التهجير والقتل، ما يعيد “إسرائيل” إلى “مرحلة ما قبل النكبة”، حيث لا قانون يعيق الممارسات التنفيذية، وصولًا إلى “إقامة إسرائيل الكبرى”.
هنا تدخل المحكمة العليا في حسابات الربح والخسارة، ليس حبًا في الفلسطينيين، بل وقاية من أي أضرار تعود على “إسرائيل”، وكان ذلك واضحًا حين ألغت المحكمة قانون التسوية الإسرائيلي “قانون تنظيم الاستيطان في الضفة الغربية عام 2017″، وعزت قرارها إلى: عدم صلاحية القائد العسكري بإصدار أوامر المصادرة تبعًا للطبيعة المؤقتة للاحتلال في ظل سريان القانون العسكري والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
كما قالت المحكمة إن القانون يفتقر لتوفير الحماية القانونية اللازمة للسكان الفلسطينيين في المنطقة باعتبارهم “أشخاصًا محميين” حسب المادة الرابعة من اتفاقية جنيف، وإن فرض مثل هذا القانون يوفر الحماية للإسرائيليين دون الفلسطينيين بما يعبر عن انعدام المساواة والعنصرية، كما أن قرار المصادرة من القائد العسكري يعكس تضارب الصلاحيات التشريعية بين الكنيست والقائد العسكري على اعتبار أن الكنيست صاحب الاختصاص الأساس في التشريع.
وفي عام 2018، أرجت المحكمة العليا البت في دعوى رفعتها منظمة “ريغافيم” الإسرائيلية اليمينية ضد حكومة الاحتلال لإجبار المسؤولين على هدم قرية الخان الأحمر التي يقطنها 200 فلسطيني، وقالت في قرارها إنه في حين تعتبر القرية البدوية “غير قانونية”، فإن الحجج التي قدمتها الحكومة لإرجاء النظر في هدم خان الأحمر مرة أخرى مقنعة بما يكفي من أجل إرجاء آخر، لكنها لم تحدد موعدًا هذه المرة، وأصدرت “ريغافيم” بيانًا أشارت فيه إلى أن قرار المحكمة “يقود البلاد إلى حافة الفوضى”.
وكان غضب اليمين في أوجه حين رفضت المحكمة سنة 2020 “قانون تبييض المستوطنات” المقامة على أراضٍ فلسطينية خاصة، لتعارُضه مع حق الملكية المكفول دوليًا، ولأن الخسارة التي ستنتج منه ستكون أعلى من الربح، بحسب قرار المحكمة.
لا جدوى من دعاوى المؤسسات الحقوقية بعد اليوم
منذ احتلال فلسطين، وإقامة دولة الاحتلال على الأراضي المحتلة بتهجير أهلها وقتلهم عام 1948، برز تياران أساسيان في “إسرائيل”: اليمين المتطرف واليسار، وبينما لم يخفِ اليمين رغبته العميقة في قتل الفلسطينيين وإبادتهم، وإقامة “إسرائيل” الكبرى، كان اليسار يحاول أن يصف نفسه بالوسطية، التي تريد حل الدولتين (“إسرائيل” وفلسطين)، وتعلن رفضها لانتهاك حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بينما تبطن تمسكها بالقيم الصهيونية، وارتكابها جرائم الحرب والتطهير العرقي.
ولترويج نفسها كحمامة السلام، أنشأت أحزاب اليسار منظمات حقوقية للدفاع عن حقوق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967 مثل “بتسيلم” وجنود منظمة “كسر الصمت” الذين يشهدون على انتهاكات جيش الاحتلال، أو المحامين الحقوقيين بمنظمة “يش دين” الذين يدافعون عن الأسرى الفلسطينيين، أو “حاخامات لحقوق الإنسان”، هذه المؤسسات التي تغض الطرف عن جرائم الاحتلال بحق فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948، باعتبارها “إجراءات دولة بحق مواطنيها وليست احتلالًا بحق شعبٍ محتل”.
ودون صلاحيات وقوة المحكمة العليا، فإن منظمات المجتمع المدني التي تتحرّك للدفاع عن حقوق الفلسطينيين، لن يتمكنوا من رفع دعاوى قضائية ضد حكومة الاحتلال، وهؤلاء اليهود الإسرائيليون “الخوَنة” كما يصفهم بن غفير الذي ينوي طردهم من “إسرائيل”، يمكن أن يجدوا أنفسهم بين ليلةٍ وضحاها عرضةً للاستبعاد بموجب القانون، وعاجزين عن مواصلة عملهم.
وهو ما دفع الصحفي الإسرائيلي تسفي برئيل للقول: “إذا حدث كل ذلك، من سيمنع إقامة بؤر استيطانية عشوائية على الأراضي المملوكة لفلسطينيين؟ من سيمنع تجريد الأشخاص المدانين بتهم الإرهاب من جنسيّتهم؟ إلى من سيلجأ الأسرى الإداريون، حتى إن كانوا يعلمون أن المحكمة العليا لن تنصفهم حقًّا؟ بمجرد اختفاء المحكمة العليا، يمكن أن يبدأ الحفل”.
ومن المهم الإشارة، إلى أن الأمر لا يبدو كأن المؤسسات الإسرائيلية الحقوقية أو أحزاب اليسار هي النصير والحليف للفلسطينيين، فلا يمكن أبدًا إغفال أن “حزب العمال” اليساري الذي حكم “إسرائيل” منذ 1948 وحتى 1977، كان المسؤول الأول عن جرائم التطهير العرقي التي ارتكبت بحق الفلسطينيين إبان النكبة.
قبل اغتياله على يد مستوطن يهودي من اليمين المتطرف عام 1995، قال رئيس حكومة الاحتلال إسحق رابين: “ما يريده معسكر المستوطنين هو بلدٌ بلا محكمةٍ عليا وبلا بتسيلم”، وهو بالتحديد ما تسعى له حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة التي رأت أن أسرع الطرق للتوسع الاستيطاني دون الدخول في جدل قضايا المحكمة العليا هو إلغاء حضور الأخيرة، فلم تكن المحكمة العليا يومًا حاكمة نزيهة لصالح الفلسطينيين، فلم تحتج على جرائم الحرب بل قننتها، وكان هدفها الدائم شرعنة انتهاكات الاحتلال، لكن خوفها النادر من معاقبة دولية لـ”إسرائيل” جعلها تواجه اليمين المتطرف في بعض المسائل، واليمين يرفض أن يكون في هوامش الرفض.