“البقاء في منطقة تل أبيض، بمثابة دمار لعائلتي التي ما زالت في تركيا، والمنطقة لا تصلح للعيش كما تتحدث السلطات التركية، فهي منطقة تفتقر لأدنى مقومات الحياة، لأن سكانها يعانون أيضًا”.
عبد الرحمن عيسى (40 عامًا)، كان يعمل مزارعًا منذ أربع سنوات، ويقيم مع أسرته في إحدى بلدات ولاية هاتاي جنوب تركيا، قبل أن ترحله السلطات إلى منطقة تل أبيض في ريف محافظة الرقة شمال سوريا، الواقعة تحت سيطرة فصائل الجيش الوطني المدعوم من أنقرة.
بعد مرور أسبوع على ترحيله إلى منطقة تل أبيض، بدأ عيسى التفكير في إمكانية العيش، فأصبح يبحث عن عمل يستطيع من خلاله توفير كلفة إيجار منزل في المنطقة، لعله يستطيع جلب عائلته في حال أجبر على البقاء للعيش فيها.
تحدث لـ”نون بوست” قائلًا: “منطقة تل أبيض مكان جحيم، فهي غير آمنة على الأصعدة كافة، الأمنية والاقتصادية والمعيشية، لأن سكانها يعانون أساسًا من قلة فرص العمل وضيق المساحة الجغرافية”.
وأضاف أن وجهته المستقبلية مجهولة، بعدما خسر حياته التي أسسها مع عائلته في تركيا، وعدم قدرته على العودة إلى مدينته خان شيخون بريف إدلب الجنوبي، التي يسيطر عليها النظام، وصعوبة الوصول إلى منطقة إدلب المحررة.
يواجه اللاجئون السوريون الذين رحلتهم السلطات التركية إلى مناطق الشمال السوري، منعطفات جديدة في حياتهم بسبب عودتهم إلى اللحظة صفر مجددًا، بعدما أسسّوا حياتهم في تركيا سواء من خلال الدراسة الجامعية أم الزواج وتكوين أسرة، وفتح عمل خاص بهم، لكنهم فجأة اضطروا إلى ترك البلاد بشكل إجباري دون اكتراث السلطات بوضعهم.
المنزل والعمل.. حلم يراود المرحلون
يتدفق يوميًا عشرات اللاجئين السوريين في تركيا إلى الشمال السوري من المعابر الحدودية السورية – التركية في إطار “العودة الطوعية” المزعومة التي تنفذها السلطات التركية بحق “المهاجرين غير الشرعيين” حسب وصفها، رغم أنها تطال أعدادًا كبيرة من اللاجئين السوريين غير المخالفين لقوانين الحماية المؤقتة.
من بينهم جمال (اسم مستعار لشاب سوري يبلغ من العمر 30 عامًا)، وصل مدينة أعزاز في منطقة ريف حلب الشمالي، بعدما رحلته السلطات التركية مطلع يوليو/تموز الحاليّ، من معبر باب السلامة الحدودي، عقب احتجازه لأسابيع مع مئات اللاجئين السوريين في أحد مراكز الاحتجاز المخصصة لـ”المهاجرين غير الشرعيين”.
خَسر الشاب الحياة التي أسسها خلال عشر سنوات أمضاها في تركيا، بشكل مفاجئ، وبات على أعتاب حياةٍ أخرى لا تختلف عن بداية حياة اللجوء التي كانت قاسية بطبعها، إلا أنها قد تكون مختلفة من ناحية المقومات التي تدفع بتطوير الحياة المعيشية خلال فترة زمنية قصيرة.
يقيم الشاب مع أفراد أسرته الذين التحقوا به بعد أسبوعين من ترحيله إلى الشمال السوري في مخيم على الحدود السورية حوله قاطنوه إلى منازل من الطوب والشوادر بسبب طول الفترة الزمنية التي قضوها به، حيث تشبه تمامًا العشوائيات التي تبنى في المدن الكبيرة، ريثما يستطيع تأمين منزل.
قال لـ”نون بوست”: “إنني أبدأ مشوارًا جديدًا من الصفر، لأن منزلي الذي تركته في تل رفعت لا أستطيع العودة إليه حيث تسيطر “قسد”، ولا أملك مكانًا للعيش فيه بريف حلب، ما سيضطرني للبحث عن مكان للإقامة”.
مضيفًا أنه من الممكن أن يقيم في خيمة مجددًا، بسبب ارتفاع أسعار إيجارات المنازل التي تتجاوز الـ100 دولار أمريكي للمنزل في مدينة أعزاز، لكن بسبب ظروفه المادية التي كانت بالكاد تغطي احتياجات أسرته في تركيا، لن يستطيع إيجاد منزل بسعر رخيص وفرصة عمل بآن واحد.
يضطر السوريون المرحلون من تركيا، إلى الإقامة عند أقاربهم حال وجود البعض منهم في مناطق شمال غرب سوريا، ريثما يتدبرون أمورهم، بينما لا يتوافر لدى معظمهم القدرة على بناء أو شراء منزل لأن التكاليف تفوق قدراتهم المادية، حيث يتراوح سعر الشقة السكنية في مدينة أعزاز بين 8 آلاف و20 ألف دولار أمريكي، وذلك تبعًا للمساحة والخدمات التي تحتويها.
وفرَّ جميل من مدينة تل رفعت كما هو حال معظم قاطني المدينة خلال عام 2013 إلى الحدود السورية بسبب القصف الجوي العنيف، ولاحقًا لجأ إلى تركيا، وعاش ضمن المخيمات الخاصة باللاجئين السوريين، لكن بعد سنوات من إقامته في مخيم كلس (2)، اضطر إلى الخروج من المخيم والسكن داخل المدن التركية ضمن مشروع الاندماج الذي كانت تعمل عليه السلطات التركية.
يعاني الشمال السوري من سوء الأوضاع المعيشية والاقتصادية، في ظل اكتظاظ المنطقة بالسكان وندرة فرص العمل وارتفاع تكاليف المعيشة، ما أدى إلى تدهور الأحوال المعيشية لأكثر من 90% من السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر، في حين تبقى المنازل ملاذًا لأصحاب الدخل الجيد، بينما الخيام التي تحولت إلى صناديق أسمنتية لمن لا يملك مكانًا للإقامة فيه.
مصير مجهول أمام المرحلين من تركيا
في الوقت الذي تواصل فيه السلطات التركية عمليات الترحيل الممنهجة التي تنفذها بحق اللاجئين السوريين، فإنها ترسم ملامح مصير مجهول لآلاف اللاجئين المرحلين، ما يفاقم المأساة السورية وتعيد من نجا منهم إلى البداية مجددًا وذلك بالبحث عن خيط نجاة آخر.
جلال (35 عامًا)، رحلته السلطات التركية بعدما اكتشفت عدم امتلاكه بطاقة الحماية المؤقتة (الكيملك) التي حاول إخراجها في ولاية كوجلي بالقرب من إسطنبول، حيث كان يعمل في مجال الإنشاءات منذ ثلاثة سنوات، لكن محاولات استخراجها باءت بالفشل، في حين كان يمكنه استخراجها من ولاية أخرى إلا أنه سيترك عمله لفترة تتجاوز أكثر من الشهرين.
مضت ثلاثة أسابيع على ترحيله إلى منطقة تل أبيض، حيث يسكن إلى جانب عشرات المرحلين، في الآونة الأخيرة ضمن منزل منحهم إياه أهل المدينة ريثما يتدبرون أمورهم.
قال لـ”نون بوست”: “رحلتني السلطات التركية إلى منطقة مغلقة كليًا، بينما وعدونا في مركز الاحتجاز بأن الترحيل إلى إدلب، حيث يوجد بعض معارفي، لكنني فوجئت بأن لا خيار أمامنا إلا دخول الأراضي السورية من ذلك المكان”.
وأضاف أنه لا يعرف أحدًا من سكان المنطقة، حيث لا يمكنه العيش فيها، لأنها مغلقة كليًا، وبيئتها غير مناسبة للعمل والمعيشة، لأن معظم قاطني المنطقة يعيشون في ظروف مادية صعبة، مشيرًا إلى أن الفصائل العسكرية عرضت عليهم الانضمام إلى صفوفها مقابل أجر شهري لا يتجاوز 1500 ليرة تركية.
أوضح أيضًا أنهم ينتظرون مصيرًا مجهولًا في الوقت الحاليّ بمنطقة نبع السلام، فلا إمكانية للخروج منها سواء إلى تركيا من خلال اجتياز الحدود لأنها ذات تكاليف عالية وخطرة، أم إلى ريف حلب عبر مناطق “قسد”، لأنها خطرة أيضًا وبالتالي تعرض حياتهم للخطر.
ينحدر الرجل من محافظة حمص وسط البلاد، دفعته الملاحقات الأمنية من النظام، إلى اللجوء لتركيا خلال عام 2019، بهدف تأمين المعيشة لأسرته التي لا تزال تعيش في حمص، ولا يستطيع جلبها إلى مكان إقامته أو العودة إلى مناطق النظام مجددًا بسبب المخاطر الأمنية التي تسببها الرحلة، لذلك ينتظر مصيرًا مجهولًا، مثله مثل باقي السوريين الذين رحلتهم السلطات التركية.
بعد الترحيل.. تائهون في الشمال
تواصل موقع “نون بوست” مع عدد من اللاجئين السوريين الذين رُحلوا إلى الشمال السوري، وتحدث بعضهم شريطة عدم الإفصاح عن هويتهم، متحدثين عن وجهتهم خلال الفترة المقبلة، وتبين أن معظمهم يفكرون في عبور الحدود السورية – التركية مجددًا، من مناطق شمال غرب سوريا، بينما آخرون في تل أبيض يتمنون وصول المنطقة ذاتها.
ويبدي عدد من المرحلون مخاوفهم في ظل بقائهم في الشمال السوري، لأن أسرهم لا يزالون في الأراضي التركية ولا يستطيعون التخلي عن حياتهم التي بنوها خلال فترة اللجوء التي عانوا فيها ما عانوه من مصاعب ومشاق يومية حتى وصلوا إلى الاستقرار النسبي الذي خسروه بين ليلة وضحاها.
ويرى طه أبو محمد (لاجئ سوري لأكثر من خمس سنوات في ولاية قونيا ويعمل في فرن لصناعة الخبز، رحلته السلطات التركية قبل أشهر إلى الشمال السوري) أن مناطق شمال غرب سوريا غير آمنة، حيث تشهد بشكل دوري حملات قصف جوي ومدفعي واشتباكات على خطوط التماس.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إننا تائهون في الشمال، نعيش في ضياع وسواد غير معلوم ولا نملك حتى منزل نأوى إليه، ولا قدرة مالية لبناء منزل مجددًا، أو عبور الحدود لدخول تركيا، ونحن مجرد رقم ضمن ملايين السوريين”.
وأضاف “حال معظم اللاجئين المرحلين إلى سوريا مؤخرًا يرثى له، في ظل غياب مساندة الأقارب ودور المجتمع والحكومة في صيانة الفرد والحفاظ على حياته، وفقدان أدنى مقومات الحياة وعدم المبالاة لحياة الإنسان، ما يضطر اللاجئ للعودة إلى تركيا مجددًا مثلما يفكر جميع المرحلين، لكن القدرة المالية ضعيفة ولا يستطيع تحمل نفقاتها”.
رغم استمرار عمليات الترحيل إلى الشمال السوري، لا يزال المرحلون يواصلون البحث عن مخرج من متاهة الشمال المتعثر، حيث يبحثون عن موطئ قدم لهم لكنهم سرعان ما يصطدمون بالواقع المتشتت، ما يضطرهم إلى التفكير مجددًا في الرحلة، ومن بينهم أحمد، الذي عاود المسير مجددًا بعد عبور الحدود لملاحقة عمله الخاص في تركيا بعد ترحيله خلال أبريل/نيسان، مقابل 3 آلاف دولار أمريكي.
ولا يستطيع السوريون العودة إلى بلادهم بحكم عدم الاستقرار، خاصة في المناطق التي يسيطر عليها النظام ويتعرض فيها العائدون للملاحقات الأمنية والاعتقالات التعسفية، فضلًا عن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وعدم توافر أدنى مقومات الحياة المستقرة، حسب ما أوضح الباحث في مركز جسور للدراسات وائل علوان، في تصريح سابق لـ”نون بوست”.
يواجه اللاجئون المجبرون على العودة تحديات كبيرة منها الأمنية التي تتعلق بحياتهم والاقتصادية وسبل العيش، وتوافر البنية التحتية من عمل وطبابة وتعليم، وغيرها من الخدمات الاجتماعية الأساسية التي تدفع الناس إلى العودة، لكن حقيقة الأمر أنها غير متوافرة في مختلف مناطق السيطرة السورية.
فر السوريون من بلادهم بسبب القصف الجوي والمدفعي، وعمليات التهجير والنزوح القسري، من النظام السوري، خلال عقد ونيف مضى، بحثًا عن حياة آمنة وكريمة في تركيا، كونوا خلالها أعمالًا ومنازل تحيطها مجتمعات وأقارب في عدد من الولايات التركية التي استقبلتهم، بجهود وكد طيلة فترة لجوئهم دون أن يكونوا عالةً على تركيا، وباتوا اليوم متروكين أمام تحديات لا حصر لها في ظل أزمات الشمال السوري المتراكمة.