لم تسرق الانقلابات منا الثورة والآمال العريضة التي علقناها عليها، لقد سرقت أرواحنا وحرمتنا الطمأنينة التي نشدنا من زمن طويل، وها نكتب من داخل البؤس الروحي الثمرة الزقوم لكل انقلاب.
هل سنكتب يومًا أن طمأنينتنا كانت مزيفة؟ وأننا كنا نبحث عن مسند مريح لنتوقف عن التفكير ونذهب في الدعة والخمول؟ وأن الانقلابات على سوئها قد نبّهتنا إلى الفرز العظيم؟
فبعد الاصطفاف المعادي للديمقراطية والناكر لفضل الحرية، نعود إلى سؤال يبدو أننا أغفلناه عامدين أو من حسن نية، والغفلة وحسن النية صنوان.
لماذا غدر اليسار والقوميون بالديمقراطية؟ وما الأفق السياسي الذي يدفعون إليه بلدانهم المنكوبة بالعسكر والأجهزة القمعية؟ وما كانت هذه الأجهزة لتتحرك ضد الديمقراطية لولا تحريض هذه التيارات عليها.
الطمأنينة المزيفة داخل الديكتاتوريات
عقود طويلة مرّت تحت حكم الديكتاتوريات. فكرت الأجهزة عنا وفرضت علينا طمأنينة أقرب إلى طمأنينة حيوانات الزريبة، الأكل متوفر لكثيرين والنوم أيضًا، ويمكن تدبُّر مباهج صغيرة كالذهاب إلى حفل في مهرجان موسمي، وتركت هامشًا صغيرًا للصراخ ضدها بطلب الديمقراطية.
كان الجميع يصرخ بذلك ويتخذ مواقف ويكتب كتبًا ومقالات في تمجيد الحرية، وكانت هذه الكتابات هي الصفحة الثانية من كتاب الطمأنينة، فما دام هناك من يفكر في الحرية سنصل إليها يومًا.
ترخي السلطة الحبل وتشدّه بحسب الحالة، وكانت سجون الأنظمة شهادات شرف نعلقها بأيدينا في أعناق من عارض وسُجن، هؤلاء قادتنا وزعماؤنا وبهم نقتدي.
سقطت الأنظمة فجأة من دون تدخل من هذه الزعامات، فإذا الحرية مرمية على قارعة الطريق، وإذا الزعامات العظيمة تنكرها وتعاديها، وتحوّل موجة التحرر إلى قائمة مطالب مادية بعضها ضمان خروف العيد من الحكومات. أين اختفى خطاب الحريات والديمقراطية؟
هنا انتهت الطمأنينة المزيفة وسقط أدعياء الديمقراطية، فإذا نحن بلا قيادات، نستحضر هنا صورة الدكتور مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي، عندما بدأت أتهجّى الجرائد طفلًا كان اسم هذا الطبيب يملأ السمع والبصر، مناضل حقوقي ومؤسّس لرابطة حقوقية ومعارض ديمقراطي لبورقيبة وبن علي.
منحته الثورة فرصة عمره ليكون مؤسّسًا للحريات كما طالب بذلك طيلة 40 سنة، فإذا به ينحاز إلى الثورة المضادة ويغلق باب المجلس ويهرب بالمفاتيح، متخليًا عن حلفاء منحوه مكانة عظيمة ما كان لينالها بوزنه الخاص.
هذه حالة مثالية لغدر نخب اليسار العربي بالديمقراطية، ويمكن تعديد الأمثلة، فالسيدة سهام بن سدرين مثال للمرأة المقاتلة من أجل الحرية والعدالة، لكنها لما وُضعت بالانتخاب على رأس هيئة الحقيقة والكرامة، نكصت وقطعت على ضحايا القهر تعويضات ممنوحة من الأمم المتحدة، لأن الضحايا ليسوا من صفّها، ولم يشفع لهم أن حزبهم هو من صعد بها على رأس الهيئة.
كيف لحسَ هؤلاء تاريخهم ولماذا؟ هناك قائمة طويلة من الأسباب، لكن خلاصتها أن هؤلاء لم يؤمنوا أبدًا بالحرية، ونافقوا بالخطاب الديمقراطي طيلة عقود.
نحن الآن شفينا من مرض تصديق هذه الزعامات، لكننا بعد أن فقدنا حريتنا نتيجة هذا الإيمان الغبي، هل يعترف هؤلاء بأنهم كانوا السبب في عودة الديكتاتوريات الانقلابية؟ لن يفعلوا هذا، لقد كانوا كَذَبة كبارًا وكنا أغرارًا.
القوميون العرب فرقة أمنية
أنا أحد المخدوعين في القوميين وخطابهم السيادي. لقد سمعت عبد الناصر صغيرًا وآمنت بالسدّ العالي وتأميم القنال، لم أنزل إلى درك تصديق خزعبلات القذافي، لكن صورة الأمة العربية القوية الفاعلة التي يدور حولها خطاب القوميين كانت تغريني، وقد صدّقت دعاتها عندما كانوا يعتلون المنابر في الجامعة، وتصلني كتب أنبيائهم من بيروت.
في زمن الحرية تعرّى القوميون، فإذا نحن أمام فرق أمنية صنعتها المخابرات وبثّتها في الصفوف. شكّل القوميون الأحزاب وشاركوا في الانتخابات، فقلنا تغيرت طبيعتهم، لكنهم انقلبوا مع المنقلبين وأظهروا وجه الفرقة الأمنية، طبيعتهم التي منها خلقوا. إنهم يحمون كل انقلاب في المنطقة، ويدافعون عن الدبابة، ويهينون الحريات بل يدمرون كل احتمال تحرر.
ومثل القوميين فرق اليسار المتطرف في ثوريته، كانوا يصيبوننا بعقد نقص لفرط دفاعهم عن الفقراء، حتى ظننا بأنفسنا خيانة أهلنا الفقراء، فإذا هم فرق أمنية تتخذ شكل أحزاب وجمعيات حقوقية، لا همّ لها ولا مهمة إلا تدمير كل نَفَس ديمقراطي.
تونس ومصر وسوريا تحكمها الآن الدبابة والشبيحة، وترزح تحت تدخلات خارجية ابتذلت سيادتها ومرّغت كرامة الناس في الوحل، لكن القوميين واليسار سعداء بذلك، ويروجون لخطاب السيادة، وآخر المساخر أننا نشاهدهم هذه الأيام يشاركون في مظلومية كربلاء ويبكون الحسين، لقد تجاوزوا الأكل مع الذئب ثم البكاء مع الراعي.
تدمير الأوطان من أجل تدمير الإسلاميين
كلما حاولنا تغيير زاوية النظر لفهم سلوك أحزاب المخابرات، عدنا إلى اكتشاف الهدف الحقيقي لهذه الفرق الأمنية المموهة في أحزاب وجمعيات حقوقية، والتي التقت عمليًّا مع دبابة الأنظمة القمعية وبرّرت لها، والتقت موضوعيًّا مع قوى الهيمنة الدولية المعادية للديمقراطية، وفي مقدمتها قوى الاحتلال القديمة، هذه القوى تخشى تحرر الشعوب وتحارب كل نَفَس حرية وتسند كل ديكتاتور.
في خطط هذه القوى أن العدو المخيف هو وضع ديمقراطي يضمن الحريات، فيسمح للإسلاميين بالمشاركة في السلطة ولو بمقادير ضعيفة، ولذلك اجتهدت في منع قيام هذا الاحتمال الديمقراطي في كل بلد وُجد فيه إسلاميون، منذ انقلاب العسكر المصري حتى اللحظة ينفَّذ برنامج قوى الهيمنة بإتقان وتفانٍ، ويشارك القوميون واليسار والدبابة في منع حصول الإسلاميين على حصة في إدارة بلدانهم.
النتيجة الحاصلة حتى الآن أن الإسلاميين يعودون إلى السجون، لكن النتيجة الأشد فظاعة هي أن البلدان تدمَّر والشعوب تفقر، ولا تقدم الدبابة وأنصارها أية حلول، ولا تفتح أية آفاق سوى سعادة القوميين واليسار بموت غرمائهم.
لقد تمتعوا بذلك لعقود طويلة (زمن عبد الناصر وبن علي والسادات ومبارك والأسد الأول والثاني وحتى علي صالح، فضلًا عن عسكر الجزائر)، واستعادوا متعتهم بعد فجوة الحرية، إننا نراهم سعداء بخراب تونس وينحون باللائمة على الإسلاميين، كما لو أنهم حكموا لعقود.
وعندما تخامرنا الرغبة في التواطؤ معهم ضد الإسلاميين، ونقول إن الإسلاميين ليسوا شرط وجودنا، فإننا نقف مشدوهين أمام عجز هؤلاء عن إدارة بلدانهم وزيف خطابهم السيادي والاجتماعي، إننا نشهد دون كثير بحث على عجزهم وتردّي الأوضاع تحت حكمهم.
لقد حقّقوا مكسبهم الاستئصالي، لكن بلدانهم تنهار وتعود تحت هيمنة قوى الاستعمار، فهل يعادل إقصاء الإسلاميين عن المشاركة كل هذا الخراب؟ لم يعد بإمكان المرء أن يطمئن نفسه، فالطمأنينة تحت حكم القوميين واليسار عشّاق الدبابة صارت حرامًا.