في منتصف الليل، بمدينة العلمين، يخيل للعابر أن الساعة الثانية ظهرًا من شدة الأضواء الساطعة في كل زاوية، على العكس تمامًا، يخيم الظلام كاملًا على القاهرة وضواحيها وبقية مدن الجمهورية، فيما يهرب الأهالي إلى شرفات منازلهم أملًا بالظفر بنسمات هواء عابرة.
وما بين المشهدَين قصة طويلة من المعاناة التي يعانيها المصريون منذ بداية فصل الصيف، انقطاع شبه متكرر، وصل في بعض الأماكن إلى ساعة وساعة، وسط حرارة حارقة وأجواء لهيبية، لكن في الجهة الأخرى هناك حفنة قليلة من المصريين لا يعرفون شيئًا عن معاناة السواد الأعظم، فهم في مأمن من انقطاع الكهرباء، يسمعون عن ذلك فقط من منصات التواصل الاجتماعي، ويتقبّلون ذلك بسخرية في المجمل.
وهنا تتعمّق المعاناة ويتضاعف الألم، فحين تنتفي معادلة “المساواة في الظلم عدل”، ويصبح أصحاب النفوذ والمال ونبلاء القوم من النخبة المتفردين بالاهتمام والعناية والراحة، فيما يقبع غيرهم في مستنقعات القسوة والوحشية والتجاهل، هنا يصبح الألم ألمَين، ألم انقطاع الكهرباء وألم العنصرية، ليصل المشهد إلى مرحلة قاسية من الانقسام المجتمعي.
تفرقة وازدواجية معايير
حالة من السخط بدأت تفرض نفسها على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي حديث المارة في الشوارع والطرقات، بعد انتشار المقاطع المصورة لواقع مناطق النخبة وعلية القوم، والتي خلت تمامًا من أي انقطاع للتيار الكهربائي، حيث بدأ التململ من استراتيجية الازدواجية والتمييز التي تتبعها الحكومة في تعاملها مع أزمة الكهرباء.
“إيه الفرق بين مواطن الهرم والدقي والمهندسين والغورية والقلعة والسيدة عائشة والحسين ومواطن الساحل والعاصمة الإدارية؟”، بهذا السؤال استهلَّ حسين حديثه عمّا وصفه بـ”عنصرية” الحكومة في إدراتها لأزمة انقطاع التيار الكهربائي، مضيفًا أن تلك التفرقة تثير الضغائن والأحقاد بين أبناء المجتمع الواحد.
وأوضح حسين ذو الـ 50 عامًا، في حديثه لـ”نون بوست”، أنه تقبّل سياسة تخفيف الأحمال التي تتبعها الحكومة، وتحمّل هو وأسرته انقطاع الكهرباء رغم هذا الجو شديد الحرارة، والذي حوّل البيوت إلى ما يشبه الجحيم، لكن ما باليد حيلة على حد قوله.
“إلا أن التفرقة في التعامل بين مواطن ومواطن وشعب وشعب هي الأمر المرفوض، فكلنا أبناء هذا الوطن، لنا جميع الحقوق وعلينا جميع الواجبات، غير أن هذا الوضع ربما يكون في الدساتير وفقط، ولا علاقة له بالواقع”، وفق تعبيره.
الرأي ذاته ذهبت إليه إسراء (38 عامًا) التي تعمل معلمة، وتقول: “أنا أعيش في منطقة السيدة زينب، والكهرباء تقطع هناك تقريبًا 4 مرات أو 5 في اليوم الواحد، ما يعني 5 ساعات في المتوسط دون كهرباء”، وأضافت أن الوضع في الأرياف عند أشقائها هناك أكثر حدة، حيث تبلغ ساعات الانقطاع عندهم 8 أو 10 ساعات.
وكشفت أنها رغم عدم قناعتها بفكرة تخفيف الأحمال، إلا أنها تقبّلت الوضع، خاصة “أن البلد كلها كده” على حد قولها، “لكن أن نكتشف بالصدفة أن هناك شريحة من الناس لا تنقطع عنهم الكهرباء ولا يشاركوننا تخفيف الأحمال لأنهم من أصحاب المال والنفوذ، فهذا أمر لا نقبله أبدًا حتى لو كانوا يدفعون للدولة”.
“فكلنا يدفع أسعار الكهرباء بالثمن نفسه ونتحمل مشاكلها بالطريقة نفسها، ولذا لا بدَّ أن تكون هناك مساواة في الظلم، وألا يتحمل البعض أزمات البلد في الوقت الذي ينعم آخرون بخيراتها دون أي تحمل”، هكذا أكملت السيدة المصرية كلامها.
براغماتية ظالمة
البعض يفسّر هذا التوجه بأنه لا يمكن قطع التيار الكهربائي عن بعض المناطق التي تدرُّ دخلًا للبلد، كالمناطق السياحية، ومنها العلمين والساحل الشمالي، كذلك العاصمة الإدارية الجديدة التي تحتضن مؤسسات الدولة الكبرى، فتلك الأماكن من الصعب أن يتم التعامل معها كبقية المناطق الأخرى التي تنقطع عنها الكهرباء.
وينسجم هذا الرأي مع ما تمَّ الإعلان عنه تفسيرًا لظاهرة انقطاع الكهرباء في الآونة الأخيرة، بأن السبب الرئيسي لها هو قلة المخزون من الغاز الذي يدخل في عملية توليد الكهرباء، مع عدم القدرة على ضخّ المزيد منه والذي يخصَّص للتصدير للخارج، من أجل الحصول على العملات الصعبة التي تحتاجها الدولة هذه الفترة للوفاء بما عليها من التزامات.
يقع المواطن ضحية أمرَين، الأول: الظلام مع درجات الحرارة العالية، وما لذلك من تأثير سلبي على حياة المواطنين اليومية، الثاني: التأثير المضاعف جراء الازدواجية والتفرقة بين عامة الشعب والنخبة من جانب، وتفضيل التصدير وعوائده الدولارية على مصلحة المواطنين من جانب آخر.
براغماتية يرفضها الجميع، كونها تتعارض أولًا مع مبادئ العدالة في الظلم، بجانب تناقضها مع ما تمَّ الترويج له خلال السنوات الماضية بشأن تحسين مستوى قطاع الكهرباء، بعد ضخّ عشرات المليارات من الدولارات عليه منذ عام 2014 وحتى اليوم، ليصل المواطن في النهاية إلى النتيجة ذاتها التي كان عليها قبل 9 سنوات، انقطاع يتبعه انقطاع، دون لمس التطوير المتوقع، والذي كان يتوقع معه الشعب القضاء على ظاهرة انقطاع الكهرباء للأبد، بحسب تصريحات الحكومة والمسؤولين على مدار السنوات الماضية.
المصريون في أزمة الكهرباء الحالية يدفعون الثمن مرتَين، ثمن الأحمال المرتفعة ودرجة الحرارة الحارقة والمعاناة شبه اليومية من جانب، وثمن التفرقة والعنصرية والازدواجية من جانب آخر.
ووفق التقديرات، فقد أنفقت السلطات المصرية على تطوير قطاع الكهرباء قرابة 275 مليار دولار بحسب صحيفة “اندبندنت” مقابل تقديرات حكومية أخرى أقل، شملت إنشاء بعض المحطات العملاقة، أبرزها في العاصمة الإدارية الجديدة وبني سويف وكفر الشيخ بطاقة إجمالية تصل إلى 14.4 ألف ميغاواط.
وفي عام 2019 وصلت مصر إلى حد الاكتفاء الذاتي من إنتاج الكهرباء، بجانب وجود فائض للتصدير، ما دفع الحكومة لعرض بعض المحطات المدشنة حديثًا للبيع مرة أخرى لسداد القروض التي تمَّ الحصول عليها لإنشائها بداية الأمر، وهو ما جعل ما يحدث اليوم من عدم كفاية كميات الكهرباء المنتَجة بمثابة الصدمة للمصريين.
في ضوء ما سبق، المصريون في أزمة الكهرباء الحالية يدفعون الثمن مرتَين، ثمن الأحمال المرتفعة ودرجة الحرارة الحارقة والمعاناة شبه اليومية من جانب، وثمن التفرقة والعنصرية والازدواجية من جانب آخر، وسط تحذيرات من مغبّة هذه السياسة على أمن واستقرار المجتمع، الذي يغلي بسبب الأسعار الجنونية والبطالة المفرطة والمستوى المعيشي المتدني.