عند مشاهدة فيلم “أوبنهايمر” للمخرج كريستوفر نولان، تردد إلى ذهني أكثر من مرة أحد المبادئ المهمة في النظرية الكمومية، مبدأ الريبة لهايزنبرغ: “لا يمكن تحديد خاصيتَين مقاستَين من خواص جملة كمومية إلا ضمن حدود معينة من الدقة، أي أن تحديد إحدى الخاصيتَين بدقة متناهية (ذات عدم تأكد ضئيل) يستتبع عدم تأكد كبير في قياس الخاصية الأخرى”.
هناك شعور ملتبس يلفّ الشخصية السينمائية، شعور بالريبة، لكن -لحسن الحظ- السينما يمكن أن تقدم خاصيتَين بالجودة والدقة نفسهما، يمكن أن تثبت نظريتَين أو تجمع بيانات متباينة في لغة بصرية ومنتج إبداعي واحد، والشيء المؤكد أنه لا يمكن قياس السينما بالعلم، لكن نولان لم يتجاوز الارتياب الأولي، وأنا أقول الأولي لأن هناك التباسًا سينمائيًّا بحيث تصبح الشخصية مبهمة من الداخل وغير قادرة على الرؤية.
لكن الارتياب الأولي أقل عمقًا واشتباكًا على المستوى الجواني، وهنا يتحول الارتياب إلى نقطة ضعف، لأن نولان يحاول الانتصار لكفتَين، أو على الأقل يودّ أن يسرد رؤية معقولة دون الانجراف لعاطفة الضحايا، فهم بطبيعة الحال -اليابانيون دون شك- الضحايا الحقيقيون لمجرم حرب، لكن القصة لا تنتهي عند هذا المنعطف الأبوكاليبسي، فالانفجار السردي أو الذروة السينمائية ليست النهاية كما حدث في الحقيقة.
يريد نولان أن يروي الحكاية من منظور العالم أوبنهايمر، كدراسة حالة تتعلق أكثر بالشخصية كنموذج سردي يتطلب الولوج إلى مستوى حميمي يخترق حدود الداخلي، لكنه على العكس كان يتجه للخارج وليس للداخل، الأمر لا يتعلق بكون الكاميرا متعلقة بعينَي أوبنهايمر (الممثل كيليان ميرفي)، بل بمدى التعرض للارتياب الباطني، والتصدي لكل ما هو ذاتي يحمل قيمة جوهرية في بناء وقرارات الشخصية.
التشوش الذي يلحقه ندم بالنسبة إلى أوبنهايمر يتبدى على السطح في وجه الممثل بشكل مميز، غير أنه يفتقد للتكثيف الداخلي التي تشعله الذات الفردانية فيما تمثل الضد.
الانتصار لجبهتَين
أوبنهايمر شخصية متعددة الطبقات، يحتاج المخرج أن يطور رؤية كاشفة حتى يتسنّى له تجاوز العوازل، ليصل إلى ما يشبه التعري الدرامي، غاية السيرة الذاتية ودراسة الحالة، لكنه انهمك أكثر في نسج الإيقاع الخفاق وخلق القفزات الزمنية، شغل زمنه أكثر بالقنبلة وأسّس سرديته على الواقعة كموتيف أكثر أهمية بالنسبة إلى الفيلم.
والحقيقة أن تلك نقطة مهمة، فالقنبلة وأوبنهايمر كلية واحدة لا يمكن فصلهما، بيد أن تفاصيل صنع القنبلة تأتي هنا على حساب تفاصيل رصد النفسي والخصوصي، وبما أنه قرر منذ البداية أن يمرر كل المعلومات والبيانات من خلال عين الشخصية، أي أن كل ما هو خارج عن الشخصية وحياتها يعدّ دخيلًا على الفيلم حتى لو كان متصلًا في سياق آخر، لهذا لم يصوّر مشاهد سقوط القنبلة على اليابان، فبالنسبة إليه مشهد القنبلة هو مدخلات خارجية لا يمكن الاستعانة بها داخل سردية شخصية.
نولان صنع فيلمًا مميزًا على المستوى التقني وحتى السردي والإيقاعي، لكن بطنه جوفاء، لم يقترب من المناطق الشائكة بشكل كافٍ
لكنه على الجهة الأخرى يودّ نولان الانتصار لجبهتَين، يؤصّل أكثر للريبة اتجاه الكفتَين، أوبنهايمر نصف مجرم ونصف نبي، اليابانيون ضحايا غير أنهم لما كانوا ليستسلموا أبدًا، آثار القنبلة التدميرية لا يمكن أن تخطئها عين لكنها أنقذت آلاف الأمريكيين وأنهت الحرب، أحلت القنبلة السلام العالمي، غير أنها بمثابة تهديد يحدق بالسلام العالمي.
ببساطة، يدين نولان وينفي في الوقت ذاته، يتناوب على عرض جهتَين متناقضتَين أساسهما واحد، الأمر أشبه بخاصية البينغ بونغ التي تستخدَم في الدعاية التجارية؛ أن ترمي الكرة في مساحة الشخص المواجه لك، فيردّ الكرة مرة أخرى إلى مساحتك، وهكذا بالتناوب يتقاذف الطرفان الجمل بشكل طريف، لكنه هنا ليس طريفًا على الإطلاق.
ذلك الموقف الاستثنائي اتجاه البطل يرفع من قيمة السردية في إطارها الخارجي، لأنها يكشف بعض نقاط ضعف أوبنهايمر لكنه يبرز نقاط قوته أيضًا، غير أنه يترك الشخصية ذاتها في موقف مائع ومضطرب، يشحذه بإيقاع مرتفع وسياقات متعددة وخطوط زمنية مختلفة، وعلى عكس الخواص السينمائية التي تكفل إثبات نظريتَين في آن واحد.
يخلق نولان من العوالم البسيطة دنيا مركّبة، ويؤسّس دائمًا للمفاجأة، يلوي الحبكة بحيث تصبح قادرة على مداهمة المشاهد، لهذا يحدث دائمًا في أفلامه أن تختلط الأوراق
بيد أن نولان هنا لا يحدد ولا يثبت أي شيء إلا معلومة واحدة، هي النهاية المأساوية لأوبنهايمر، ربما يظن البعض أن الريبة والشكوكية تضيف الكثير من القوة للسرد، ليست وظيفة السينما أن تثبت أي شيء أو حتى تدين أي شخص، وهو رأي مرجّح جدًّا، غير أن نولان هنا صنع فيلمًا مميزًا على المستوى التقني وحتى السردي والإيقاعي، لكن بطنه جوفاء، لم يقترب من المناطق الشائكة بشكل كافٍ حتى يصبح فيلمًا يمينيًّا تمامًا أو يساريًّا تمامًا، بل فضّل البقاء في المنطقة الآمنة.
حيز سينمائي مختلف
لا ينفي هذا أنه أحد أفضل أفلام نولان صنعًا على الإطلاق، ويمتلك من الجودة الفنية ما يشفع له أن يكون من أفضل أفلام العام حتى الآن، خصوصًا على مستوى الأداء الفردي والإنجاز التقني.
في الحقيقة، وعكس كل ما يصدر حول ذلك الفيلم بشكل خاص، إنه لا يشبه أفلام نولان السابقة، غير صحيح، الفيلم كما يقول بعض النقّاد ليختزلوا منهجية أي مخرج ولغته البصرية وطريقته في الكتابة، نولانسك (Nolanesque) بامتياز، ويحمل داخله كل الملامح الممكنة التي بالضرورة تعرّف سينما نولان التجارية والفنية، وتشير إلى صنعته الإبداعية وحرفته المتفردة وحتى نمط إنتاجه المبالغ فيه.
فنولان بطبيعة الحال هو المضاد لكل ما هو مصغّر (Minimalist)، بحيث يعكس كل شيء بأحجام ضخمة وهائلة، بداية من الميزانيات الضخمة مرورًا بنجوم الصف الأول -مثلما جاء بنجوم مثل كيسي أفليك وكينيث براناه ورامي مالك ليقوموا بأدوار ثانوية ضئيلة-، حتى الموضوعات التي يتعاطى معها في أفلامه فيما تشتبك مع الكوني والحالم.
إنها سينما تليق أن تكون تجارية، لكن نولان يأخذها إلى حيز سينمائي مختلف، بروايته متعددة الطبقات والمستويات، وسرده المضطرب والمعقّد.
يخلق نولان من العوالم البسيطة دنيا مركّبة، ويؤسّس دائمًا للمفاجأة، يلوي الحبكة بحيث تصبح قادرة على مداهمة المشاهد، لهذا يحدث دائمًا في أفلامه أن تختلط الأوراق، ربما يشعر البعض في فيلم “أوبنهايمر” أن نولان -ورغم النزعة البصرية التي تمنح شعورًا تسجيليًّا في بعض أجزاء الفيلم- يصنع فيلم سيرة ذاتية بإيقاع فيلم يندرج تحت نوعية الإثارة.
يخلق نولان فيلمًا هجينًا، بإيقاع يوازي في سرعته سرعة الحوارات في الفيلم، والحوارات هنا غزيرة بالفعل، في بعض الأجزاء لا تسمح للآذان بالتقاط الحوارات، حشد من المعلومات عن صناعة القنبلة، وهو الجزء المثير في الفيلم الذي ينقسم إلى 3 أجزاء تقريبًا، في أطوار مختلفة من حياة العالم، لكنه لا يخرج عن نطاق الشخصية إلا حين يقرر صناعة الغريم (Antagonist) على مستوى سياسي أكثر وإيقاع أقل حركة.
الأداء السينمائي
لويس ستراوس (روبرت داوني جونيور) الذي يقوم بأداء ممتاز هو الآخر، ويحاول أن يخلق صراعًا لا يقوم على الطموح بقدر ما يقوم على الكراهية، التي تنبع من موقف يتبدى سخيفًا بعض الشيء، لكنه يخلق ذروة ثانية تنقذ الثلث الأخير من الفيلم من السقوط في صورة سينمائية بالأبيض والأسود، لتميز ذلك الخط السردي المنفرد.
مشهد انفجار القنبلة ساحر ورهيب، ومن أجل هذا المشهد فقط يجب أن يدخل الجميع السينما، لأنها تجربة أكثر منها مشاهد مجردة
والحقيقة أن الإنجاز البصري للفيلم الذي صُوّر بكاميرا فيلم 65 مم يتجاوز اللقطات القريبة لوجه الممثل كيليان ميرفي أو المشاهد الداخلية للمحاكمة، ويتعلق أكثر بفكرة عدم استخدام CGI في خلق مشهد القنبلة، والشيء المؤكد بالنسبة إليّ أن نولان كمخرج أكثر براعة من أي مخرج تجاري آخر في خلق لحظة سينمائية مدهشة على المستوى البصري والسمعي، لحظة تفتح الأفواه والانتباه الكامل لدرجة التوحُّد الشامل مع المشهد السينمائي.
لحظة انفجار القنبلة هي لحظة تنطبق عليها كلمة “سينمائية” بكل ما تحمل الكلمة من معنى، موسيقى لودفيغ غورانسون التصويرية حفّزت المشاهد منذ الدقيقة الأولى، استمرت في تكثيف وتعزيز السرد تقريبًا في كل أجزاء الفيلم، الكثير من المشاهد لم تكن تحتاج هذا الإسراف في الموسيقى، بيد أن مشهد الانفجار وما قبله من دقائق تأسيس كانت مثالية.
لكل شيء حدّان، يمكن للنار التعمير أو التدمير، لكن القنبلة سلاح ذو جهة واحدة، التخويف والضغط والتدمير
ذلك النوع من المشاهد هو ما خلق شعبية نولان، ويستحق تلك الشعبية لأنه ماهر جدًّا في تأسيس تلك المشاهد التي تبتلع المُشاهد وتستحوذ عليه بنسبة 100%، لكن على الجهة الأخرى إذا كان نولان يودّ أن يعادل الانفجار الحقيقي في تجربة سينمائية، عليه أيضًا بالضرورة أن يحاول معادلة الشعور الذي تخلّفه التجربة.
فالأمر بالنسبة إلى الجيل الذي لم يعايش رعب تلك التجربة في الحقيقة مجرد انفجار ضخم مجرد من أي شيء، بناء تلك المشاعر كان يتطلب تعقيدات على مستوى السرد وليس مجرد ردود أفعال، لكن في الحقيقة المشهد ساحر ورهيب، ومن أجل هذا المشهد فقط يجب أن يدخل الجميع السينما، لأنها تجربة أكثر منها مشاهد مجردة.
منذ اللحظة الأولى، يحيل نولان سرديته إلى الميثولوجيا اليونانية في مفتتح الفيلم: “سرق بروميثيوس النار من الآلهة ومنحها للبشر، لهذا قُيّد بصخرة في عذاب أبدي”.
يربط نولان شخصية أوبنهايمر ببروميثيوس، أحد العمالقة المفضّلين للبشر لأنه منحهم النار، والحقيقة أن تشبيه أوبنهايمر ببروميثيوس لمجرد وجود فعل أساسي يحكم تتابع القصتَين ويغير مجراهما ومجرى العالم إلى الأبد، هو تشبيه يحمل وجاهته في إطاره الخارجي، أي أن الهيكل القصصي متشابه لكن الدافع نفسه مختلف.
بروميثيوس أشبه بمخلّص، مهّد للبشر طريق المعرفة، ومن أجل هذا الفعل النبيل عذّبته الآلهة، لأن قانون الآلهة مختلف، ولكننا لسنا آلهة على أي حال، ولا أوبنهايمر المسيح المخلّص بأي درجة ممكنة، أوبنهايمر شخص نابغة عبقري، ذو خلفية ثقافية مذهلة، بيد أنه ليس نبيًّا أو مرشدًا، ويتحمل المسؤولية الأخلاقية كاملة، حيث لم يراوده حتى شكّ في كون المشروع تدميريًّا، لم يعذبه ضميره الأخلاقي بأي شكل خلال المشروع، لمجرد كون النازيين يمكن أن يصلوا إلى القنبلة قبلهم، حتى مع توارد الأخبار بكون النازيين يحتاجون الكثير من الوقت، والحقيقة أن ربط أوبنهايمر ببروميثيوس إحالة في غير محلها، لأن بروميثيوس لم يدمّر العوالم بأي شكل من الأشكال.
لكل شيء حدّان، يمكن للنار التعمير أو التدمير، لكن القنبلة سلاح ذو جهة واحدة، التخويف والضغط والتدمير، ربما يتقارب الاثنان في كونهما معذبَين بفعلتهما، لكن أساس الفعل نفسه وطبيعته مختلفة تمامًا.
نجح الفيلم على مستوى نقدي، بسبب الأداء الاستثنائي للممثل الفريد كيليان ميرفي، الذي يقدم أفضل أداءاته على الإطلاق
أوبنهايمر ودَّ لو صنع شيئًا بمقياس إلهي، كامتداد علمي لقوة أشبه بقوة سماوية، ومكّن الولايات المتحدة الوصول إلى الألوهية التدميرية والعنف الإلهي، غير أنه مختلف تمامًا عن بروميثيوس كنموذج يبحث عن المجد الشخصي أولًا، معميّ بالكبرياء العلمي والطموح التنفيذي لتجربة علمية كانت حاسمة وفاصلة بالنسبة إلى العلم والعالم في آن واحد.
لقد نجح الفيلم على مستوى نقدي، بسبب الأداء الاستثنائي للممثل الفريد كيليان ميرفي، الذي يقدم أفضل أداءاته على الإطلاق وأسمى أداء في جميع أفلام المخرج كريستوفر نولان، حقّق كليان كل ما يمكن تحقيقه بالنسبة إلى ممثل في عمل سينمائي، يكفي أن يسلّط نولان الكاميرا في لقطة قريبة على وجه كيليان في أطواره المتعددة، ليحدق في الفضاء أمامه على مدّ البصر في شرود وبرود، ولو أن الكتابة كانت أفضل قليلًا لتملأ ما وراء العينَين.
لم يواجه ميرفي لحظة من التراجع في الأداء، رغم وجود تخبُّط غير مفهوم لأن أوبنهايمر ذاته -في سردية نولان- لا يفهم بشكل واضح عواقب ما يفعله، لكنه يحاول قدر الإمكان عكس الحالة الداخلية للشخصية، وتوقُّع ما يمكن أن تكون عليه.
أظنّ أن هذا عمل ممثل وليس عمل مخرج، فنولان مشهور بالإدارة المتواضعة للممثلين ونصب كل اهتمامه على الصورة و”الميزانسين” الذي يحترف في صنعه، وفيلم أوبنهايمر تجربة مهمة تستحق المشاهدة، يقدم تجربة بصرية ممتازة لكنه يفتقد للوعي والفهم الكامل للشخصية، ما أثّر على جودة الفيلم.