شهدت الساعات الـ48 المنقضية أكثر من مبادرة تقدمت بها الحكومة المصرية ممثلة في جهازها المصرفي والبنكي من أجل توفير العملات الأجنبية وحث المواطنين على إدخار ما لديهم من سيولة دولارية في البنوك والمصارف الرسمية دون أي تعقيدات إدارية، في تحول هو الأول منذ الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد خلال الأعوام الخمس الأخيرة.
المبادرات أطاحت بالمرتكزات الأمنية والإدارية التي كانت تتشبث بها السلطات المصرية في السابق، وكانت حائلًا أمام الكثير من المحاولات والمساعي التي قام بها المواطنون لإنعاش خزائن الدولة بمئات الملايين من العملات الصعبة نظير بعض التسهيلات التي كانت خطًا أحمر في السابق.
“إذا كان معك مليون دولار أودعها ولن نسألك عن مصدرها”.. شهادات دولارية جديدة في #مصر بعائد مرتفع، فما مؤشر ذلك على #الاقتصاد_المصري؟#الحرة #شاهد_الحرة #الحقيقة_أولا #الدولار #الجنيه pic.twitter.com/3ekaibpy4d
— قناة الحرة (@alhurranews) July 27, 2023
وتضمنت التسهيلات بعض المسائل التي كان ممنوع الاقتراب منها قبل عدة أشهر، كالتشديد بشأن مصادر الأموال ومنافذها التي وسعت الفجوة بين رؤوس الأموال المملوكة للمواطنين والبنوك الرسمية، الأمر الذي ساهم في خلق وتعزيز السوق الموازية (السوق السوداء) التي سحبت البساط بشكل كبير من النظام المصرفي الشرعي.
وتباينت ردود الفعل إزاء تلك المبادرات، فالبعض يراها خطوة جيدة لطمأنة المواطنين وحثهم على ادخار أموالهم في البنوك، حتى لو جاءت متأخرة نسبيًا، فيما يراها آخرون مسألة محاطة بالكثير من الشكوك وتنطوي على مخاطر جمة تثير قلق أصحاب رؤوس الأموال.. فهل تنجح تلك التحركات في تحقيق الهدف منها؟
3 مبادرات
المبادرة الأولى: ما كشفه نائب رئيس مجلس إدارة البنك الأهلي (حكومي) يحيى أبو الفتوح بشأن شهادتي ادخار بالدولار لمدة 3 سنوات وبسعر عائد 7 و9%، مؤكدًا خلال مداخلة هاتفية عبر قناة “صدى البلد” المملوكة لرجل الأعمال الداعم للنظام الحالي، محمد أبو العينين، أن جميع المصريين يحق لهم شراء تلك الشهادات دون سؤال العميل عن كيفية الحصول على هذه الأموال، قائلًا: “لو معاك مليون دولار ادخل البنك واعمل الشهادة ومحدش هيقولك أنت جايب الفلوس منين”.
المبادرة الثانية: ما أعلنته وزارة الخارجية المصرية بشأن السماح للمصريين بالخارج، ممن سافروا دون أداء الخدمة العسكرية الإلزامية، بتسوية أوضاعهم التجنيدية بشكل كامل ونهائي نظير سداد مبلغ “5000 دولار أو يورو، ويسدد على حساب بنك مصر فرع أبو ظبي”، بحسب البيان الذي شدد على أنه لن يُسمح بتجديد جوازات السفر للمصريين المقيمين بالخارج إلا بعد تسوية مواقفهم من التجنيد.
وتقول الوزارة إن إطلاق تلك المبادرة جاء للتخفيف عن المواطنين بالخارج، فبعضهم يتردد في العودة لأرض الوطن، خشية عدم القدرة على المغادرة مرة أخرى بسبب عدم التصريح لهم بالسفر كونهم مطلوبين للخدمة العسكرية، ومن ثم فإن دفع هذا المبلغ سيغلق هذا الملف نهائيًا ويسمح للمغترب بالعودة مرة أخرى.
ومن المقرر أن يتم “استقبال كل الطلبات على الموقع للمقيمين بالخارج ممن حل عليهم الدور في سن التجنيد اعتبارًا من سن 19 عامًا وحتى سن 30 عامًا وكذا ممن تجاوزوا سن 30 عامًا لتسوية موقفهم التجنيدي طبقًا للموقف”، بحسب البيان الذي نشرته وزارة الخارجية على صفحتها الرسمية على الإنترنت.
المبادرة الثالثة: ما أعلنه البنك العربي الإفريقي بشأن شهادة ادخار بسعر فائدة تراكمي مدفوع مقدمًا يصل إلى 40%، وهي المبادرة التي سبقه فيها بنك التنمية الصناعية، وذلك بهدف “جذب مدخرات العملاء بالحصول على كل العائد المقرر على الشهادة لمدة 3 سنوات من ثاني يوم شرائها دون تجزئتها على مدار آجالها”.
ولأول مرة في مصر تشهد الساحة المصرفية صرف العائدات مقدمًا، كما أن نسبة العوائد المطروحة في تلك الشهادات (40%) هي النسبة الأعلى منذ أكثر من 120 عامًا، في محاولة لإغراء المواطنين على تحويل مدخراتهم من المنازل والمكاتب والخزانات الخاصة إلى البنوك والمصارف الرسمية.
ليست المرة الأولى
لم تكن مبادرات الساعات القليلة الماضية هي الأولى، كما أنه يتوقع أنها لن تكون الأخيرة، فمنذ مارس/آذار 2022 والحكومة المصرية تطرح بين الحين والآخر عدة مبادرات بهدف إنعاش البنوك بالعملات الأجنبية للوفاء بما عليها من التزامات سواء تسديد أقساط وفوائد ديون أم توفير الغطاء النقدي اللازم للاستيراد.
ومن بين المبادرات التي أعلنتها خلال العام الأخير طرح قطع أراضي مميزة بالدولار للمغتربين، وتقديم العديد من التسهيلات والمغريات لحثهم على الشراء في مناطق متميزة من القاهرة والأماكن القريبة منها، كذلك الإعلان عن وحدات سكنية فاخرة للمصريين بالخارج دون غيرهم.
هناك أيضًا مبادرة السماح باستيراد سيارات معفاة من الجمارك والضرائب، شرط أن يتم وضع قيمتها المالية بالدولار في البنوك المصرية لمدة 5 سنوات على أن يتم صرفها وقت استحقاقها بالجنيه المصري، وهي المبادرة التي لاقت ترحيبًا بداية الأمر، لكن سرعان ما تغير الوضع لاحقًا بعد الكشف عن تفاصيل السداد واسترداد الوديعة.
وقبل عدة أشهر أعلن بنكا الأهلي المصري ومصر (العصب الأقوى والأبرز للبنك المركزي المصري) عن طرح شهادات دولارية بعائد قد يصل إلى 10% حال صرف الفوائد بالدولار، وربما يزيد إلى 17% في حال صرفه بالجنيه المصري، وذلك لزيادة الحصيلة الدولارية.
وتهدف تلك المبادرات، قديمها وحاضرها ومستقبلها، إلى جمع أكبر قدر ممكن من النقد الأجنبي بشتى الطرق، وبأي سعر فائدة وعائد كان، حتى لو ترتب عليه خسائر فيما بعد، لكن في الوقت الحالي يحاول الجهاز المصرفي أن يغطي التزاماته الحالية تجنبًا لأي عجز قد يسيئ إلى صورة الدولة ونظامها المالي أمام المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية.
إصدار البنوك المصرية شهادات دولارية بفائدة تصل إلى 9٪ على #الدولار انتحار ودليل على حجم الأزمة الاقتصادية.
هذه الدولارات التي يتم جمعها من المصريين ستستخدم لدفع #الديون فكيف ستردها الحكومة بعد ذلك؟أم أن متخذ القرار في #مصر يعمل بمبدأ “احييني النهاردة وموتني بكرة”؟
المصيبة الأخرى… pic.twitter.com/qHFI2Crt7p
— Mourad Aly د. مراد علي (@mouradaly) July 26, 2023
ضغوط على الاقتصاد المصري
يتعرض الاقتصاد المصري خاصة قطاعه المصرفي لضغوط قوية خلال الآونة الأخيرة، حيث تكالب الديون التي وصلت إلى قرابة 160 مليار دولار، فضلًا عن نسبة فوائد وأقساط مرتفعة تلتهم الجزء الأكبر من موازنة الدولة المخصصة لتلبية احتياجات الشعب.
ويمارس الدائنون وعلى رأسهم صندوق النقد الدولي ضغوطًا شرسة على الحكومة المصرية لتحرير سعر الصرف والاستجابة لمرونة أكبر في حركة البيع والشراء في السوق المالي، مع إلزام الدولة المصرية بتخارج مرحلي للجيش من الاقتصاد ومنح القطاع الخاص الدور الأكبر، وهي المعضلة التي تتأرجح الرؤى بشأنها داخل المؤسسة العسكرية التي ترفض التخلي عن بعض نفوذها المحقق خلال السنوات الماضية.
وصلت الضغوط على البنوك الحكومية مداها في فبراير/شباط الماضي، حين خفضت وكالة موديز التصنيف الائتماني للخماسي الأكبر في المصارف المصرية (البنك الأهلي المصري وبنك مصر وبنك القاهرة والبنك التجاري الدولي) إلى B3 من B2، فيما خفضت تصنيف بنك الإسكندرية من B1 إلى B2، كما عدلت نظرتها المستقبلية لتقييم ودائع البنوك الخمس إلى مستقرة من سلبية.
وفي مايو/أيار الماضي خفضت وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني هي الأخرى تصنيف مصر درجة واحدة من (+B) إلى (B)، مع تعديل نظرتها المستقبلية إلى “سلبية”، متحدثة “عن ازدياد مخاطر التمويل الخارجي في ضوء الاحتياجات التمويلية المرتفعة، وتشديد شروط التمويل الخارجي”، مشيرة إلى أن مستويات الدين العام المرتفعة في مصر لا تزال تمثل ضعفًا رئيسيًّا في التصنيف وفق بيانها الصادر الذي توقع أن يتأثر النمو في مصر بسبب التضخم ونقص العملة الأجنبية وتشديد السياسة المالية وزيادة عدم اليقين الاقتصادي.
تراجع الثقة
الخيط الجامع لمعظم تلك المبادرات أنها لم تحقق أهدافها المنشودة، وهي جمع أكبر قدر من العملات الأجنبية، حيث تراجع معدلات الاستجابة من المغتربين وأبناء الوطن في الداخل على حد سواء، في ضوء التحفظات الكثيرة حول النظام المصرفي والسياسات المالية المتبعة.
فهد س (رجل أعمال) يقول: “إذا كانت البنوك ترفض استلام دولارات أحصل عليها من السوق السوداء لتمويل شحنات استيراد عالقة في الخارج منذ أشهر طويلة، وتشترط الحصول على تلك العملة من البنوك الرسمية التي لا يوجد بها دولارات في الأساس.. كيف اليوم تقبل من المواطن دولارات دون سؤاله عن مصدرها.. الأمر هنا مثير للشك”.
وأضاف رجل الأعمال المصري في حديثه لـ”نون بوست” أنه حاول عشرات المرات توفير الكميات المطلوبة من العملة الصعبة لإدخال بضائعه العالقة في الجمارك، لكن البنوك ترفضها، وهو ما تسبب في خسائر فادحة تعرض لها وشرد بسببها العديد من العمالة لديه، مستغربًا أن يتغير الأمر بهذا الشكل، مضيفًا “من باب أولى يقبلوا دولارات المستوردين اللي معروف إنها رايحة لاستيراد بضائع وإنعاش السوق الداخلي”.
أستاذ الاقتصاد بجامعة دورتموند الألمانية كريم خيري: إصدار شهادات دولارية بفائدة 7 و 9% يعني تخفيض جديد لقيمة #الجنيه الفترة المقبلة #مزيد pic.twitter.com/bsac6IdL0w
— مزيد – Mazid (@MazidNews) July 28, 2023
ويتفق مع هذا الرأي “شريف” الذي يعمل في إحدى دول الخليج، لافتًا إلى أنه يخشى حال إيداعه أموالًا بالعملة الصعبة في البنوك المصرية لا يستطيع استردادها وقتما شاء، أو على الأقل سيتم تسديدها بالعملة المحلية حال عدم توافر العملة الرئيسية للوديعة، لافتًا في تصريحات لـ”نون بوست” أن المبادرة جيدة وتأخرت كثيرًا وطالما طالب بها الكثيرون لكن الكيفية التي تم الإعلان عنها بها تثير القلق، خاصة أن بعض البنوك ترفض تسليم الحوالات المحولة من الخارج بعملتها الأصلية وتجبر المستفيد على الاستلام بالجنيه المصري.
وفي المقابل هناك من يرى أن هناك لغطًا في فهم المبادرة، فهي لم تغض الطرف عن الفساد وتشجع على غسيل الأموال كما فهم البعض، لكنها تمنح قدرًا من المرونة في قبول الدولارات طالما أنها جاءت عن طرق مشروعة كالتجارة وغيرها وإن لم تكن عبر البنوك الرسمية، لكن من يثبت أن أمواله جاءت من طرق غير مشروعة فإن لجان مكافحة غسيل الأموال لن تتردد في اتخاذ الإجراءات المناسبة.
وفي الأخير.. لا يتوقع أن تحظى تلك المبادرات بالقبول المتوقع لدى المغتربين، فوفق الشواهد الأولية واتساقًا مع ردود الفعل إزاء المبادرات السابقة، فإن هناك حالة من فقدان الثقة في النظام المصرفي والمالي تقلل من حجم الاستجابة المرجوة بشأن تلك الخطوات التي كانت في السابق أملًا وطموحًا للمستثمرين، فالأمر يحتاج إلى إصلاح السياسات والنظام المالي بصفة عامة ومنح المزيد من وسائل الطمأنة لأصحاب رؤوس الأموال قبل الإعلان عن مبادرات معروف الهدف منها مسبقًا.