اختتمت في سانت بطرسبرغ الروسية، الجمعة الماضية، قمة “روسيا – إفريقيا” في دورتها الثانية التي استمرت يومين، حيث سيطرت على أجواء القمة العلاقات بين روسيا ودول القارة السمراء في ظل مساعي موسكو لبناء قاعدة حلفاء في القارة التي تضم 54 دولة معترف بها من الأمم المتحدة، وذلك من أجل دعم الموقف الروسي في مواجهة العقوبات الغربية.
انعقدت القمة الروسية الإفريقية الأولى في مدينة سوتشي عام 2019، وجاءت على ما يبدو لمواكبة القمم التي تعقدها الدول الأخرى المؤثرة مثل الولايات المتحدة التي استضافت من قبل قمتين مع قادة إفريقيا، كانت أولهما في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما عام 2014، بينما كانت الثانية في عهد الرئيس الحاليّ جو بايدن أواخر العام الماضي. وعلى المنوال نفسه استضافت الصين واليابان وفرنسا والهند وتركيا قممًا مماثلة مع القارة الإفريقية.
مواكبة القمم مع القارة السمراء
جاءت قمة سانت بطرسبورغ الأخيرة، في ظل استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا منذ 24 فبراير/شباط 2022، وبالتزامن مع انسحاب موسكو من “صفقة الحبوب”، الأمر الذي منح الرئيس الروسي فرصة للاستفادة من التداعيات التي أفرزتها ظروف الحرب وانسحاب موسكو من صفقة الحبوب، إذ حاول استغلال هذا الظرف لكسب ود القادة الأفارقة خلال القمة.
في حديثه خلال ختام القمة، قال بوتين: “اهتمام روسيا بإفريقيا يتزايد باطراد”، واعتبر الاجتماع اختبارًا لدعم موسكو في إفريقيا، فروسيا ما زالت تحتفظ ببعض التعاطف هناك رغم العزلة الدولية التي أشعلتها حربها في أوكرانيا.
🇷🇺🌍 President #Putin in his concluding remarks at the second Plenary Session of the #RussiaAfrica Summit:
💬 I am sure the achieved results are creating a good foundation for further deepening the Russia-Africa partnership.
🔗 Read more: https://t.co/40FNSTf3B4 pic.twitter.com/EkHP7Nl5Qh
— MFA Russia 🇷🇺 (@mfa_russia) July 29, 2023
غير أن حديث الرئيس الروسي لم يكن دقيقًا تمامًا، فقد صرحت الخارجية الروسية أن محاولات الدول الغربية إفشال القمة “باءت بالإخفاق”، بينما بدا لافتًا تراجع التمثيل الرسمي الإفريقي في النسخة الثانية للقمة، حيث شارك فيها 27 زعيمًا إفريقيًا فقط من الدول الـ49 المشاركة في القمة (من أصل 54 دولة إفريقية)، وبقية الدول يمثلها وزراء وسفراء، مقارنة بالنسخة الأولى التي احتضنتها مدينة سوتشي الروسية في 2019، وحضرها 43 من رؤساء الدول والحكومات.
غياب قادة أفارقة بارزين
شملت قائمة الغائبين قادة العديد من الدول الإفريقية المؤثرة، بما في ذلك الرئيس النيجيري بولا تينوبو والكيني ويليام روتو، بالإضافة إلى فيليكس تشيسكيدي رئيس الكونغو الديمقراطية والرواندي بول كاغامي.
قضايا الأمن الغذائي هيمنت على النقاش خلال القمة، خصوصًا بعد انسحاب موسكو مؤخرًا من اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، لا سيما أن موسكو وعدت قبل القمة بأنها ستعوّض الحبوب الأوكرانية الموردة إلى إفريقيا، في خطوة من شأنها توسيع نطاق نفوذها في القارة الفقيرة.
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن بلاده ستقدم الحبوب مجانًا إلى 6 دول إفريقية خلال 3 أو 4 أشهر، مضيفًا في كلمة خلال الجلسة العامة للقمة الروسية الإفريقية، أن روسيا مستعدة لتوفير ما بين 25-50 ألف طن من الحبوب مجانًا إلى بوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا خلال الأشهر المقبلة.
وأضاف قائلًا: “الدول الغربية تتهمنا زورًا بالتسبب في الوضع الراهن للأزمة في سوق الغذاء العالمي، إلا أنها في الوقت نفسه تعيق إمداد الحبوب والأسمدة للدول المحتاجة”.
🇷🇺🤝🌍 اعلان فلاديمير #بوتين أننا سنكون مستعدين في الأشهر المقبلة لتزويد بوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا بالمواد الغذائية مجانا التي سيبلغ حجمها من ٢٥ الى ٥٠ ألف طن لكل دولة وسنوفر أيضا توصيلا مجانيا.#مع_بعض_اقوى#روسيا_إفريقيا pic.twitter.com/VQhyYriw93
— RussianEmbassy EGYPT 🇷🇺 (@Rusembegypt) July 27, 2023
قبل القمة، استبق الرئيس الروسي الحدث بكتابة مقالة نشرها الكرملين، أكد فيها أن بلاده قادرة على استبدال الحبوب الأوكرانية “سواء على أساس تجاري أم مجاني” وأبرز تركيز روسيا على مصر التي حصلت على “كمية ضخمة من القمح” على حد تعبير وسائل الإعلام الروسية، كما تم تكثيف الشحنات إلى الجزائر التي عززت العلاقات مؤخرًا مع روسيا على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية.
إلغاء الديون
ضمن الجهود الروسية لكسب ود دول القارة السمراء، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين كذلك يوم الجمعة، إلغاء موسكو ديونًا على دول إفريقية بقيمة 23 مليار دولار.
أوضح بوتين في كلمة أخرى في أثناء ختام القمة أن “موسكو ألغت ديونًا إفريقية بقيمة 23 مليار دولار، وأن 90% من ديون دول القارة تمت تسويتها، ولم يعد هناك ديون مباشرة، إلا بعض الالتزامات المالية”.
ICYMI: Russia’s🇷🇺 Vladimir Putin has written off Somalia’s $690 million debt to Russia at the Russia-Africa summit in St. Petersburg, this follows Putin writing off $20 billion in African countries’ debt.
This includes: Angola🇦🇴 ($3.5 billion), Ethiopia🇪🇹 ($5 billion),… pic.twitter.com/DQdEfIItaR
— Going Underground (@GUnderground_TV) July 28, 2023
لكن بشكلٍ عامٍ، روسيا ليست الشريك الاقتصادي الأبرز لإفريقيا، فهي ليست كالصين (الشريك التجاري الأكبر والمستثمر الأبرز في مشروعات البنية التحتية)، فقد قفز حجم التبادل التجاري بين الصين وإفريقيا خلال العام 2022 ليصل إلى مستوى قياسي بحدود 282 مليار دولار أمريكي، بزيادة بلغت نسبتها 11% على أساس سنوي.
وقد بلغ إجمالي صادرات الصين إلى إفريقيا 164.49 مليار دولار أمريكي خلال الـ12 شهرًا حتى ديسمبر/كانون الأول 2022، بزيادة قدرها 11.2% على أساس سنوي، وارتفعت وارداتها من القارة لتصل إلى 117.51 مليار دولار أمريكي في الفترة نفسها، وفقًا لمجلة الصين اليوم.
الأمن والسلاح
تعد روسيا من أكبر موردي السلاح إلى إفريقيا، وخلال العقد الماضي وقعت اتفاقيات تعاون عسكري مع ما يقارب 19 دولة إفريقية، منها السودان ومصر ومالي ونيجيريا، وشملت مقاتلات وصواريخ مضادة للدبابات، وفق تقارير.
ليس هذا فحسب، بل إن روسيا تفوقت على الصين كأكبر مورد للأسلحة لإفريقيا جنوب الصحراء بين عامي 2018 و2022، مع بقاء الولايات المتحدة وفرنسا في صدارة الموردين الرئيسيين عالميًا وفي عموم إفريقيا، وفق تقرير صدر في أبريل/نيسان الماضي عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام “سيبري” (SIPRI).
ومع ذلك، من شأن استمرار الحرب على أوكرانيا أن تقيد صادرات الأسلحة الروسية، ويرجع ذلك إلى أن موسكو تعطي الأولوية لتزويد قواتها المسلحة، وسيظل الطلب من الدول الأخرى منخفضًا بسبب العقوبات، وزيادة ضغوط واشنطن وحلفائها على من يشتري الأسلحة الروسية.
غير أنه لا يمكن تجاهل دور الأسلحة الروسية في القارة السمراء، ففي الحرب التي يشهدها السودان منذ 15 أبريل/نيسان الماضي تكاد القوات المسلحة السودانية تعتمد بالكامل على الأسلحة الروسية بسبب القيود الغربية على صادرات السلاح لهذا البلد.
وأوضح مدير الجهاز الروسي للتعاون العسكري والتقني دميتري شوغاييف في صيف 2021، أن تصدير الأسلحة إلى إفريقيا يشكل ما بين 30 إلى 40% من إجمالي صادرات السلاح الروسي سنويًا، وفقًا لوكالة الصحافة الفرنسية.
ولا يقتصر الوجود الروسي في إفريقيا على صفقات التسليح فحسب، فلديها مجموعة “فاغنر” التي تقول إنها تعمل على نشر الأمن ومحاربة الإرهاب، وأن وجودها بالقارة مرتبط برغبة الحكومات هناك.
وفي المقابل، ينظر كثير من المراقبين إلى “فاغنر” باعتبارها تشكيلًا من المرتزقة يوفر الأمن والحماية لحكام أفارقة مقابل عقود التعدين المربحة، أو مزاحمة النفوذ الأمريكي والفرنسي خاصة في دول مثل ليبيا والسودان ومالي وإفريقيا الوسطى.
ورغم التمرد المسلح الفاشل على القيادة العسكرية في موسكو الذي نفذته المجموعة وقائدها يفغيني بريغوجين في يونيو/حزيران، يرجح بأن عمليات “فاغنر” في إفريقيا لم تتأثر حتى الآن.
ويعزز تلك الفرضية ظهور زعيم فاغنر بريغوجين في سان بطرسبرغ خلال القمة الإفريقية الروسية، فقد شوهد وهو يصافح السفير فريدي مابوكا، المستشار الرئاسي في جمهورية إفريقيا الوسطى.
نُشِرت الصورة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” بواسطة ديمتري سايتي الذي قِيل إنه يدير عمليات فاغنر في إفريقيا الوسطى، وتعد الصورة أول ظهور علني لبريغوجين في روسيا منذ تمرد فاغنر الفاشل في يونيو/حزيران الماضي.
وبشكلٍ عام، يرى المحلل والباحث السوداني في الشؤون الإفريقية عباس محمد صالح، أن الموجة الحاليّة من التنافس الدولي حول القارة تمثّل فرصة لإفريقيا لتعزيز حضورها الدولي، وأضاف “إفريقيا كقارة، تعاني من أوجه خلل هيكلية تمنعها من الاستفادة من التنافس الدولي عليها، وهي عدم القدرة على التحدث بصوت واحد في المحافل الدولية سواء كانت دول أم منظمات إقليمية”.
لكن العقبة الأبرز التي قد تواجه الدول الإفريقية في تعاونها مع موسكو هي ديكتاتورية الدولة الروسية، فربما تفرض روسيا وصايتها على النظام الذي تسانده كما حدث في الأزمة السورية وتجعله تابعًا لها، ما قد يخلق مخاوف إفريقية من هيمنة روسية محتملة، بحسب الأكاديمي المصري بدر شافعي.
أخيرًا، تنويع الشراكات مع القوى الدولية والإقليمية أمر مفيد للقارة الإفريقية، إذ أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن العام الماضي إستراتيجية جديدة لواشنطن تجاه القارة الإفريقية، بينما تكافح الصين للحفاظ على مكانتها بصفتها الشريك التجاري والاقتصادي الأول لإفريقيا، كما ستعمل على زيادة وتنمية استثماراتها في القارة السمراء.