في 25 يوليو/ تموز 2023، التقى رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، بالسفير التركي في بغداد علي رضا كوناي، وتباحثا خلال اللقاء في العديد من القضايا الهامة بين البلدَين، ومن جملة القضايا التي ناقشاها هي البحث في التحضيرات المتعلقة بزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لبغداد الشهر المقبل، لتمثل أول زيارة رسمية له بعد انتخابه رئيسًا للجمهورية.
الزيارة المرتقبة للرئيس أردوغان، إلى جانب أهميتها وتأثيرها في العلاقات بين بغداد وأنقرة، تأتي في سياق تدشين مرحلة جديدة من السياسة الخارجية التركية حيال العراق، والتي استقرت طيلة الفترة الماضية على قاعدة عدم الاستقرار.
ممّا لا شك فيه أن هناك العديد من القضايا العالقة بين البلدَين، فضلًا عن بعض الملفات الشائكة، والتي ستكون حاضرة في النقاشات السياسية التي ستجري بين الرئيس أردوغان والمسؤولين العراقيين، إذ تطمح تركيا الوصول إلى تفاهمات سياسية وأمنية واقتصادية مع العراق، وبالشكل الذي ينعكس إيجابًا على مجمل مسارات العلاقة بين البلدَين.
كما أن العراق هو الآخر يتطلع بأهمية بالغة لهذه الزيارة، خصوصًا أنها تأتي في ظروف معقّدة يعيشها، تحديدًا على مستوى ملف المياه والطاقة، إذ أدّت الإجراءات المائية التي اعتمدتها تركيا في الفترة القليلة الماضية، بجانب إيقاف تصدير النفط عبر أنبوب كركوك-جيهان التركي، إلى خسارة العراق ما يقرب من 400 ألف برميل نفط يوميًّا، وهي ملفات يطمح العراق لحلّها أثناء زيارة الرئيس أردوغان إلى بغداد.
نهج أردوغاني جديد
إن الحديث عن نهج تركي جديد بالعراق، يمثّل السؤال الأهم في مرحلة ما بعد فوز الرئيس أردوغان بالانتخابات، وذلك نظرًا إلى التحولات المستمرة التي مرَّ بها الدور التركي في العراق بعد عام 2003، إذ تنافست على إدارة الملف العراقي العديد من المؤسسات التركية، وأهمها الخارجية والاستخبارات، وبعد تحوُّل النظام السياسي في تركيا من برلماني إلى رئاسي في أبريل/ نيسان 2017، أصبحت مؤسسة الرئاسة هي المتحكم الرئيسي بالملف العراقي.
الآن بعد فوز الرئيس أردوغان بولاية جديدة، والمجيء بشخصيات تتطابق أيديولوجيًّا وفكريًّا معه، عبر تعيين هاكان فيدان على رأس الخارجية، يمكن القول إننا سنشهد حالة تكامل أيديولوجي وسياسي تركي موجّه نحو العراق.
إن الأثر المباشر المترتّب لتعيين فيدان رأس الخارجية التركية حيال العراق، يتمثل بإعادة تشكيل الدبلوماسية التركية، وإنهاء حالة القطيعة التي خلقت حالة مشوّهة في السياسة الخارجية التركية، كون الآليات الدبلوماسية التركية في العراق غير معبّرة بشكل حقيقي عن توجُّه الرئيس أردوغان في السياسة الخارجية.
دفع ذلك فيدان إبّان توليه رئاسة الاستخبارات إلى تجاوز الحلقات البيروقراطية في الدبلوماسية التركية، ومدّ جسور التواصل مع الفعاليات والهياكل العراقية، وهذا ما برز واضحًا في الدور الذي لعبه خلال فترة تشكيل حكومة السوداني.
وبالنتيجة، ستكون المهمة الأبرز له في المرحلة المقبلة إصلاح هذا الوضع المشوّه، وتفعيل الآليات الدبلوماسية لتتناغم مع توجهات الحكومة الجديدة، وتحقيق فعالية أكبر في العراق بشكل خاص.
إن التحول من “دبلوماسية المخابرات” التي أدارها فيدان في السابق، إلى “الدبلوماسية الأمنية” بأبعادها المختلفة في المرحلة المقبلة، سيكون العنوان الأبرز الذي سيدير من خلاله الرئيس أردوغان الملف العراقي، إذ توحي عملية الدفع بشخصية استخباراتية على رأس الخارجية، إلى أهمية البُعد الأمني في السياسة الخارجية التركية بصورة عامة، وحيال العراق بصورة خاصة، الذي تتداخل العديد من القضايا العالقة بينه وبين تركيا بالجانب الأمني، سواء على مستوى أمن المياه أو أمن الطاقة، أو حتى على مستوى العلاقة التي تربط تركيا بالفواعل المسلحة في شمال العراق.
الحديث هنا عن حزب العمال الكردستاني (PKK) والفصائل الإيزيدية المتحالفة معه، أو الفصائل المسلحة الموالية لإيران، حيث شهدت الفترة الماضية العديد من عمليات الفعل وردّ الفعل بين تركيا وهذه الفصائل، في سنجار وسهل نينوى والموصل.
إن إنتاج رؤية جديدة لتركيا في العراق سيكون التحدي الأبرز أمام الرئيس أردوغان، خصوصًا في موضوعة الموازنة بين الأدوار السياسية والضرورات الأمنية والمصالح الاقتصادية والعمليات العسكرية.
سيكون الدور التركي المرتقب في العراق خاضعًا لمراجعة شاملة من الرئيس أردوغان، وتحديدًا على مستوى الأولويات والقضايا، إذ قد يطمح الرئيس أردوغان إلى الاستمرار بـ”السياسة الخارجية المركّبة” حيال أربيل وبغداد، لما توفّره هذه السياسة من هامش مناورة مريح لأنقرة في الداخل العراقي.
هذا إلى جانب إعطاء ملف الوجود العسكري وPKK أهمية كبرى، فضلًا عن الإبقاء على قضايا المياه والطاقة، كقضايا مركزية في الرؤية التركية حيال العراق، خصوصًا أن تركيا بلورت سياسة “فوق وطنية” عند مناقشة هذه القضايا مع العراق.
إن إنتاج رؤية جديدة لتركيا في العراق سيكون التحدي الأبرز أمام الرئيس أردوغان، خصوصًا في موضوعة الموازنة بين الأدوار السياسية والضرورات الأمنية والمصالح الاقتصادية والعمليات العسكرية، فنظرًا إلى الواقع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه تركيا، ستحاول توسيع شبكة علاقاتها الاقتصادية مع العراق، ولعلّ دعمها لمشروع “طريق التنمية” مؤخرًا يأتي في هذا السياق، فعبر هذا المشروع تطمح تركيا إلى توسيع انتشارها الاقتصادي داخل العراق، إلى جانب سهولة الوصول إلى الأسواق في دول الخليج.
كما أن هذا الطريق سيوفّر لتركيا فرصة تحويل مناطق الصراع مع PKK والفصائل الموالية لإيران في شمال العراق، إلى مناطق للتشابك الاقتصادي، وهو هدف استراتيجي تسعى من خلاله تركيا أيضًا إلى تحييد النفوذ والتأثير الإيراني، وتحديدًا محافظة نينوى.
قد تكون زيارة أردوغان المرتقبة للعراق البداية العملية لنهجه المرتقب حيال العراق، إلا أن ذلك لا يمنع من القول إن السؤال الأهم الذي ينتظر تركيا في العراق هو أن محاولات إعادة تشكيل هيكل السياسة الخارجية وتحديث آلياتها، هل سيجعلانها متأخرة عن التفاعلات المهمة التي قد يشهدها العراق في المرحلة المقبلة، ما يجعل السياسة التركية تسير باتجاه متأخّر وغير فاعل، أم ستعطي العراق أولوية قصوى تنتج عنها سياسة خارجية فاعلة ومتوازنة ومؤثرة؟