فرضت قضية الأمن الغذائي الإسلامي نفسها كواحدة من أخطر الملفات التي يجب أن توضع تحت مجهر الاهتمام والعناية في ضوء الأرقام المفزعة التي كشفتها التقارير الدولية بشأن انتشار الجوع في الدول الإسلامية، كان هذا ملخص اللقاء الذي أجرته وكاله “الأناضول” مع المدير العام للمنظمة الإسلامية للأمن الغذائي، يرلان بايدوليت.
أكد بايدوليت خلال اللقاء الذي تم على هامش مشاركته في أعمال قمة النظم الغذائية الثانية، التي عقدت بين 24 و26 يوليو/تموز، في العاصمة الإيطالية روما، ضرورة تضافر كل الجهود الرسمية وغير الرسمية للخروج من تلك الشرنقة التي تهدد بالزج بملايين المسلمين على قوائم الموت جوعًا إن لم يتم تدارك الأمر في أسرع وقت.
وارتفعت معدلات الجوع في العالم بشكل مخيف خلال السنوات الأخيرة، حيث تجاوز الرقم 828 مليون إنسان يعانون من العوز الغذائي خلال 2022، ينتمون إلى 53 بلدًا وإقليمًا، حسبما أشار رئيس هيئة خبراء الأمن الغذائي في الأمم المتحدة، برنارد ليمان، وذلك مقابل 782 مليون شخص عام 2020 و678 مليون عام 2019، هذا بخلاف أكثر من نصف مليون شخص في إثيوبيا وجنوب مدغشقر وجنوب السودان واليمن يصنفون ضمن المرحلة الأشد حدّة من كارثة انعدام الأمن الغذائي، وفق التقرير السنوي للأزمات الغذائية الصادر عن الشبكة العالمية لمكافحة أزمات الغذاء العام الماضي.
نصف جائعي العالم من المسلمين
استند مدير المنظمة الإسلامية للأمن الغذائي في تحذيراته إلى تقرير الأمم المتحدة، الذي يشير إلى أن 50% من الدول التي بحاجة إلى المساعدات الغذائية وتعاني المجاعة ونقص التغذية هي دول إسلامية وأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي التي تضم 57 دولة عضو، مؤكدًا عزم المنظمة تقديم الدعم لـ12 دولة عضو بها تم ذكرها في التقرير الأممي، والتركيز في المرحلة القادمة لحل مشكلات الأمن الغذائي في الدول الإسلامية.
ويكشف التقرير ارتفاعًا ملحوظ في نسبة من يعانون من الجوع منذ عام 2020 بعد ثبات نسبي خيم على تلك الأرقام منذ عام 2015 حين وصلت نسبة الزيادة في عدد الجوعى إلى 9.8% من سكان العالم مقارنة بـ9.3% في عام 2020 و8% عام 2019.
كما أن 29.3% من سكان العالم، أي قرابة 2.3 مليار شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي في عام 2021، حيث أضيف نحو 350 مليون شخص بسبب جائحة كورونا (كوفيد 19)، هذا في الوقت الذي يعاني نحو 924 مليون شخص (11.7% من سكان العالم) من انعدام الأمن الغذائي الشديد، بزيادة قدرها 207 مليون خلال العامين الماضيين فقط.
التقرير في أرقامه المستعرضة أوضح الفجوة بين الرجال والنساء في معدلات الجوع، حيث تعاني 31.9% من النساء في العالم من انعدام الأمن الغذائي، مقابل معاناة 27.6% من الرجال، وهي الفجوة التي لم تكن موجودة في عام 2020 مثلًا، ما يشير إلى تأثر النساء أكثر نسبيًا من الرجال بمهددات الأمن الغذائي.
وكان للأطفال نصيب كبير من تلك الأزمة، حيث يعاني 45 مليون طفل دون الخامسة من العمر من أمراض الجوع كالهزال، فضلًا عن معاناة 149 مليون طفل دون الخامسة من توقف النمو بسبب النقص الشديد في المغذيات بالأنماط الغذائية، كما أن نحو 44% فقط من الرضع دون عمر 6 أشهر يرضعون رضاعة طبيعية وهي نسبة أقل من المتوسط العالمي البالغ 50%.
التقرير خلص إلى نتائج تشاؤمية إلى حد ما بشأن مستقبل الجوعى والأمن الغذائي في العالم، لافتًا إلى أن نحو 670 مليون شخص (8% من سكان العالم) سيعانون من الجوع عام 2030 مهما كانت معدلات النمو والانتعاش الاقتصادي العالمي، وهو ما يعني ضرورة بذل المزيد من الجهود المضاعفة لتقليل حجم الكارثة – وليس القضاء عليها – قدر الإمكان.
المناخ والنزاعات على رأس الأسباب
لخص بايدوليت الأسباب التي أدت إلى المجاعات وسوء التغذية في الدول الإسلامية في سببين رئيسيين، الأول: الاضطرابات السياسية التي أفرغت الدول من مواردها وحولتها إلى ساحات كبيرة للجوع، مستشهدًا بالوضع في منطقة غرب إفريقيا خاصة في بوركينا فاسو ومالي، والانقلاب الأخير الذي شهدته النيجر.
كما ألمح إلى الوضع الصعب في السودان الذي يعاني من كارثة إنسانية محققة بسبب حرب الجنرالات المندلعة منذ أبريل/نيسان الماضي وشردت الملايين من أبناء الوطن في الداخل والخارج، كما تسببت في إفقار الشعب وهدم بنيته التحتية والصحية والأمنية.
ويتسق هذا التحذير مع التصريحات الصادرة عن حاكم ولاية شمال دارفور غربي السودان نمر محمد عبد الرحمن، في 29 من الشهر الحاليّ بشأن تدهور الوضع الإنساني بالولاية، كنموذج مصغر لبقية الولايات في الدولة، موضحًا أن “ما تبقي من مخزون الغذاء يكفي لمدة 3 أسابيع فقط، نتيجة لاستنفاد المخزون الإستراتيجي من الغذاء وغياب الاستجابة الدولية”.
وشدد حاكم شمال دارفور على أن “الوضع بالولاية بات ينزلق إلى الأسوأ”، لافتًا إلى أن “السلطات المحلية غير قادرة على احتواء الأزمة أكثر من ذلك”، مناشدًا “وكالات الأمم المتحدة العاملة في المجال الإنساني بمسارعة الخطى في تقديم المساعدات للمتضررين”، كما دعا إلى ضرورة فتح مطارات الإقليم لاستقبال المساعدات الإنسانية الدولية.
وتأتي التغيرات المناخية كثاني أبرز الأسباب وراء تفشي الجوع، ليس في العالم الإسلامي فقط لكن في العالم أجمع، حيث انتشار موجات الجفاف الكارثية التي أطاحت بالمحاصيل والأراضي الزراعية الصالحة للزراعة خاصة في إفريقيا وآسيا.
هذا بجانب الحرب الروسية الأوكرانية المندلعة منذ 500 يوم تقريبًا، التي عمقت بشكل كبير من أزمة انعدام الأمن الغذائي العالمي، إذ تشكل البلدان، روسيا وأوكرانيا، أكثر من ثلث إنتاج العالم من الحبوب، وهو ما يعني أن ثلث شعوب العالم تأثرت بشكل أو بآخر بتلك الحرب التي لا يعلم أحد متى ستُكتب نهايتها.
واقع مؤلم
الأرقام الرسمية الصادرة عن خريطة الأمن الغذائي في المنطقة العربية والإسلامية تعكس واقعًا مؤلمًا يحياه الملايين من أبناء تلك البلدان، حيث بلغ مؤشر توافر الغذاء (وهو ذاك المؤشر الذي يقيس كفاية الإمدادت الغذائية الوطنية وخطر انقطاعها والقدرة الوطنية على توزيع الأغذية وجهود البحث لتوسيع الإنتاج الزراعي والغذائي)، للمواطن العربي 55.8 درجة عام 2020، ما يقلُّ عن المتوسط العالمي البالغ 57.3 درجة، وفق التقرير المنشور في “نون بوست” تحت عنوان (السلع الغذائية عربيًّا.. واقع الاكتفاء الذاتي وتحدياته).
ويتراوح هذا المؤشر من بلد لآخر حسب مستوى هذا البلد وقدراته الاقتصادية، ففي البلدان صاحبة الاقتصادات الجيدة كالسعودية وقطر والإمارات يتراوح المؤشر بين 60 – 75 درجة، فيما يقل في الأخرى التي تعاني من أوضاع اقتصادية متدنية كسوريا واليمن والسودان حيث يتراوح بين 28 – 48 درجة.
أما نصيب المواطن في البلدان العربية من الإنتاج الزراعي فيتباين هو الآخر من دولة إلى أخرى، حيث يبلغ 568 دولارًا في السعودية و340 دولارًا في الإمارات و473 دولارًا في السودان و345 دولارًا في سلطنة عمان و368 دولارًا في الأردن، لكن في المتوسط الإجمالي يصل إلى 306 دولارات للفرد مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 416.6 دولار.
وتنعكس النزاعات والصراعات التي تشهدها الدول على معدلات الجوع ونقص الغذاء بها، فالدول التي تعاني من نزاعات تبلغ نسبة النقص فيها 27.7% من إجمالي السكان، أما الدول التي لا تشهد صراعات أو أزمات داخلية فتصل المعدلات فيها إلى نحو 5.4%، وبحلول عام 2030 تشير التوقعات إلى احتمالية زيادة تلك المعدلات في البلدان ذات النزاعات لتصل إلى 30% مقابل 8% في غيرها، وعليه يتوقع أن يصل عدد من يعانون من نقص التغذية إلى 75.3 مليون عربي في غضون السنوات الثمانية المقبلة.
في ضوء تلك المعطيات الصعبة بشأن واقع الأمن الغذائي المهدد في البلدان العربية والإسلامية، والتحديات الجسام التي تواجهه ومخاوف اتساع رقعة الجوع يرى رئيس هيئة خبراء الأمن الغذائي في الأمم المتحدة، برنارد ليمان، وهو رئيس فريق الخبراء رفيع المستوى للأمم المتحدة المعني بالأمن الغذائي (HLPE-FSN)، أنه على الدول الأعضاء في المنظمات الدولية أن تبذل جهودًا إضافيةً لدعم برامج الغذاء العالمي على المستوى القصير لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
أما على المستوى البعيد فلا بد من تبني بعض الإستراتيجيات والإجراءات التي من شأنها تحسين الوضع الحاليّ، ومن أبرز تلك الحلول إصلاح نظام التجارة العالمي الذي يعد أحد الأسباب الرئيسية للمجاعة في العالم، وضرورة إجراء إصلاحات جذرية بشأنه، هذا بخلاف إعادة النظر في عدالة توزيع الأغذية على شعوب العالم والقضاء على الفجوة الكبيرة بين الدول الغنية والفقيرة، إضافة إلى تدشين بنية تشريعية جديدة قادرة على التصدي للانتهاكات التي يمارسها البعض، حكومات وأفراد، وتعمق من الأزمة وتساهم في اتساع رقعة الجوع رأسيًا وأفقيًا.