في سبتمبر/أيلول 2022، انسحب وزير الخارجية المصري سامح شكري من اجتماع جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري، بالعاصمة المصرية القاهرة، اعتراضًا على تسليم رئاسة الدورة الـ158 لوزيرة خارجية حكومة الوحدة الوطنية الليبية نجلاء المنقوش، فقد اعتبرت القاهرة حكومة غرب ليبيا برئاسة عبد الحميد الدبيبة منتهية الولاية.
في العام التالي، وتحديدًا في منتصف مايو/أيار 2023، استقبل الدبيبة وفدًا مصريًا من المخابرات ورجال الأعمال للاتفاق على تنفيذ مشروعات، بعد يومين فقط من وقف الجنرال خليفة حفتر، حليف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عمل حكومة فتحي باشاغا بالشرق المكلفة من البرلمان والمدعومة من القاهرة، بدعوى عدم قدرته على دخول طرابلس، وما ارتكبته حكومته من أخطاء مالية.
أثار الفارق بين الموقفين العديد من التساؤلات عن طبيعة موقف مصر من الأزمة الليبية، وما إذا كانت مصر تقف عند نقطة تحول في إستراتيجيتها من معسكر الشرق إلى معسكر الغرب، وبالتالي فيما يتعلق بمساهمة القاهرة المحتملة في حل سلمي عوضًا عن الحل العسكري.
عندما غاب الحياد
لمعرفة مدى التحول الذي حصل في الموقف المصري تجاه الأطراف المتنازعة في ليبيا خلال السنوات الأخيرة، علينا أولًا تركيز الانتباه على تحركات الجهات الفاعلة المحلية، والوقوف على النهج المصري المتحيز لتقييم دورها في السعي لتهدئة حقيقية بين الفصائل الليبية المتنافسة.
بدءًا من منتصف عام 2014، اتخذت العلاقات المصرية الليبية منعطفًا حادًا، بعد أن أطلق اللواء المتقاعد خليفة حفتر “عملية الكرامة”، ما رسخ الانقسام في المؤسسات الحاكمة بين معسكر الشرق الليبي الذي يقوده حفتر، ويوجد فيه البرلمان، ومعسكر الغرب ممثلًا في حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا والمدعومة من تركيا، التي تشكلت في فبراير/شباط 2016، ويقودها الدبيبة منذ عام 2021.
عطّل فشل حملة حفتر العسكرية للاستيلاء على طرابلس الإستراتيجية المصرية، وأجبر القاهرة على إعادة النظر في خططها، بل التخلي عن حفتر وعدم المراهنة عليه مرة أخرى
منذ بداية الانقسام، لم تخف السلطات المصرية انحيازها السياسي والعسكري لصالح معسكر الجنرال خليفة حفتر في شرق ليبيا، وقدَّم له السيسي – بعد الانتخابات الرئاسية المصرية عام 2014 – دعمه العسكري واللوجستي والاستخباراتي الكامل، معتبرًا إياه المرشح المثالي لاستعادة الاستقرار في ليبيا وحماية المصالح الإستراتيجية لمصر وتجنب التدخل المباشر والمكلِّف في البلاد.
بدأ التدخل المصري في ليبيا مبكرًا، ففي أغسطس/آب 2014، نفَّذت الطائرات الحربية المصرية ضربات جوية استهدفت مواقع لقوات “فجر ليبيا” في العاصمة طرابلس والمنطقة الغربية، وكثَّفت مصر دعمها العسكري لحفتر منذ ذلك الوقت، وشنت غارات جوية متكررة على مدينة درنة، خارج سيطرة قوات حفتر حتى منتصف 2018، وكان لها دور حاسم في المعارك التي اندلعت بين قوات حفتر و”مجلس شورى ثوار بنغازي” على مدى أكثر من ثلاث سنوات.
لم يؤد التصديق على “اتفاق الصخيرات” السياسي الليبي في ديسمبر/كانون الأول عام 2015 إلى تغيير جوهري في الموقف المصري من الصراع في ليبيا، ورغم أن الاتفاقية أنتجت مؤسسة حاكمة معترف بها دوليًا، ممثلة بمجلس الرئاسة الليبي وحكومة الوفاق الوطني، فإن مصر واصلت دعمها السياسي والعسكري والإعلامي لحفتر، دون رفض رسمي لنتائج الاتفاقية.
بعد ذلك، كانت نقطة التحول الرئيسية في علاقة مصر بحفتر ممثلة في الهجوم الذي شنته قواته على العاصمة طرابلس والمنطقة الغربية في أبريل/نيسان 2019، وقد تلبَّس الجنرال طور الفاتحين الأوائل، وسعى إلى “تحريرها من قبضة الميليشيات والجماعات المسلحة الأخرى” كما قال.
بعد هذا الهجوم، تصاعد التدخل الإقليمي في ليبيا، وظهرت جهات فاعلة جديدة، فقبل أسبوع من حملته العسكرية، اُستقبل حفتر في الرياض على أعلى مستوى بالنسبة لضابط غير ذي صفة، واُتهم العاهل السعودي بإجزال العطاء لحفتر لحسم المعركة في طرابلس، ومثَّلت الإمارات، وخصوصًا مصر، أبرز وأهم مكونات الدعم الإعلامي والسياسي والعسكري لحفتر، حيث يمثل جلوس جنرال غرب الجنرال السيسي على أرض فاحشة الثراء إغراءً تصعب مقاومته، ثم انضمت إليهم روسيا من خلال نشر مرتزقة “فاغنر” في ساحات القتال الجنوبية بطرابلس وسرت وحي الجفرة، ما أدى إلى إحكام الخناق على قوات حكومة الوفاق الوطني داخل العاصمة.
مع ذلك، شهدت الساحة العسكرية تحولًا كبيرًا بعد أن وقَّعت حكومة الوفاق الوطني اتفاقية عسكرية مع تركيا في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 لترسيم الحدود البحرية، وقدمت من خلالها الدعم العسكري لحكومة الوفاق، ما مكَّنها من استعادة جميع مدن المنطقة الغربية من قوات حفتر، وقلل من فرص تحقيق نصر عسكري، وشجع الجانبين على اختيار وقف إطلاق النار.
كما عطّل فشل حملة حفتر العسكرية للاستيلاء على طرابلس، الإستراتيجية المصرية، وأجبر القاهرة على إعادة النظر في خططها، بل والتخلي عن حفتر بعد أكثر من عام على حملته وعدم المراهنة عليه مرة أخرى بحسب ما نقل موقع “مدى مصر” عن مسؤولين ليبيين ومصريين، ما قلص دعمها للجنرال مع الانفتاح على حل سياسي افتراضي.
وزادت تحفظات مصر على السلوك العسكري “المتهور” لحفتر عندما أصبح فشله عبئًا فوريًا عليها، خاصة بعد هزيمة هي الأولى لجيش يشن الضربة الأولى ويتوعد، وفي كل مرة كان يستعرض عضلاته، يتحول الانتباه إلى مصر باعتبارها الداعم الرئيسي له، الأمر الذي جعل حكومة السيسي تفقد أي ادعاء بالحياد.
ويُنظر إلى وجود رئيس مجلس الرئاسة الليبي محمد المنفي وغياب حفتر خلال حفل افتتاح “قاعدة 3 يوليو البحرية” على سواحل البحر الأبيض المتوسط القريبة من الحدود مع ليبيا كدليل آخر على التناقض النسبي للعلاقة بين الجانبين، وأن مصر بدأت في تعديل نهجها، مع تركيز اهتمامها على السلطات المدعومة دوليًا في طرابلس، وبالمقارنة، كان حفتر حاضرًا خلال افتتاح “قاعدة محمد نجيب” عام 2017.
من معسكر الشرق إلى الغرب.. ما الذي تغير؟
في سبتمبر/أيلول 2020، استقبل السيسي رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح والمشير خليفة حفتر بحضور رئيس المخابرات العامة المصرية عباس كامل، وأثنى على جهود حفتر في مكافحة الإرهاب والتزامه بوقف إطلاق النار، وتحركات صالح لدعم المسار السياسي وتوحيد المؤسسات التنفيذية والتشريعية في ليبيا.
لم تمر أشهر قليلة حتى وصل وفد مصري رسمي إلى العاصمة الليبية طرابلس، في 27 ديسمبر/كانون الأول 2020، في خطوة أولى من نوعها منذ منتصف عام 2014، وضم الوفد نائب رئيس المخابرات العامة أيمن بديع، والسفير محمد أبو بكر مسؤول الملف الليبي بوزارة الخارجية، وكوادر دبلوماسية وأمنية من وزارات الخارجية والداخلية والدفاع.
– برنامج زيارة الوفد الرسمي المصري إلى طرابلس في 27 ديسمبر/كانون الأول 2020
لن تجد لهذه الزيارة مكانًا ضمن التسلسل الزمني الذي رصدته الهيئة العامة للاستعلامات (هيئة حكومية مصرية تتبع رئيس الجمهورية) بشأن فعاليات الدور المصري في ليبيا، في حين حرصت المصادر الرسمية المصرية على وضعها في إطار التقاليد الدبلوماسية المصرية.
وفي محاولة لرأب الصدع بين الفصائل الليبية، تحدثت التقارير الصادرة عن وزارة الخارجية الليبية عن أن المباحثات ركزت على تفعيل الاتفاقيات الاقتصادية المشتركة واستئناف الرحلات الجوية بين القاهرة وطرابلس وإعادة فتح السفارة المصرية في طرابلس.
أثار حينها استئناف الاتصالات بين الطرفين بعد قرابة ست سنوات من القطيعة جملة من التساؤلات عن دوافع الزيارة التي يمكن النظر إليها في سياق التعبير عن ميل مصري للرضوخ في غياب خيار عسكري يحسم الصراع لصالح حفتر والمحور الإقليمي والدولي الداعم له.
يبدو واضحًا أن القاهرة لن تخوض مواجهة عسكرية مباشرة مع قوات حكومة الوفاق المدعومة من تركيا أو تتجنب الانغماس الكامل في الصراع الليبي، رغم تحذيرات السيسي لتركيا من عواقب استمرار تقدم قوات الوفاق الوطني باتجاه الشرق، بعد أن طردوا قوات حفتر من جميع مناطق غرب ليبيا.
أدركت مصر أن التحيز تجاه معسكر حفتر، بالتوازي مع الانهيار الأمني والانقسام السياسي والمؤسسي في ليبيا، أدى إلى إلحاق أضرار جسيمة بالمصالح الاقتصادية المصرية في ليبيا
ويمثل إطلاق عملية التسوية السياسية في ليبيا “ملتقى الحوار السياسي الليبي” برعاية بعثة الأمم المتحدة في أواخر عام 2020، عاملًا آخر يضغط على القاهرة لتعديل سياستها ومواكبة تطورات الملف الليبي بعدما أخطأ حفتر الحسابات، وتضاءلت خياراته العسكرية، ما يوفر حوافز جديدة للقاهرة لفتح قنوات اتصال مع جميع الأطراف والامتناع عن الرهان على جانب أو آخر.
أعادت القاهرة علاقتها بمجلس النواب الليبي، فرع طبرق ورئيسه عقيلة صالح، وفي الوقت نفسه، تواصلت مع فرع البرلمان في طرابلس، ما شجع صالح على توسيع دائرة علاقاته والدخول في محادثات مع المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، وزعيمه المرتبط بجماعة الإخوان المسلمين خالد المشري، وفسرت القاهرة نهج صالح على أنه شكل من أشكال البراجماتية السياسية، ومع ذلك، سعت مصر إلى الحفاظ على تماسك الجبهة الشرقية، حتى مع تغير حساباتها.
في ضوء هذه التحولات، استغلت القاهرة تحركاتها بين الأطراف المتقاتلة في محاولة لإثبات أن علاقتها مع ليبيا لم تقتصر على الشرق، وانفتحت أمام العديد من اللاعبين في الغرب والجنوب لأداء دور أكثر فاعلية واحتواء نفوذ تركيا الداعم لمعسكر الغرب والمستفيد بشكل كبير من غياب مصر عن طرابلس.
المثال الأبرز على ذلك – كما سبق الإشارة في مقدمة المقال – يتمثل في الزيارة الأخيرة لوفد من شخصيات استخباراتية وأمنية وعسكرية مصرية ورجال أعمال يتقدمهم رجل الأعمال المقرب من جهاز المخابرات المصرية إبراهيم العرجاني إلى العاصمة طرابلس، وتشير هذه الزيارة إلى تحول كبير في تعامل مصر الرسمي مع الملف الليبي بعد استعادة هادئة للعلاقات مع معسكر الغرب، وذلك عبر “بوابة الاقتصاد”، رغم إعلان القاهرة في سبتمبر/أيلول الماضي، اعترافها بالحكومة المكلفة من مجلس النواب في فبراير/شباط 2022، برئاسة باشاغا بعد إعفاء حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة الذي رفض القرار.
ومع ذلك، لا يزال الأمن يلوح في الأفق في التعاملات المصرية الرسمية على الساحة الليبية، فقد تجاوزت الأمور التي تمت مناقشتها مع مسؤولي حكومة الوفاق الوطني، المخاوف الأمنية المباشرة، وامتدت المباحثات إلى تفعيل الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة سابقًا وإقامة روابط جوية وإعادة فتح الخدمات الدبلوماسية والقنصلية المصرية في طرابلس.
على الجانب الآخر، شهد معسكر الشرق انقسامات بين أطرافه شجعت القاهرة على المضي قدمًا في تغيير نهجها بليبيا، فمع الإطاحة بحكومة باشاغا، أراد صدام نجل حفتر الموصوف بـ”الذراع الطولى للإمارات في شرق ليبيا والزعيم الفعّال للجيش الوطني الليبي منذ حرب طرابلس”، الذي يقود لواء “طارق بن زياد” المتهم بارتكاب جرائم حرب، الإطاحة برئيس البرلمان عقيلة صالح، لكنه نجا من نفس مصير باشاغا بتدخل مصري، وهو ما لم يُرضِ أبناء حفتر، خاصة صدام، الذي لم يسعده التحالف مع باشاغا في المقام الأول.
اقتصاديًا، ربما أدركت مصر أن التحيز تجاه معسكر حفتر، بالتوازي مع الانهيار الأمني والانقسام السياسي والمؤسسي في ليبيا، أدَّى إلى إلحاق أضرار جسيمة بالمصالح الاقتصادية المصرية في ليبيا، مع تراجع العمالة المصرية الوافدة، وانخفاض قيمة التحويلات التي تضخ في الاقتصاد المصري المنهك، وتراجع الصادرات المصرية إلى السوق الليبي إلى ما يقرب من الربع.
نتيجة لما سبق، يرى الباحث بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى بين فيشمان أن مصر قد يكون لديها حاليًّا دافع أكبر لمرور استقرار ليبيا عبر بوابتها السياسية والاقتصادية، لكنه يتساءل ما إذا كانت القاهرة ستغلِّب السياسة وتبقي على الوضع الراهن في معسكر الشرق أو تفضل مصالحها الاقتصادية الناتجة عن قيام حكومة ليبية مستقرة، خاصة فيما يتعلق بتوفير فرص العمل للعمال المصريين في ليبيا كما كان عليه الوضع قبل ثورة 2011.
ومن شأن التقارب مع معسكر الغرب أن يخفف من الأزمة الاقتصادية التي شملت تخفيض قيمة العملة ونقص السلع الأساسية وارتفاع نسب التضخم، حيث تطمع مصر في إسناد حصة كبيرة من مشروعات إعادة الإعمار الجارية في ليبيا إلى شركاتها، وتفعيل الاتفاقات الاقتصادية، والتوسط في إمكانية قيام شراكة اقتصادية مصرية تركية عبر المشروعات في ليبيا، والمساعدة في تثبيت الجنيه المصري عبر تقديم ودائع دولارية إضافية للبنك المركزي المصري بعدما أودعت ليبيا 700 مليون دولار نهاية عام 2022، لكن هذا لن يحدث إلا بعد استعادة العلاقات والاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية بحسب ما نقلت صحيفة “العربي الجديد” عن دبلوماسي مصري.
ربما تبدو الحكومة المصرية مستعدة في الوقت الحاليّ لدعم حكومة الدبيبة المستمرة في أداء مهامها، ويتضح ذلك من خلال اقتراح إعادة فتح السفارة المصرية في طرابلس، وتوقيع العديد من مذكرات التفاهم في القطاعات الأساسية – بما في ذلك المواصلات والنقل الطاقة والاتصالات والبنية التحتية والاستثمارات والصحة – خلال زيارة رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي مع 11 وزيرًا العاصمة الليبية طرابلس في أبريل/نيسان 2021، وهي الزيارة الأولى من نوعها لمسؤول كبير منذ قيام الثورة الليبية عام 2011.
تطورات إقليمية.. هل تغيرت خريطة التحالفات؟
كانت تطورات الوضع السياسي والعسكري الليبي، بالإضافة إلى السياقات الإقليمية والدولية، دوافع رئيسية أخرى، فقد مثّل دخول تركيا على مسرح الصراع السياسي والعسكري – دعمًا لحكومة الوفاق الوطني – تحديًا رئيسيًا للمحور الإقليمي ومصر في صميمه، وظهر تأثير التحدي بشكل واضح في الميدان، حيث أفضت الإخفاقات العسكرية إلى إعلان وقف إطلاق النار وانطلاق مسارات الحوار بين الفصائل الليبية.
الخلاف المصري التركي لا يتعلق فقط بموقف البلدين من أطراف الصراع الليبي، فقد أدَّى توقيع الاتفاقية البحرية بين تركيا وليبيا إلى تصعيد الخلافات الجيوسياسية القائمة بين تركيا من جهة واليونان ومصر و”إسرائيل” من جهة أخرى، وتجلى ذلك من خلال الخطاب السياسي والإعلامي المصري، الذي وصف استمرار الوجود التركي في ليبيا بأنه “مشروع للهيمنة التركية وتهديد للأمن القومي المصري”.
تدرك مصر جيدًا أن أمنها القومي واستقرارها الداخلي مرتبطان حتمًا بأمن ليبيا، وهذا أحد الأسباب التي دفعتها إلى إعلان تقدم القوى الغربية نحو حدودها في يونيو/حزيران 2020 “خط أحمر”، وقبلت على الفور وقف إطلاق النار الذي اقترحته حكومة الوفاق الوطني في أغسطس/آب 2020، دعمًا لجهود بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا لاستئناف الحوار الوطني بين الأطراف المتنافسة، كما دعمت مصر وقف إطلاق النار الموقع في جنيف في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020.
اللافت أن القطيعة السياسية بين مصر وتركيا بلغت مستويات تنذر بالخطر بسبب الملف الليبي، فقد دعمت مصر معسكر الشرق بينما دعمت تركيا معسكر الغرب لأعوام
ورغم الخلافات العميقة بين الطرفين (المصري والتركي) بشأن الملف الليبي ونفوذ كل منهما في شرق البحر المتوسط، تضمنت المواقف التركية دعوات ضمنية للحوار والتهدئة، ونجحت أنقرة في فتح قنوات اتصال مع فاعلين سياسيين في شرق ليبيا، فاستقبلت مبعوثًا من رئيس مجلس النواب في طبرق عقيلة صالح فيما يبدو أنه محاولة تركية لاستغلال التناقضات داخل معسكر طرابلس.
رغم أن مثل هذه الاجتماعات – الخارجة عن السياسة التركية المعتادة تجاه فرقاء ليبيا – لم تسفر عن تقدم في المشاورات في الآونة الأخيرة، فإن التطورات الرئيسية في مصر وتركيا، الخصمان اللدودان منذ وقت طويل بشأن ليبيا، تمثل فرصة نادرة لإحداث تغيير إيجابي في هذا الإطار، وليس من المستبعد أن تحاول مصر أيضًا الاستفادة من هذه التناقضات خاصة بعد أن شعر بعض المسؤولين أن الحوارات التي تقودها الأمم المتحدة قد تهمشهم.
اللافت أن القطيعة السياسية بين مصر وتركيا بلغت مستويات تنذر بالخطر بسبب الملف الليبي، فقد دعمت مصر معسكر الشرق بينما دعمت تركيا معسكر الغرب لأعوام، رغم ذلك، كان هذا الملف نفسه سببًا في تواصل لقاءات عسكرية استخباراتية مصرية تركية على مدار الأشهر الماضية، حتى انتهت الفجوة السياسية بين القاهرة وأنقرة بالمصالحة وعودة العلاقات الدبلوماسية والاتفاق على تبادل السفراء، ومهَّد الطريق أمام التفاهم في ليبيا بعد قطيعة استمرت قرابة عشر سنوات.
في حسابات السياسة، يسعى البلدان عبر تقاربهما إلى حل عدة ملفات عالقة بينهما، فالتقارب المصري التركي قد ينعكس إيجابًا على ملفات إقليمية كالملف الليبي، في ظل رغبة البلدين في حل الأزمة الليبية أو تهدئتها على أقل تقدير، ما قد يعود على البلدين بفوائد أكبر من الموجودة الآن.
تمتد السياقات الإقليمية للتغييرات في السياسة المصرية تجاه ليبيا إلى ما وراء التنافس التركي المصري على الساحة الليبية والصراع على النفوذ في شرق البحر المتوسط، ويُشار هنا بحسب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات إلى أن التدخل العسكري الروسي من جانب حفتر جاء على حساب الدور المصري كدليل على التفاهمات الثنائية التركية الروسية بشأن ليبيا التي لم تكن القاهرة طرفًا فيها.
بالإضافة إلى ذلك، تتزايد مخاوف مصر من قضايا الأمن المائي والنزاع بشأن إنشاء مشروعات المياه، لا سيما بناء سد النهضة وملئه، والتوتر المتصاعد في علاقتها مع إثيوبيا التي يبدو أن الإمارات تتعامل مع رئيس وزرائها كحليف، دون الالتفاف إلى الموقف المصري أو الالتفات إلى نضال مصر للانخراط في أكثر من صراع إقليمي واحد في وقت واحد.
في هذا السياق، يثير النهج المصري الجديد تجاه ليبيا تساؤلات عما إذا كان هذا قد يمثل بداية تمايز عن نهج إماراتي لا يزال مستمرًا في دعم حفتر بلا هوادة، ويراهن على خيار التسوية العسكرية لصالحه، رغم استقبال الرئيس الإماراتي محمد بن زايد رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، في 15 فبراير/شباط الماضي، لكن بحسب المتحدث السابق باسم المجلس الرئاسي بحكومة الوفاق محمد السلاك، فإن مثل هذه العلاقات لا تعني أنها على حساب طرف آخر.
وعلى عكس الإمارات التي ما زالت تؤرقها “فوبيا” ثورات الربيع العربي، تدرك مصر تمامًا أن حالة الانقسام السياسي في ليبيا لن تخدم مصالحها في هذه المرحلة، وبالتالي تميل نحو الهدوء في ليبيا ومعها تركيا، وراهنت على إعادة إطلاق المسار الدبلوماسي، لتظهر على أنها اللاعب الأكثر طلبًا للتسوية بين داعمي الجنرال الليبي.
ووفق محللين، ربما تبحث مصر عن صفقة جيدة سياسيًا، فهي تدرك أن المواقف الدولية لن تقبل بحكومة موازية أو حكومة جديدة بخلاف حكومة الدبيبة، وتعلم أن أي محاولة لن تكون مجدية، بالإضافة إلى حالة عدم الاستقرار في ليبيا خلال هذه المرحلة.
في هذا الصدد، يمكن النظر إلى استعادة القاهرة للعلاقات الدبلوماسية مؤخرًا مع حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس على أنها محاولة مصرية لإعادة ضبط إستراتيجيتها من أجل تجنب التصعيد العسكري الذي لا تستطيع الدولة تحمله، خاصة مع انخراطها بالفعل بعدة جبهات.
وربما تكون الأحداث الساخنة في السودان إعادة تذكير في هذا الشأن، إذ يُتَّهم حفتر بدعم قوات الدعم السريع التي تقاتل الجيش السوداني للسيطرة على حكم البلاد، وهو ما يتعارض مع توجه حليفه السيسي الداعم لقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، ومن شأنه أن يربك الوضع أكثر في السودان الجار القريب لمصر.
على صعيد آخر، تواجه مصر نوعًا من التهميش في مسألتين تعتبرهما أساسيتين من حيث حضورها الإقليمي، ففي الآونة الأخيرة، تسارعت وتيرة التطبيع بين عدة دول عربية و”إسرائيل”، وانهار الحصار المفروض على قطر منذ يونيو/حزيران 2017، وواجهت مصر ضغوطًا سعودية للموافقة على رفع الحصار والمصالحة مع قطر، مقابل ضغط إماراتي للتشديد على قطر.
تخشى القاهرة أن يؤدي تطبيع المزيد من الدول العربية لعلاقاتها مع “إسرائيل” إلى تراجع دورها في الشرق الأوسط وفي أي تسوية قد تروِّج لها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بشأن القضية الفلسطينية أو في منطقة القرن الإفريقي، التي تشهد تعاونًا إسرائيليًا إماراتيًا يتخطى المشاورات مع مصر.
تخشى القاهرة أن يؤدي عزلها عن أي عملية تسوية تُطلق في ليبيا إلى فقدان النفوذ وتراجع الوضع الإقليمي إذا استمرت في تفضيل جانب ليبي على الآخر
أمَّا الأزمة الخليجية، فيبدو أن التحرك نحو تسوية جرى بعيدًا عن حسابات مصر رغم دورها الفعال في فرض الحصار على الدوحة، وتسببت مثل هذه السياسات المنحازة وغير المدروسة في نزاعات المنطقة، بما في ذلك الصراع الليبي، في إلحاق أضرار جسيمة بالأمن المصري والمصالح الاقتصادية، وقد تكون مصر بصدد إعادة النظر فيها.
في هذه المرحلة، يصبح من الضروري لمصر أن تنأى بنفسها بحذر عن الإستراتيجية السعودية والإماراتية لتصور دور أكثر استقلالية وتيسيرًا للسلام في الملف الليبي، في الوقت نفسه، من مصلحة القاهرة إبداء مزيد من الاعتدال على المستوى الدولي لتجنب الصراعات المحتملة مع إدارة جو بايدن الديمقراطية.
كذلك تخشى القاهرة أن يؤدي عزلها عن أي عملية تسوية تُطلق في ليبيا إلى فقدان النفوذ وتراجع الوضع الإقليمي إذا استمرت في تفضيل جانب ليبي على الآخر، وأنها قد تظل معتمدة كليًا على الإذعان للعب أدوار ثانوية في المشاريع الإقليمية، ما من شأنه أن يغير النهج المصري السائد منذ وصول السيسي إلى السلطة قبل عشر سنوات.
ومع ذلك، تبدو العلاقة بين مصر وحفتر معقدة للغاية، فهو لا يزال ورقة رابحة من بين أمور أخرى لمصر في الأزمة الليبية، سواء في حالة الحرب أم السلام، ويمارس المشير نفوذه العسكري ويلعب دورًا في محاربة الإرهاب بطريقة ساعدت مصر على تأمين جزء من حدودها مع ليبيا، هذا رغم أنه لا يتمتع بالشرعية السياسية، وإذا تعاملت أي قوى معه سرًا أو علنًا، فذلك فقط لأنه جزء من الواقع على الأرض.
يعني الغموض المحيط بالعملية السياسية وعدم تصميم المجتمع الدولي على التعامل مع التدخلات الأجنبية والمرتزقة أن الحرب يمكن أن تندلع مرة أخرى بنفس الشدة السابقة
وتنأى مصر بنفسها عما يسمى “الجيش الوطني الليبي” في الشرق – الذي صار خليطًا غير مفهوم يضم بين صفوفه متهمين دوليًا بجرائم حرب – دون أن تقطع فعليًا علاقاتها بهذه القوة، وترى أن البديل الوحيد لها الآن هو العمل على توحيد القوات المسلحة كعامل أساسي في أمن واستقرار ليبيا، بما في ذلك الحدود مع مصر.
في الوقت نفسه، لا تزال مصر تخشى شبح التقسيم، وترى الحاجة إلى قوة عسكرية يمكنها الحفاظ على تماسك المنطقة الشرقية لليبيا، لأنها منطقة ذات أهمية قصوى لمصر، وهو ما يفسر الهوس الأمني الذي يهيمن على عملية صنع القرار المصري لدرجة أن السياسة الخارجية بشأن ليبيا تتشكل من أجهزة المخابرات والأمن الأقرب إلى السيسي، وليس من وزارة الخارجية.
ويبدو أن مصر تسعى لإيجاد دور لها في القوات المسلحة المستقبلية التي ستنشأ عن إصلاح القطاع الأمني في ليبيا، وترى أن تهميش حفتر ورجاله فيها قد يؤدي إلى تصاعد نفوذ معسكر الغرب وتقوية الجماعات المسلحة المتحالفة مع تركيا، خاصة أن العملية السياسية الحاليّة لم تتحدد بعد.
فرغم رعاية الأمم المتحدة، لم تنجح لجنة “6+6” المعنية بصياغة قوانين الانتخابات في التوافق بشأن قواعد وموعد الانتخابات الليبية الرئاسية والتشريعية، ما يعني استمرار حكومة الدبيبة حتى إقامة الانتخابات، ومع ذلك، رحبت مصر بجهود اللجنة.
ويعني الغموض المحيط بالعملية السياسية وعدم تصميم المجتمع الدولي على التعامل مع التدخلات الأجنبية والمرتزقة أن الحرب يمكن أن تندلع مرة أخرى بنفس الشدة السابقة، خاصة في المنطقة الشرقية التي تعتبرها مصر جزءًا من مساحتها الحيوية إلى جانب ثرواتها النفطية التي لا ينبغي أن تقع في أيدي خصوم القاهرة، ومن المرجح أن تحدد هذه الاعتبارات نهج مصر المتذبذب من حفتر وسياساتها في ليبيا في المستقبل المنظور.