ترجمة وتحرير: نون بوست
في أحد أيام شهر أيلول/ سبتمبر الحارقة من السنة الماضية، وصل حسين قنبر آغا إلى الباب الأمامي لمنزله الواقع وسط بغداد. لقد اعتاد على تفقّد الشارع بحثًا عن أي شيء غير مألوف قبل إدارة المفتاح، بينما كان يمسك بيده الأخرى حقيبة جلدية بنية مهترئة كان من المحتمل أن يتعرض للقتل بسبب ما تحتويه.
لم يكن قنبر معتادًا على التصرّف كما لو كان جاسوسًا في فيلم. كان مستشارًا يبلغ من العمر 49 سنة شغوفًا بالخدمات المصرفية الرقمية، وقد وُلد في العراق لكنه قضى فترة طويلة من حياته في ستوكهولم. حظي هناك بحياةً هادئة ومنظمة تتراوح بين العمل والذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية وارتياد المقاهي. لكن في الصيف الماضي، طلب منه وزير المالية العراقي العودة إلى بغداد والتحقيق في الشائعات المتعلّقة بسرقة مصرف الرافدين، أكبر بنك مملوك للدولة في البلاد.
حساب واحد في مصرف الرافدين مثّل هدفًا مغريًا للمطلعين على هذه المسألة: تلتزم شركات النفط (وغيرها من الشركات الناشطة في العراق) بدفع الضرائب مقدمًا عندما تحصل على عقد. وتحتفظ مصلحة الضرائب بهذه الودائع في الحساب 60032. ويمكن للشركات المطالبة بخصم إذا انتهى بها الأمر إلى تحقيق ربح أقل مما كان متوقعًا ولكن هناك الكثير من العقبات البيروقراطية. وتبقى الخصومات غير المُطالب بها معلقةً لمدة خمس سنوات قبل العودة إلى الخزينة. مع مرور الوقت، تراكمت مئات الملايين من الدولارات في الحساب 60032. ثم في منتصف سنة 2022، تسربت بعض الشائعات التي تفيد بسحب مبالغ ضخمة من هذه الأموال.
من الناحية النظرية، كان بإمكان وزير المالية أن يطلب من إحدى هيئات الرقابة في البلاد إجراء تحقيق في الأمر. لكن العراق موطئ قدم للميليشيات القوية، ولكل منها جناح سياسي وإمبراطورية تجارية. وهي تُعرف جميعها بالفصائل، ناهيك عن أنها تفرض نفوذها في جميع المستويات الحكومية. الرشوة متفشية، وأولئك الذين لا يمكن شراء ذممهم يكونون عرضةً للتهديد (“سوف تغادر العراق ميتا”، حسب ما يتذكره مسؤول رفض تقديم عطاء لإحدى الفصائل). نتيجة لذلك، كان من الضروري طلب تدخّل جهة خارجية سياسية.
قال المحاسبون لقنبر إنهم لم يرغبوا في إجراء تحقيق شامل. لقد كانوا خائفين من العواقب.
بدا أن قنبر – وهو رجل نحيل انحنى ظهره قليلا من النوع الذي يقود سيارة من طراز كيا قديمة – هو الخيار الأمثل. كان ينحدر من إحدى عائلات التجار القدامى في بغداد، وكان قد هرب من العراق سنة 1992 عن عمر يناهز 19 سنة بعد أن اعتقله بلطجية صدام حسين عند نقطة تفتيش. سافر إلى السويد، حيث حصل على درجة الماجستير من كلية ستوكهولم للاقتصاد وعمل في أحد البنوك السويدية. كان يعيش حياة عادية كرجل أعمال أوروبي حتى أطاحت الولايات المتحدة بالنظام العراقي في سنة 2003.
على غرار الكثير من المغتربين، كان قنبر متحمسًا لاحتمال العيش في عراق حرّ. استقال من وظيفته وانتقل إلى بغداد لإنشاء نظام الدفع بواسطة الهاتف المحمول. لكن على مدى السنوات الخمس التالية، دمّر العنف الطائفي المدينة. وفي وقت من الأوقات، كان يشاهد بشكل يومي حوالي 40 جثة ملقاة في الشوارع. في نهاية المطاف، استسلم قنبر وعاد إلى السويد.
في سنة 2021، عاد إلى العراق للعمل في مشروع إصلاح مصرفي لحساب الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. وأثناء وجوده هناك سمع شائعات بأن حساب مصلحة الضرائب في مصرف الرافدين قد تعرض للنهب. عندما طلب منه وزير المالية إجراء تحقيق في آب/أغسطس 2022، لم يرحّب قنبر – الذي كان قد عاد إلى ستوكهولم في ذلك الوقت – بالفكرة لكنه شعُر أن من واجبه أن يحرص على إجراء التحقيق على أكمل وجه. علاوة على ذلك، انتابه فضول شديد لمعرفة ما إذا حدثت سرقة كبيرة مثل هذه.
اقترح قنبر أن يقوم وزير المالية بتجميع فريق من المحامين والمحاسبين الموثوق بهم، ثم سافر إلى بغداد للانضمام إليهم. عندما التقوا، أخبر المجموعة أن تتوجه إلى مصرف الرافدين على الفور برسالة من الوزير يطلب فيها نسخة من كشوف حساب 60032. كان يدرك أن صفارات الإنذار تتعالى في أرشيف الوزارات العراقية عندما بدأ التحقيقات.
في اليوم التالي، اجتمع الفريق في غرفة اجتماعات في وزارة المالية لفحص كومة المطبوعات. اكتشف أحد المحاسبين بسرعة أهم معلومتين وهما الرصيد في بداية السنة وآخرها، حيث تم إفراغ الحساب 60032 بالكامل تقريبًا.
اتصل الفريق بكل الأشخاص الذين يعرفونهم في البنك. في غضون ساعات قليلة، قدمت مصادرهم أسماء خمس شركات تم تحويل الأموال إليها. لم يكن أي منها من شركات النفط العملاقة. وفي الواقع، لم يسمع أحد بها من قبل.
في تلك المرحلة، قال المحامون والمحاسبون لقنبر إنهم لا يريدون إجراء تحقيق أكثر شمولا. بدا الأمر وكأنها عملية نهب على نطاق واسع، مما يعني أنه من المحتمل أن تكون إحدى الفصائل الوحشية في العراق متورطة في القضية. وإذا أراد قنبر أن يتعمق أكثر في البحث، فسيتعين عليه القيام بذلك بمفرده.
في البداية، كان عليه أن يثبت أن السرقة قد حدثت بالفعل. ومن جهتها نفت مصلحة الضرائب، ضحية هذه الجريمة، حدوث أي معاملة مشبوهة، وأظهرت ميزانياتها العمومية أن جميع أموالها لا تزال موجودة لأنه من الناحية الفنية لم تتم المطالبة بأي خصومات. كان قنبر بحاجة إلى اكتشاف كيف دخلت الأموال في حسابات تلك الشركات الخمسة ولماذا؟
أخبرني قنبر فيما بعد أن مؤسسات الدولة العراقية هي من الأماكن التي تتسم بالغموض الشديد. فالسجلات غير مكتملة ناهيك عن أن العديد من الموظفين يعملون لأجندتهم الخاصة. لكن هناك بعض الأشخاص بينهم ممن يريدون ببساطة القيام بعملهم على أكمل وجه. اعتقد قنبر أنه يمكن أن يكتشفهم من خلال طريقة هندامهم – إذا لم يكونوا يرتدون ملابس فخمة، فقد يكون من الأجدر التعرف عليهم. لم يكن يستخدم نظام مكافآت ولا تهديدات لكنه كان يعتقد أن بعض الناس قد يرغبون ببساطة في فعل الشيء الصحيح فقط.
“حياتك ستكون مهددة على أي حال، لذلك عليك أن تكون فاسدًا وتجني المال”
لتجنب جذب الانتباه، التقى قنبر بهؤلاء المديرين من الإدارات الوسطى في المحلات التجارية والمطاعم بدلاً من مكاتبهم. وبعد مرور أسبوع تقريبًا على بدء تحقيقه، أرسل أحد معارفه رسالة إلى قنبر يقول فيها إنهم تلقوا طردا قد يكون مثيرا للاهتمام. كانت تنتظره في وزارة المالية حقيبة بنيّة.
فتح قنبر الحقيبة عندما عاد إلى المنزل. كانت نُسخ من 247 شيكًا سُحبت من الحساب 60032 لصالح خمس شركات متناثرة على الطاولة والأرضية. لقد أمضى ساعات في فرزها حسب التسلسل الزمني، بدءا من أيلول/ سبتمبر 2021 وصولا إلى آب/ أغسطس 2022. لم يكن تاريخ المستندات دليلًا على حدوث عملية الاحتيال (على الرغم من أن المبالغ كانت غالبًا أرقامًا كبيرة بشكل مثير للريبة)، لكنها كشفت بشكل قاطع أين ذهبت الأموال المفقودة. تم تحويل حوالي 2.5 مليار دولار، وهو مبلغ يعادل ميزانية الرعاية الصحية في البلاد بالكامل. وتبين لاحقًا أنها نُقلت في شاحنات في وضح النهار. وقد تمت الموافقة على عمليات السحب من قبل بعض كبار المسؤولين في البلاد.
يعيش العراق الحديث مسرحية الديمقراطية، فعلى الرغم من أن المشهد العام يبدو على ما يُرام – بوجود هيئة النزاهة العامة ومجلس القضاء الأعلى ولجنة الأخلاقيات البرلمانية – إلا أنه يفتقر إلى المصداقية والموثوقية. في الواقع، أخبرني أحد المسؤولين السابقين أن البلد بمثابة “أرض للعصابات”. غالبًا ما تُستخدم المؤسسات التي يجب أن تحافظ على المساءلة لزعزعة استقرار الشعب. ويقدر المسؤولون أن حجم الأموال التي اختفت من الخزانة العامة منذ سنة 2003 تتجاوز 300 مليار دولار.
يعزى السبب الرئيسي لتفشي الفساد على نطاق واسع في البلاد إلى نظام تقاسم السلطة الذي أدخله الأمريكيون في سنة 2003. وقد ساهم المخطط، الذي كان حلم كل المنفيين بينما كان صدام حسين لا يزال في السلطة، في تقسيم هياكل الدولة بين الأحزاب التي تدّعي كل منها تمثيل المجموعات الدينية والعرقية الرئيسية في العراق. وبعد الإطاحة بصدام، نهبت هذه الجماعات موارد البلاد ونشرت نظام المحسوبية. وتقاسم رؤساء الأحزاب، الذين ينتمي الكثير منهم إلى الميليشيات، الوزارات المربحة فيما بينهم من خلال المساومات والمقايضات.
في سنة 2015، انفجر بركان الغضب الشعبي من الفساد من خلال سلسلة من الاحتجاجات. خرج الآلاف من السكان للشوارع في بغداد للاحتجاج ضد “اللصوص” المسؤولين. وقرر رئيس الوزراء آنذاك، حيدر العبادي، تعيين مسؤولين تكنوقراط وزراء في محاولة لتهدئة غضب المحتجين. لكن الفصائل لم تخطط للتخلي على سلطتها. وبدلاً من ذلك، وجدوا مناصب في الإدارات الحكومية لأتباعهم، الذين قاموا بعد ذلك برشوة الوزراء ومضايقتهم. في مثل هذه الظروف، لم يكن هناك حوافز كافية لأي شخص ليحافظ على نزاهته. أوضحت سهى النجار، التي عملت في هيئة حكومية، أن التهديدات أجبرتها على الفرار من البلاد في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، قائلة: “حياتك ستتعرض للتهديد على أي حال، لذلك عليك أن تكون فاسدًا وتكسب المال”. وأضافت قائلة “لهذا السبب، الجميع فاسدون”.
نظريًا، يصنف العراق من البلدان الغنية في العالم، حيث يعد أحد أكبر منتجي النفط في العالم بتحقيق أرباح من الصادرات في السنة الماضية تجاوزت 115 مليار دولار. ومع ذلك، لا يصل سوى القليل من هذه الأرباح إلى الناس العاديين. وعلى مقربة من مكتب مصلحة الضرائب، يوجد حي فقير حيث تتكدس العائلات مكونة من ثمانية أفراد في غرفة واحدة. وعندما تمطر، تُغمر الأزقة المليئة بالقمامة بمياه الصرف الصحي. وعندما يكون الجو حارًا، تشرق الشمس على أسطح المنازل المصنوعة من الحديد المموج، وتصبح المنازل مثل أفران موقدة. تعاني المستشفيات من سوء الصيانة لدرجة اندلاع النيران فيها. وتجدر الإشارة إلى أن العراق يملك ثاني أعلى معدل وفيات الأطفال في الشرق الأوسط.
أما عالم النخبة السياسية فمختلف. عندما زُرت ذات مرة منزل مسؤولٍ في مصلحة الضرائب، كان كل ما فيه مذهّبًا على طراز لويس الرابع عشر، إذ كانت أذرع الكراسي ذهبيّة اللون وكذلك الساعات ورفّ المدفأة، وكان السجاد سميكًا مثل صوف الأغنام.
إيران وأمريكا.. حرب شدّ وجذب من أجل النفوذ
لا يعد الإثراء العامل الوحيد المحفّز في السياسة، إذ لا تزال الأيديولوجيا مهمةً أيضًا بوجود قوى كبرى – إيران والولايات المتحدة – تتربص بالبلاد بممارسة لعبة شد وجذب من أجل النفوذ.
عند تعيين قنبر، كان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في صف معسكر الغرب، حيث كان يُقيم في بريطانيا وحافظ على علاقات وطيدة مع وكالة المخابرات المركزية منذ أن كان رئيسًا للمخابرات العراقية. ومثل الكثيرين في عُصبته، فهو ينتمي إلى النخبة المغتربة للعراق ويملك عقارات في لندن. وقد كان في مواجهته تحالفٌ من الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران يُعرف باسم “ائتلاف الفتح”. وممثلو هذا المعسكر غالبًا ما كانت تبدو عليهم علامات الثراء الحديث ببدلاتهم الجديدة ورائحة عطورهم القوية، بينما كانت منازلهم الثانية في إيران.
بحلول الوقت الذي بدأ فيه الحديث عن “السرقة”، كان التوتر بين الجانبين يتفاقم لعدة أشهر، وكانت في بعض الأحيان تندلع أعمال عنف. نجا الكاظمي من ثلاث محاولات اغتيال، بما في ذلك هجوم في تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2021 استهدف منزله بواسطة طائرة مسيّرة محمّلة بالمتفجرات. ذكرت المسؤولة السابقة سهى النجار أن نوّابًا من الشق المعارض الموالي لإيران كانوا “يأتون إلى مكتبي ويهددونني علنًا أمام موظفيي بالسجن والقتل”.
كان إحسان عبد الجبار، وهو وزير المالية الذي عيّن قنبر، بدوره عضوًا في معسكر الكاظمي ذي التوجه الغربي. ربما لم يكن اهتمام عبد الجبار بقضية سرقة مصرف الرافدين نابعًا من حرصه التام على المصلحة العامة. فبحلول صيف سنة 2022، كان التحالف البرلماني الداعم للكاظمي يتفكّك ما يعني أن ائتلاف الفتح كان في وضع يسمح له بتعيين رئيس وزراء جديد. ومن المعروف آنذاك أن مكتب مصلحة الضرائب كان يخضع لسيطرة ائتلاف الفتح وفضيحة من هذا النوع كانت لتقضي عليه، مما يمنح الكاظمي ووزراءه فرصة النجاة سياسيًا.
أخبر عبد الجبار مجلة 1843 بأنه كان مدفوعًا بالرغبة في فضح المخالفات وإثبات الحقيقة. ومهما كانت دوافعه، فقد أثار إعجاب قنبر ما شجعه على العمل بسرعة كبيرة، فكان يتصل به عدة مرات في اليوم للتحقق من التقدم الذي يحرزه. وفي منتصف أيلول/ سبتمبر، عندما تسلم قنبر الحقيبة بدا وضع عبد الجبار محفوفًا بالمخاطر فقد كان ائتلاف الفتح يخطط للتصويت بنزع الثقة منه. لذلك، لم يكن قنبر بحاجة لإنهاء التقرير قبل حدوث ذلك، بل كان عليه أيضًا تقديم أدلة موثّقة كافية لا يمكن لأكثر النواب العراقيين تحزبًا تجاهلها.
“هذا التقرير سيُمحق”، هذا ما قاله عبد الجبار لقنبر محذرًا من أن خطأً واحداً فقط مهما كان صغره من شأنه أن يقوّض مصداقية التحقيق بأكمله. وقد حاول قنبر توقّع ما قد يقوله المنتقدون. صاغ خطابًا عاجلًا باسم عبد الجبار إلى شركات النفط العالمية الكبرى الناشطة في العراق – أكثر من 30 شركة – يسألها عما إذا كانت قد طالبت بخصم ضريبي في السنة الماضية، وكانت إجاباتها جميعًا تقريبًا بالنفي. تعمّق في تاريخ كل شركة من الشركات الخمس التي تلقت المدفوعات لمعرفة ما إذا كان هناك أي نشاط قد يبرر بشكل معقول خصومات بمليارات الدولارات لكنه لم يجد شيئًا – علمًا بأن ثلاثةً منها سُجلت قبل بدء السّرقة.
لم ينته قنبر من إعداد تقريره حتى العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر أي عشية التصويت على سحب الثقة. وحتى يكون لهذا التقرير ثقل سياسي، كان يجب تقديمه رسميًا إلى وزارة المالية باسم مسؤول مختص. لكن من يستطيع قراءة تقرير بهذا الحجم واستيعاب عواقبه والموافقة على التوقيع عليه في أقل من 24 ساعة؟ قرّر قنبر زيارة عبد الستار هاشم علي مولى، وهو مسؤول في مصلحة الضرائب، كان يعرفه منذ الطفولة. توجّه إلى منزل المولى ومعه التقرير محفوظًا في سواقة ذاكرة وميضية (فلاشة). كانت طابعة المولى تعمل بصعوبة، بينما وقف الرجلان والحرج سيد الموقف ووراءهما مكتبة تصطف على أرففها الكتب الدينية الشيعية بينما كانت الصفحات تتدفق. قرأها المولى وبعد صمت طويل وقّع عليها.
لو كُدّست جميع الأوراق النقدية المسروقة فوق بعضها البعض، لصنعت كومة ارتفاعها أعلى من قمة جبل كليمنجارو
في صباح اليوم التالي، وقبل ساعات من التصويت على سحب الثقة، سُلّم التقرير إلى رئيس مجلس النواب وهيئة النزاهة الاتحادية ورئيس الوزراء الكاظمي. ورد في التقرير أن “الشركات [الواجهة الخمس] ليس لديها ودائع ضريبية وليس لديها توكيل رسمي من أي طرف ثالث لسحب الودائع الضريبية.. ولا يمكن تبرير عمليات السحب بأي شكل من الأشكال”. وذكر التقرير أسماء أصحاب خمس شركات واجهة: اثنتان منها تم تسجيلها باسم رجل يدعى نور زهير.
إن العراقيين معتادون على الفضائح، لكن حجم هذه السرقة ووقاحتها مثّل صدمةً بالنسبة لهم. وقد وفّرت القنوات الإخبارية العراقية، ليلا ونهارا، تغطية إخبارية لما أسمته “سرقة القرن”.
خسِر عبد الجبار التصويت على أي حال، بينما حجز قنبر رحلة في الخطوط الجوية القطرية للعودة إلى ستوكهولم. كان يشعر بالتوتر وهو يقترب من مطار بغداد الدولي لأنه كان يعلم أن عملاء متحالفين مع الفتح لهم نفوذ على الأمن هناك. ماذا لو علموا بدوره في التحقيق واعتقلوه؟ في نهاية المطاف، مرّ عبر بوابة الجوازات دون متاعب وسافر خارج البلاد التي تركها تقريره تستعر غضبًا.
كان نور زهير يبلغ من العمر 41 عامًا عندما اعتُقل لكنه بدا أصغر سنًا. وبعد أن انتشرت صوره في الصحف، سمعت أن العراقيين يشبّهونه ببابلو إسكوبار. من المؤكد أن له شبهًا طفيفًا مع بارون المخدرات الكولومبي: السمنة واللحية وتدلي الجفون والثقة بالنفس حد العجرفة. ومع أن تقرير قنبر ذكر رجلي أعمال آخرين تلقوا أموالا من مصلحة الضرائب، إلا أن زهير كان الشخص الوحيد الذي تحدث عنه الناس. (عندما اتصلت مجلة 1843 بزهير للتعليق على المزاعم الواردة في هذا المقال أجاب بأنه مواطن يحترم القانون، ونفى جميع التهم بشدة مضيفًا أنه ليس متورطًا في أي جريمة).
ينحدر زهير من البصرة وهي محافظة ذات أغلبية شيعية تقع جنوب العراق، حيث يتم إنتاج وتصدير معظم نفط البلاد. وصف أكاديمي محلي زهير بأنه المخلّص أو الوسيط: أي أنه شخص يعرّفك على الأشخاص المناسبين لتسهيل حركة السلع والخدمات. وفي مرحلة ما، انتقل إلى بغداد لممارسة هذه المهارات على المستوى الوطني.
سرعان ما كوّن زهير الصداقات. قالت إحدى السياسيات من بين الذين تلقوا سخاءه (علما بأنها رفضت هديته)، إن المجاملة تبدأ بساعة رولكس. سمعت من زملائها في البرلمان أن الرد الإيجابي على الهدية عادة ما يتبعه زيارة من وسيط يحمل مبلغا كبيرا، وتكون هذه الهدايا مصحوبةً بطلبات للتوقيع على المواعيد والعقود.
لم أفهم حجم نفوذ زهير إلا بعد أشهر قليلة من الفضيحة عندما زرت مكتب مصلحة الضرائب. كان مكانًا خاليًا، حيث الأرضيات مغطاة بمشمع بني وأطر النوافذ مغطاة بالغبار. سحبني موظف جانبًا وأراني باب مكتب المدير العام في الطابق الخامس. قال إن زهير كان يزوره عدة مرات في الأسبوع. وأخبرني مصدر آخر أن زهير كان يوقف سيارته خارج الباب الأمامي مباشرة، وهو امتياز يقتصر عادة على رئيس مصلحة الضرائب وحده، وكان يسير وهو يأرجح بين يديه مسبحة من الذهب تاركًا وراءه حارسين شخصيين في الاستقبال.
تطلّب إصدار شيكات بمبالغ كبيرة من مصلحة الضرائب تواقيع 12 مسؤولاً مختلفاً على الأقل. تستغرق هذه العملية غالبًا أسابيع، لكن زهير حصل عليها في فترة زمنية قصيرة. وحسب موظفّين من العاملين هناك، كان زهير يقوم بنفسه بتملق ورشوة وتهديد الموظفين في مصلحة الضرائب لتسريع وتيرة العمليات البطيئة.
كان عليه التعامل مع تأخيرات أخرى. فمن المفترض لمجلس التدقيق الأعلى – وهو هيئة إشراف كانت ملتزمة بشكل معقول بالمعايير العراقية – منح إذن قبل إصدار مصلحة الضرائب أي شيكات بقيمة كبيرة. لكن في صيف سنة 2021، طلب مسؤول كبير إعفاء المجلس من هذه المسؤولية. وهذا الأمر ترك مصلحة الضرائب مثل “ساحة بلا مدرسين”، على حد تعبير أحد الخبراء الماليين العراقيين.
حسب ما تداولته النخبة العراقية فإن الكثير من الأموال المنهوبة انتهى بها المطاف في العاصمة الأردنية عمان
من هنا بدأت السرقة على أتمّها. عندما وصل طلب الحصول على شيك الخصم، كان الرجال الذين تقاضوا أموالا من زهير يحضرون الأوراق إلى الطابق الخامس في مجلدات مغلفة بالجلد حتى يوقّعها رئيس مصلحة الضرائب. وكان في الطابق الأرضي فرع لمصرف الرافدين حيث يقوم الصرافون بإصدار الشيكات. وقد صُرفت معظم هذه الأموال على الفور في فرع أكبر على بعد بضعة كيلومترات.
طيلة سنة كاملة، جعل زهير بنك الدولة الجامد نموذجًا للكفاءة. أخبرني مسؤول في أحد المصارف الحكومية أن بنك الرافدين يعالج عادة حوالي ملياريْ دينار عراقي في اليوم. وفي يوم واحد خلال السرقة، ارتفع هذا الرقم إلى 40 مليار دينار عراقي. وحسب محاسب يعمل بانتظام مع مصلحة الضرائب، “تم إصدار شيكات بعشرات الملايين في غضون 24 ساعة، مع توفير الأموال نقدًا في اليوم التالي”.
إن سحب 2.5 مليار دولار نقدًا في أقل من عام سيكون تحديًا لوجستيًّا في أي بلد، ناهيك عن بلد كان أعلى قيمة للأوراق النقدية – وهي الورقة التي تساوي خمسين ألف دينار – تعادل حوالي 35 دولارًا، فإذا كانت جميع الأوراق النقدية المسروقة مكدسة فوق بعضها البعض، فإن الكومة سترتفع لتصبح أعلى من جبل كليمنجارو، وكان لا بد من استخدام الشاحنات لنقل أموال السرقة.
كان الحضور والذهاب واضحًا جدًا لدرجة أن مدير شركة كان من المفترض أن تحتكر نقل الأوراق النقدية كتب إلى بنك الرافدين في كانون الثاني/يناير 2022 معربًا عن قلقه، ومع ذلك؛ لا يبدو أن أحداً قد أوقف السيارات.
ليس من الواضح ما الذي حدث للمال بعد ذلك، فيبدو أن بعضه قد تم إنفاقه في العراق؛ حيث أخبرني العديد من السياسيين والمسؤولين عن مجموعة من العقارات التي اعتقدوا أن نور زهير اشتراها في حي المنصور الفاخر، حيث كان يعيش. لكن معظم الأموال، وفقًا لمسؤولين أمنيين سابقين، تم تحويلها إلى دولارات وتم أخذها لما وراء البحار.
كان يجب أن يكون تصدير حقائب مليئة بالدولارات عبر مطار بغداد صعبًا؛ حيث يصعد معظم الركاب على متن الطائرة بعد المرور من خمسة أجهزة للكشف بالأشعة السينية، وفحصين بواسطة كلاب بوليسية وتفتيش جسدي. قال لي عراقي مجهول إن هناك طريقتان للمرور بأقل قدر من التطفل؛ إحداها من خلال صالة المطار التابعة لوكالة المخابرات، والتي هي على عكس قاعة الركاب القذرة، ويعود تاريخها إلى عهد صدام حسين، وتتميز غرفة الانتظار هذه ببلاط أبيض نظيف وأضواء كاشفة وجدران مبطنة بالفن العراقي، فيما تنتظر سيارات ليموزين مرسيدس في الخارج لنقل الركاب من كبار الشخصيات إلى طائراتهم الخاصة. والطريقة الثانية هي من خلال بوابة مغلقة في الجدار المحيط؛ حيث عادة ما تدخل الأحمال الثقيلة.
استخدم زهير كلا الطريقين؛ وفقًا لمعلومات استخباراتية، وكان حراس الأمن يلوحون له حين كان ينتظر في صالة وكالة المخابرات ليركب طائرته الخاصة، وكانت الشاحنات تمر عبر البوابة المؤدية إلى طائرته، ويقول العراقي المجهول إنه رأى ذات مرة الأضواء على المدرج توقفت مع دخول ثماني عربات صغيرة، ولم تضأ الأضواء إلا مرة أخرى بعد عشر دقائق، وفي ذلك الوقت كان من المفترض أن تكون الحمولة قد تم تخزينها. وقام زهير بأكثر من 20 رحلة إلى الخارج في عامي 2021 و2022، ووفقًا لتقرير برلماني كانت الثرثرة بين النخبة العراقية أن الكثير من أموال السرقة انتهى بها المطاف في العاصمة الأردنية عمَّان.
أخبرني موظف مخابرات سابق أنه عندما تلقى زهير أنباء تحقيق قنبر، عرض على وزير المالية، من خلال وسيط، عشرات الملايين من الدولارات مقابل التخلي عن التحقيق. (ويقول مسؤولون آخرون إن عبد الجبار، وزير المالية، كان يبحث عن فرصة لوقف التحقيق ولكنه لم يستطع، فيما نفى عبد الجبار أي اتصال مباشر أو غير مباشر مع زهير). تم تسليم التقرير على أي حال، وبعد أسبوعين تلقى زهير بلاغًا بأنه على وشك الاعتقال، وفقًا لمعلومات استخبارية مختلفة تعمل في القضية، فهرع إلى المطار في سيارة ليموزين وتوجه إلى المدرج حيث كانت طائرته تنتظر، على حد قول المسؤول. لكن قبل أن يتمكن من الإقلاع، اقتحمت قوات الأمن الطائرة واعتقلته. وترددت شائعات عن نقل زهير من سجن المطار إلى مركز احتجاز “كبار الشخصيات” والمزود بحوض سباحة، رغم أن السلطات القضائية تنفي ذلك.
“إنها النخبة التي تشارك الغنائم. لا يوجد أخيار”
بعد فترة وجيزة من اعتقال زهير، تمت الإطاحة بالكاظمي من منصب رئيس الوزراء، وعين المعسكر الموالي لإيران رجلهم محمد السوداني لقيادة الحكومة. وعلنًا؛ تبنى السوداني تحقيق كانبر ووعد بأنه لن يسلم أحد من من طائلة القانون. بعد شهر من ولايته؛ عقد مؤتمرًا صحفيًّا وأمامه مبلغين عملاقين من الدينارات، وأعلن منتصرًا أنه استعاد 125 مليون دولار من زهير، وهو جزء صغير من المليارات المفقودة.
بعد ذلك بوقت قصير؛ أُطلِقَ سراح زهير بكفالة لمدة أسبوعين، وقال العملاء إن هذا كان لمساعدة السلطات على استعادة المزيد من الأموال، وبعد شهور كان لا يزال طليقًا. عندما زرتُ العراق هذا الربيع؛ مررت بجوار قصر زهير في المنصور، وكانت الأضواء مضاءة. وزعم العراقيون الذين تحدثت إليهم أنه كان قد تم رصده في دبي وعمَّان ولندن. في نيسان/أبريل 2023؛ قامت المحاكم بإلغاء تجميد أصوله، وأخبرني أحد مساعدي السوداني أن رئيس الوزراء ليس لديه خيار آخر؛ حيث قال: “لو لم يطلق سراح نور زهير لكان قد فقد رأسه”. عندما سألت مجلة 1843 السوداني عن الإفراج عن زهير، قال المتحدث إن ذلك قرار من المحاكم وليس الحكومة، مضيفًا أنه لم يتم إسقاط التهم الموجهة إلى زهير.
يترأس فائق زيدان رئاسة مجلس القضاء الأعلى، وهو على قمة نظام المحاكم العراقية، وهو ملهم الخوف، وأخبرني سفير سابق ومسؤول سابق في المخابرات العراقية أن لديه القدرة على إخفاء القضايا (ينفي زيدان ذلك، قائلاً إن دوره “إداري فقط”). لقد كان أحد شخصين في العراق قيل لي أنه يجب أن أتجنبهما؛ حيث قال مسؤول سابق: “لديه صلاحيات هائلة، إنه خطير للغاية”.
زيدان شخص ودود بما فيه الكفاية؛ حيث قدم لي تقريرًا مطولًا عن حالة القضية. وسُمح لزهير بالسفر حتى يتمكن من تصفية أصوله الخارجية، والدفع مجددًا للحكومة العراقية، حسبما قال زيدان، ويبدو أن هذا قد أدى بالفعل إلى استرداد حوالي 270 مليون دولار. من المثير للدهشة أن زيدان بدا أيضًا مهتمًا بمنح زهير فائدة الشك، قائلَا إنه ربما كان وكيلًا حقيقيًا للشركات التي تسعى للحصول على خصم.
لم يكن واضحًا على الفور سبب محاولة زيدان تسهيل الحياة على زهير، إذا كان هذا هو ما يحدث (يرفض زيدان الإشارة إلى أي مخالفة في سلوكه). الرجال مثله لا يقدمون مزايدة الوسطاء من البصرة. كان لدى المسؤولين العراقيين الحاليين والسابقين تفسير آخر لقرار إطلاق سراح المشتبه به الرئيسي في السرقة؛ حيث قال أحدهم: “كان زهير مجرد دمية”، وقال آخر: “باتسي”، وقال ثالث: “لقد كان واجهة”؛ لكن لمن؟
سرعان ما بدأت حكومة السوداني في أخذ القضية في اتجاه جديد؛ حيث يبدو أن العملاء قاموا بتحويل تركيزهم بعيدًا عن زهير وبدلًا من ذلك أصدروا أوامر بالقبض على الأشخاص المتورطين في فضحه. (وفقًا لمتحدث باسم السوداني، اعترف زهير بالحصول على مساعدة من كبار المسؤولين في الإدارة السابقة). أثناء تعرضهم للتدقيق؛ بدأ أعضاء من معسكر الكاظمي في الاتصال بي، وكانوا مصرين على أن زهير كان عميلًا لداعمي السوداني: وهم زعماء الفصائل الذين لهم صلات بإيران، كما قال لي أحدهم.
“أوقف زهير سيارته مباشرة خارج الباب الأمامي، وهو امتياز مخصص عادةً لرئيس مصلحة الضرائب وحده، وكان يسير مؤرجحًا مسبحة الذهب الخاصة به”.
أحد أعضاء فريق الكاظمي الذين أزعجوني هو هيثم الجبوري، وهو مستشار مالي، وعلمت من أصدقائه أن الجبوري كان يستخدم زهير كمساعد شخصي عندما كان رئيسًا للجنة المالية البرلمانية. وبحسب مسؤول استخباراتي عراقي يعرف الجبوري شخصيًا، فإن زهير كان يتصل بأصحاب الأعمال التي كانت اللجنة تبحث فيها ويعرض عليهم وقف التحقيقات في مقابل مدفوعات، ويُزعم أن العملية جلبت نحو 200 ألف دولار شهريًًّا. وفي رسالة اطلعت عليها مجلة 1843؛ كان الجبوري هو الذي أوصى بضرورة السماح لمصلحة الضرائب بإصدار شيكات كبيرة دون إشراف هيئة التدقيق الحكومية.
لم يستجب الجبوري لمحاولات مجلة 1843 للوصول إليه للتعليق، لكنه قال لموقع “ميدل إيست آي” الإخباري، إنه اقترح ببساطة أن يظل مجلس التدقيق الأعلى في حدود دوره القانوني، وتم القبض عليه بعد فترة وجيزة من تولي السوداني السلطة. اقترح حلفاء الكاظمي أنني لا يجب أن أقرأ كثيرًا في حقيقة أن الجبوري كان ينصحهم (أوضح أحدهم: “عندما يكون لديك 200 مستشار، أحيانًا يكون هناك تراجع في الحياة البائسة”).
سؤال آخر عن الكاظمي يتعلق بالرحلات الجوية؛ حيث يقع مطار بغداد مباشرة تحت سلطة رئيس الوزراء، وعلى الرغم من حظر السفر من الناحية الفنية لتورطه المزعوم في عملية احتيال سابقة؛ فقد طار زهير بحرية داخل وخارج البلاد خلال الفترة التي تم فيها سحب الأموال من بنك الرافدين. كيف سمح الكاظمي بحدوث ذلك؟
اقترح الكاظمي أن نلتقي في فندق ذا غروف، وهو فندق خمس نجوم مع ملعب غولف فخم خارج لندن مباشرة. كان الكاظمي قد انتقل إلى بريطانيا حفاظًا على سلامته في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، ووصل إلى اجتماعنا في سيارة ليموزين سوداء. “كان ترامب قد مكث هنا”؛ ذكرني بذلك عندما جلسنا لاحتساء الموكتيلات على الشرفة الحجرية. كان الكاظمي هادئًا ومهذبًا، وعلى الرغم من أنه يتحدث الإنجليزية؛ إلا أنه فضل إجراء المقابلة باللغة العربية، وكان يتمتم كما لو كان في محاولة متعمدة لتجنب قول أي شيء يمكن الاستشهاد به.
عندما سألت عن الجبوري؛ أجاب الكاظمي بأنه لا يعرفه، ثم صحح نفسه واعترف بأن تعيين الجبوري كان حقيقة “مظلمة”، وقدم نفسه على أنه ضحية سلبية للظروف. ومع ذلك؛ كان رئيسًا للوزراء، وظل معظم فترة ولايته رئيسًا لجهاز المخابرات في البلاد أيضًا. لا بد أنه كان يتمتع ببعض القوة، ولديه على الأقل فكرة عما يجري. حاولتُ مرة أخرى، وسألتُ ألم يمهد رجاله الأمنيون طريق زهير عبر المطار؟ تهرب الكاظمي تهرب من السؤال، وأجاب: “علينا أولاً أن ننظر إلى مسؤولي البنوك”.
تضارب تبريره لعدم كشف السرقة خلال مجريات محادثتنا. ففي البداية؛ قال إنه خطأ موظفيه، ثم تم تشتيت انتباهه بسبب كوفيد -19 وارتفاع أسعار النفط الذي أعقب ذلك، وموقف إدارة ترامب الذي اتسم بالتصعيد ضد إيران، وأصر على أنه لم يكن هذا القدر من المال، مقارنة بمئات المليارات المنهوبة بسبب الفساد منذ سنة 2003. لم يكن صحيحًا بالتأكيد أن معظم الأموال قد اختفت عبر المطار، والعبارة التي استمر في استخدامها هي: “لا؛ 100 بالمئة”.
لاحقًا كتبتُ إلى الكاظمي وذكرت قصة سمعتها: يتصل أحد أصدقائي بسياسي عراقي احتاج في أيار/مايو 2022، إلى علاج طبي عاجل في الخارج. ووفقًا لمصدري؛ فقد حجز الكاظمي للسياسي مقعدًا على متن طائرة خاصة تحت تصرفه، وعندما صعد السياسي للطائرة، تفاجأ بوجود زهير هناك. قال مصدري إن الطائرة حطّت بالسياسي في عمًان بينما واصل زهير إلى بيروت. رد الكاظمي بنفي قاطع لهذا الادعاء وقال إنه “لا أساس له من الصحة” (في الرسالة نفسها، قال إن الجبوري تم تعيينه كخبير تقني وليس كمستشار، وتم توبيخه في ذلك الوقت لتضخيم دوره).
“كان رئيس المجلس الأعلى للقضاء أحد شخصين في العراق قيل لي أنه يجب أن أتجنبهما. قال مسؤول سابق: “لديه صلاحيات هائلة. إنه خطير جدًّا””.
كانت تعاملاتي مع الكاظمي محبطة، فلا بد أن زهير قد تلقى مساعدة على أعلى المستويات، وأصر كل جانب على أن المساعدة جاءت من الآخَر، ثم اتّضح لي الأمر وتساءلت: لماذا لا يكون للاعبين من كلا الجانبين مصلحة في العملية؟
أخبرني ساجد جياد، محلل سياسي، أنه يعتقد أن سبعة فصائل من مختلف الأطياف قد حصدت مكاسب من السرقة. فالإصلاحيون المدعومون من إيران، والمدعومون من الولايات المتحدة، وأنصار الوضع الراهن، وكل الفصائل تستفيد من مخططات الفساد. وأضاف: “هؤلاء المعارضون يقاتلون بعضهم البعض في العلن لكنهم يعملون سويًا لإثراء أنفسهم، بغض النظر عن المواقف السياسية والأيديولوجية”. وأشار مستشار غربي في بغداد إلى أن بعض قادة الميليشيات الذين تقاتلوا فيما بينهم أرسلوا أطفالهم إلى نفس مدارس بغداد الحصرية، قائلًا: “النخبة هي التي تتقاسم الغنائم؛ لا يوجد رجال شرفاء”.
في ظل غموض السياسة العراقية، بدا قنبر، المحقق السويدي-العراقي، على أنه منارة للوضوح على الدوام، وتحدث بدقة من كل الجوانب، والناس الذين احترمهم بادلوه الاحترام (وصفه علي علاوي، وزير المالية الأسبق، بأنه “ربما الشخص الصادق الوحيد المتبقي في العراق”). كان ذكاؤه محببًا، وكانت خلفية الكمبيوتر المحمول الخاصة به عبارة عن لغز لمدرسة ستوكهولم للاقتصاد، مع وجود قطعة واحدة مفقودة.
ومع ذلك، عندما تعمقتُ في القضية، وجدتُ أن بعض الأشياء حول قنبر لن تضيف شيئًا، فقد كان من المفترض أنه كان مصممًا على استئصال الفساد، لكنه أظهر احترامًا كبيرًا لإحسان عبد الجبار، وزير المالية الذي وظفه. لقد أربكني هذا؛ حيث أخبرني العديد من الأشخاص أن عبد الجبار نفسه قد تم القبض عليه في قضايا فساد مزعومة في الماضي عندما كان في وزارة النفط. (قال عبد الجبار إن القضايا رفعها شخص يحمل ضغينة ضده وأن 90 بالمئة منها تم إغلاقها).
في بعض الأحيان؛ قدم قنبر مثل هذه الإجابات التفصيلية على أسئلتي حول القضية التي شعرت أنني كنت أعاود تحقيقها في الوقت الفعلي، وفي أوقات أخرى كان متحفظًا بشكل غير مفهوم. ولم أفهم أبدًا عدم اهتمامه الواضح بالوجهة النهائية للأموال المسروقة، حيث كان يقول بلا مبالاة: “أنا لم أتابع”.
ثم في حزيران/يونيو؛ ظهرت رسالة بريد إلكتروني مزعجة في صندوق البريد الوارد الخاص بي؛ حيث قام باحث عراقي في واشنطن بتجميع ملف قصير من المواد التي لم يتم التحقق منها عن الكاظمي وقنبر وآخرين، هذا يعني أنهم كانوا جزءًا من شبكة مكّنت من السرقة.
وفقًا للملف؛ لم يكن قنبر غريبًا تمامًا، فقد كان زوج والدته هو معلم الكاظمي، وأشار الملف إلى أن قنبر قد لعب دورًا في تعيين المدير العام لبنك “الرافدين” قبل فترة وجيزة من السرقة. في تطور تسلسلي؛ تم الادعاء أيضًا أن رجلًا تم الإبلاغ عنه ذات مرة وتم القبض عليه فيما يتعلق بعملية احتيال سابقة في “الرافدين”، كان ابن عم قنبر.
التقينا في مقهى بالقرب من شارع أكسفورد في لندن بعد يومين، وظلت قدرة قنبر على التحمل في مناقشة العناصر الفنية للأعمال المصرفية سليمة، يغذيها نيكوتين السجائر والكابتشينو، ولكن عندما طرحت الادعاءات التي تم تداولها، اكتسبت عباراته اللطيفة ميزة أكثر حدة؛ حيث قال إنه كان على دراية جيدة بوجود الملف، والذي وصفه بأنه مسلِِ – على الرغم من أنه لم يكن يبدو مسليًا جدًا – ورفض مزاعمه ووصفها بأنها “ملفقة”.
ومع ذلك تبيّن أن بعض المزاعم كانت صحيحة، فقد اعترف قنبر أنه يعرف الكاظمي جيدًا، لكنه أصر على أنه لم يتعامل مع زوج والدته، وأنهما لم يكونا جزءًا من العصابة.
لقد شارك في تعيين بعض الموظفين الجدد في بنك “الرافدين” بعد فضيحة سابقة، لكنه لم يتخذ القرار الوحيد بشأن التعيينات. ولم يجادل قنبر في أن حميد النجار، الرجل المرتبط بقضية الاحتيال السابقة، هو ابن عمه. في الواقع؛ حاول أن يؤسس معه بنكًا قبل أن تبدأ المشاكل القانونية التي يواجهها النجار. وأخبرني أنه إذا كنت ترغب في القيام بأعمال تجارية في العراق؛ فليس لديك الكثير من الخيارات بشأن نوع الأشخاص الذين تعمل معهم.
“سرقة بنك دولة وإنفاق الأموال ليست آلية عادلة أو خاضعة للمساءلة لتوزيع الثروة، لكنها تمت بسرعة”.
جعلني اللقاء أشعر بالتعاسة، فلطالما أحببتُ قنبر، ولم يشكك أحد في نتائج تقريره، ولم يكن استعداده لإخضاع نفسه لأسئلة الصحفي في جميع ساعات اليوم سلوكًا لشخص لديه شيء يخفيه. وبدا أنه قلق بصدق على سلامته إذا عاد إلى العراق، وهذا الأمر ما كان ليزعج أي شخص لديه أصدقاء أقوياء. (“أنا منديل ورقي. سوف يطردونني”، هكذا قال وهو يلوي معصمه) لكن المقابلة لم تبدد إحساسي بأن هناك الكثير عنه لم أكن أعرفه. بدا قنبر مكتئبًا أيضًا، وقال بضجر ونحن نختتم أعمالنا في وقت لاحق: “أعتقد أننا أضعنا ستة أشهر من حياتنا”.
من المؤكد أن الشعب العراقي لم يبدِ أي اهتمام، فعلى الرغم من أن عبارة “سرقة القرن” انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي العراقية، إلا أنه لم يكن هناك الكثير من الضغط لتقديم مرتكبيها إلى العدالة. في سنة 2019؛ خلال آخر مظاهرة كبيرة ضد الفساد، أطلقت القوات الأمنية الذخيرة الحية على الحشود.
ربما توقف العراقيون عن الاحتجاج؛ حيث أخبرني عدد قليل من الناس أن السرقة قد تكون مفيدة للعراق، لأنها ضخت أموالًا كامنة في الاقتصاد، وقال رجل أعمال عراقي: “من الأفضل إنفاقها في بغداد على تركها في أحد الحسابات”.
بدت بغداد في ربيع هذا العام أكثر إشراقًا مما رأيتها في أي وقت مضى. عندما زرتُ العراق لأول مرة في الأشهر الأخيرة من ديكتاتورية صدام، كانت المدينة كئيبة واهنة، وكانت الصحراء تلقي بظلالها على المباني التي تحيط بالمدينة.
الآن أصبحت مليئة بالألوان، وكانت المباني السكنية الجديدة تنتشر في كل مكان، وتم افتتاح المطاعم، وإصلاح الأرصفة التي دمرتها دبابات أمريكا، لقد أعيد بناؤها في النهاية. كانت أضرحة الأولياء الشيعة، المبنية من الآجر العاري في عهد صدام، تتلألأ بأحجار الكريستال، وقد تكون بعض الأموال التي استخدمت في ذلك، من أموال السرقة.
إن سرقة بنك الدولة وإنفاق الأموال ليست آلية عادلة أو خاضعة للمساءلة لتوزيع الثروة، لكنها تمت بسرعة.
يبدو من غير المحتمل أن أيًا من المستفيدين الحقيقيين من السرقة، أيًا كان، سيواجه العدالة. إن الشعور بالذنب الذي يتملّك النخبة السياسية بأكملها يعني أن هناك القليل من مساءلة الأفراد، وعلى الرغم من أن مكتب السوداني يصر على أنه يلاحقهم بشكل صارم، كانت هناك إعلانات قليلة منذ مؤتمره الصحفي العام الماضي. قال لي الكاظمي عندما انتهينا من عصير الكوكتيل في لندن: “لنكن واقعيين. سوف تذهب هذه الأموال نوعًا ما في مهب الريح. سوف تختفي، تختفي”.
المصدر: الإيكونوميست