حتى يناير/كانون الثاني 2011، لم يكن الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي كان قد تدرج في المناصب حتى وصل إلى قيادة مخابرات الجيش، شخصية معروفة ذات ثقل في المشهد السياسي المصري، إذ اقتصر صيته آنذاك عند حدود نخب المؤسسة العسكرية، باعتباره ضابطًا محافظًا مجتهدًا، ليس إلا، لكن تلك الصورة الذهنية تغيرت كثيرًا، صعودًا ثم انحدارًا بعنف، خلال عقد ما بعد الثورة.
صعود سريع
على حين غرة، بزغ نجم السيسي في فضاء المشهد المصري، بدءًا من عام 2012، مستفيدًا من جملة من العوامل التي تواطأت، بقصد تارة وبتدبير قدري تارة أخرى، لكي يلمع الرجل ويزدهر ويصبح محط أنظار الجميع.
قدمت جماعة الإخوان المسلمين، التي تلقفت الحكم من المجلس العسكري، عبد الفتاح السيسي باعتباره جائزة السماء التي تدلت، دون عناء – شأنها في ذلك شأن أي هدية ثمينة – بقيم مغايرة لقيم نخبة مبارك العسكرية، التي ترهلت من عقود السلام والمعونات المليارية الغربية، بحيث ينتظر منه أن يكون ذراعًا يمنى لمرسي، الذي لم يكن لديه أدنى خبرة في العسكرية وكواليس البروتوكول الحربي، وليقود السيسي – طواعية – عملية تحديث الجيش، بكل الولاء لمرسي، ولم لا؟ فهو “وزير دفاع بنكهة الثورة!”.
في المقابل وفي نفس الوقت، ركز الإعلام المصري، الذي كان مملوكًا في المجمل حينها لنخب من رجال الأعمال المعادية، إما لقيم الثورة الأخلاقية والعدالة الاجتماعية وإما لليمين الإسلامي المحافظ وعلى رأسه الإخوان المسلمون، على إبراز مناقب شتى للسيسي، فهو، في نظر عدسة ذلك الإعلام، كان القائد الرشيق، شكلًا وموضوعًا، الذي يحظى بإعجاب اجتماعي عام، وتأثير شديد لافت، ليس فقط في الجنود والضباط الذين يقودهم صباحًا في تمارين اختراق الضاحية، وإنما في الرأي العام كله، بفضل كلماته المرتبة الدقيقة، التي تلامس، رغم قلتها، تلابيب الشخصية المصرية.
في واقع الأمر، كانت الآلة الإعلامية في الواجهة، ومن خلفها يد السيسي نفسه في الكواليس، حريصة كل الحرص على إبراز رسالة واحدة وتأكيد مضمونها، وهي جدارة وأهلية وكفاءة السيسي الذي يحظى بـ”إجماع ضمني تام” للقيادة في مقابل رعونة وسذاجة مرسي، ذلك الرجل الذي لا يعرف كيف يتكلم وكيف يقابل الضيوف الرسميين ويتوتر من البروتوكول الجديد، بعد سنوات من المكوث في السجن، كما ردد الإعلام حينها.
وبينما ارتبط حضور مرسي في أروقة القصر الرئاسي بالتخوين وعدم الأهلية والتشكيك في الوطنية وسيل الاتهامات بنية التفريط في الثوابت، تعمد الإعلام إبراز قرار وزير الدفاع – السيسي – حينها بحظر النفوذ الأجنبي المحتمل بالقرب من حدود سيناء، في رمزية مبكرة مقصودة لتكريس تلك الصورة شعبيًا: يريد مرسي أن يتخلى، ويناضل السيسي من أجل حماية التراب الوطني.
شعبية مصنوعة
بين هذين الخطين المتناقضين، الخط الأول بتصدير الولاء والحرص على النصح الظاهري للرئيس الأسبق مرسي، وهو ما جعل مرسي يتصور، حتى قبل سويعات قليلة من 3 يوليو/تموز 2013، أن السيسي قد يوافق على رئاسة الوزراء كحل للأزمة السياسية، والخط الثاني، الذي يقوده الإعلام والنخب السياسية، والسيسي نفسه، بترويج وزير الدفاع كحل نهائي توافقي لمشاكل البلاد، استطاع السيسي إخراج مشهد الانقلاب.
وزير دفاع يلتف حوله الجيش ومؤسسات الدولة العميقة وجهاز الدولة الأيديولوجي والنخب المعارضة، يطيح علنًا بالرئيس المنتخب والدستور الذي استفتى عليه الشعب، وسط حفاوة كبيرة من آلاف المصريين، العاديين وأصحاب المصالح، الذين اجتمعوا، ولو ظاهريًا على الأقل، على مباركة عزل السيسي لمرسي وأنصاره وعزلهم عن الجماعة الوطنية.
فسر باحثون عزوف عموم المواطنين عن المشاركة في تلك الانتخابات بتيقُن الجميع من حسم السيسي المشهد، على أي معيار، دون الحاجة إلى المكابدة والوقوف في طوابير الانتخابات
في 26 يوليو/تموز 2013، كان الاختبار الحقيقي الأول لسحر تأثير السيسي، الضابط الغامض، الذي استطاع إقناع الآلاف مجددًا، لا بالنزول لتوطئة الطريق أمام الإطاحة بالرئيس الذي أبرز الإعلام نقاط ضعفه ومثالبه وحسب، وإنما بالالتفاف الشعبي حوله شخصيًا فيما عرف بجمعة “التفويض”.
يشير “التفويض” في الأدبيات السياسية الأكاديمية إلى لحظة تقرر فيها الجموع، طواعية ظاهرًا، تحت تأثير الهالة حقيقةً، فيما يشبه لحظة “السُكر” التخلي عن الأهلية العامة والحق في المشاركة السياسية والانتخاب والرقابة والمحاسبة، تلك القيم التي هي صلب وجوهر مشروع الحداثة السياسية، لصالح “السيد” الذي سيمتلك، بموجب تلك الاستجابة الشعبية، صلاحيات إلهية مطلقة للقضاء على السياسة وإخضاع الجميع بالقوة، أو كما قال السيسي نصًا، بلا مواربة “ما تسمعوش كلام حد غيري”.
في العام التالي، 2014، بدا أن شخصية السيسي ليست محل إجماع شعبي تام كما صور الإعلام في المشاهد السابقة، إذ لم يستطع الرجل صناعة مشهد انتخابات رئاسية لائقة، رغم محاولات الترهيب والترغيب التي وصلت إلى حد مد أيام التصويت أملًا في تحسين المشهد، دون جدوى.
لكن هذا لم ينف سحر الرجل وتأثيره، فقد فسر باحثون عزوف عموم المواطنين عن المشاركة في تلك الانتخابات بتيقُن الجميع من حسم السيسي المشهد، على أي معيار، دون الحاجة إلى المكابدة والوقوف في طوابير الانتخابات، وهو ما أفرزته نتائج الانتخابات باكتساح السيسي لمنافسه الوحيد، حمدين صباحي، الذي حل ثالثًا، بعد الأصوات الباطلة.
ركائز القوة
خلال السنوات الأولى لحكمه، بدا السيسي مقتنعًا في قرارة نفسه بحتمية نجاح مشروعه الجذري في إدارة البلاد، إذ ناهيك بالأسباب الموضوعية التي استند إليها في وعده للمصريين بأن تعود بلادهم إلى مكانتها أو “قد الدنيا” على حد وصفه بالدارجة المصرية، كان السيسي متكئًا على “النبوءة”.
تقول النبوءة، التي قصها السيسي على الإعلامي ياسر رزق في حوار له قبل الجلوس الرسمي على كرسي الرئاسة وتسربت للرأي العام صدفة، إنه حلم عدة مرات أنه سيصير حاكمًا للبلاد وسيتقلد رمزيات مادية كالساعات الفاخرة، في ذروة علوه، ومن الواضح أن النبوءة في طريقها إلى التحقق.
في عقل السيسي، كانت هناك سردية محكمة عن مستقبل البلاد تحت قيادته، إذ سيستغل تأثيره الاستثنائي في الجماهير لتمرير الإصلاحات الاقتصادية القاسية التي فشل السادات ومبارك كلاهما في تنفيذها، لترشيد عجز الموازنة العامة للدولة، وسيوفر تمويلًا هائلًا طويل المدى من داعميه في ممالك النفط لإنعاش خزينته.
ومن الاتجاه الإستراتيجي الشمالي الشرقي، سيستعين السيسي بـ”إسرائيل” لاحتواء الضغوط المنادية بتحسين المناخ السياسي من التيارات الديمقراطية في واشنطن، وسيبدأ، بمعاونة “إسرائيل” أيضًا حربًا فورية شاملة منزوعة الأخلاق على التمرد القبلي الإسلامي العابر للحدود في شبه جزيرة سيناء، الذي استفحل في السنوات الأخيرة لحكم مبارك، وصار خطرًا وجوديًا على رمزية الدولة في تلك البقعة الحساسة.
وسيلعب الجيش دور رأس الحربة في ذلك المشروع، بما يضمن له توريط المؤسسة العسكرية في أحلامه الشخصية بشكل بنيوي، وضمان ولاء الضباط الذين سينخرطون في حرب تعبوية مفصلية ضد “الإرهاب” في سيناء، فينتخب منهم أبطالًا أو شهداءً لتعزيز السردية الوطنية، أو سينخرطون في أكبر بيزنس مقاولات “لإعادة تعمير” البلاد في المنطقة.
على هذا النحو، بات كل شيء كاملًا: النبوءة القادمة من العالم الآخر كما يظن السيسي، ومصداق النبوءة عمليًا على أرض الواقع في حشد وتعبئة العناصر الداعمة، المال والعلاقات العامة من الخليج، والأمن والتقنية من “إسرائيل”، والقوة الجذرية الباطشة من الجيش، وهو ما باركه فعلًا شريحة واسعة من المصريين، اشترت من السيسي سرديته التي منتهم بتحسن الأمور بعد تفعيل حالة “الاستثناء” وبقدرة السيد الجديد على إحداث التغيير المنشود.
البطل المتفرد
بناءً على القناعة بما سبق، النبوءة الراسخة والبرنامج المتكامل، بلور الفريق الإعلامي للسيسي تصورًا عن ظهوره في المناسبات العامة، على نحو يركز على إبراز سمات الفتوة والحسم والتفرد والثبات والبصيرة في الرجل، شكلًا وموضوعًا، أمام الرأي العام.
فالظهور المتكرر يمتطي الدراجة الهوائية الحديثة فائقة السرعة، متجولًا بها في شوارع القاهرة ذات الطابع الأمني، وخلفه كتائب الجيش والحرس الجمهوري والحكومة، فجرًا، يبعث برسالة مطردة، إلى الداخل والخارج، بأن لتلك البقعة الجغرافية قائدًا محتكرًا للقوة والتمثيل، يدين له الجميع بالولاء، طوعًا أو كرهًا.
اعتاد هذا الظهور، وما يدخل في تصنيفه من مراسم استقبال رسمية للسيسي تركز على الفخامة والنرجسية والسيادة، على انتزاع الاعتراف المتجدد بالأهلية لتلك المكانة من المواطن العادي، وربما بالإعجاب والخضوع غير المعلن لتلك الهالة من بعض خصومه ومعارضيه.
كتأكيدٍ منه على التشبع بتلك النرجسية والألق والإعجاب بالذات، ظل السيسي يردد أن جانبًا معتبرًا من تبؤوه لحكم البلاد جاء استجابة منه “للاستدعاء” والمناشدات، سواء من زملائه العسكريين أم من عموم المواطنين، الذين استدعوا أشجع أبناء الوطن وأكثرهم بصيرة وفهمًا لإنقاذ الوطن، كما يقول السيسي عن نفسه.
حتى إنه، في بعض الأوقات الحرجة، كتعرُض إحدى النقاط الإستراتيجية للاستهداف، في ذروة ما عرف رسميًا بـ”الحرب على الإرهاب”، كان السيسي يثني على شجاعته الذاتية، فيقول نصًا إن الرأي العام قد تأثر سلبًا بتلك العملية، لكنه لم يتأثر.
كما اعتاد السيسي أيضًا، في السنوات الأولى من حكمه، تمرير القرارات الاقتصادية الصعبة، بنوع من المبادرة الذاتية اللافتة والمتعمدة، فيقول إنه آثر أن يعلن بنفسه عن القرار الخاص بتعويم العملة الوطنية، أو بفرض ضرائب جديدة على المواطنين، عوضًا عن أن يترك تلك المهمة لأحد المسؤولين، لأنه يثق في علاقته بالمصريين وتأثير ظهوره عليهم إيجابيًا.
وقد يكون من دفن الرأس في التراب إنكار أن ظهور السيسي وجسارته في بعض الأوقات الصعبة، وإيثاره للمواجهة، ساهم في خلق نوع من الثقة بينه وبين المواطنين، على الأقل في وقت مبكر من سنوات حكمه الأولى، حيث كان لسان حال المزاج الشعبي: إذا كان الرجل ملمًا بتفاصيل دولاب الدولة، نزيهًا ناصع اليدين كما قدم نفسه، طموحًا يعرف من أين تؤكل الكتف، ويقف خلفه الداخل والخارج بالقوة والمال، ولا يطلب منا إلا قليلًا من التحمل، فلم لا نصبر عليه ونثق به؟
صرح من خيال
ذهبت السكرة ونشوة التعبئة الشعبية في لحظة 30 يونيو/حزيران وجمعة التفويض والانسياق وراء النبوءات والماورائيات وأحلام الدعم الخليجي غير المشروط والشيكات الجماهيرية على بياض، وبقيت الفكرة.
تخلت ممالك الخليج النفطية والمؤسسات الدولية المانحة عن السيسي، بعد سنوات من الدعم المادي السخي الميسر، لِما رأوه من سفه في تصريف تلك الأموال، وصعود نخبة خليجية حاكمة ترى في السيسي لقمة سائغة يمكن عبر هضمها منازعة مصر في نطاقات نفوذها بل وفي أصولها الإستراتيجية.
ولم تستطع “إسرائيل” المتواضعة جغرافيًا، التي تعاني من مشكلات هيكلية سياسيًا واجتماعيًا إغاثة السيسي في ملفات حيوية أبعد من الأمن في سيناء وكبح الضغوط الأمريكية على النظام في القاهرة، نظرًا لحاجة السيسي الماسة، بشكل مستدام، إلى المساعدات النوعية التي لا يمكنها تلبيتها، كما أنها تنظر إلى تراجع مصر في عهد السيسي أيضًا كفرصة ينبغي عدم تفويتها لتعزيز نفوذها على حساب أحد أبرز الفاعلين الإقليميين.
باستثناء التمرد الإسلامي – القبلي في سيناء الذي نجح في تحييده إلى حد كبير بالتوازي مع الحملة العالمية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، لم يستطع السيسي، الذي تم تفويضه كمنقذٍ ومخلص، احتواء هاجس المصريين الخاص بشريان الحياة والقادم من الجنوب.
فبعد 10 أعوام من حكم السيسي، مرت خلالها إثيوبيا بحرب أهلية ضارية، عصفت باقتصادها الهش وأودت بحياة الآلاف وكشفت البلاد أمام التدخلات الخارجية، ظل سد النهضة صامدًا، وبات حجز مليارات الأمتار المكعبة من المياه عن مصر، التي تعاني من فقر مائي، أمرًا واقعًا.
وجد السيسي نفسه مضطرًا للتفريط في الثوابت التي تواتر حكام مصر الحديثة على حمايتها وعدم المساس بها، التي تذرع السيسي بإزاحة مرسي من أجل الحفاظ عليها، فصار كل شيء قابلًا للبيع وتوارت القداسة الوطنية عن مفردات الخطاب السياسي الرسمي.
من أجل توفير دولارات عاجلة لسد الديون الهائلة التي حصل عليها السيسي لبناء القصور والسجون والمقرات الإدارية العملاقة، فرط في تيران وصنافير، ومنح الأجانب تسهيلات غير مسبوقة في تملك الأرض والعقار والحصول على الجنسية، كما بات التهرب من الجندية مشروعًا إذا أودع المطلوب للخدمة العسكرية مبلغًا دولاريًا لإنعاش النظام.
اعترف السيسي، بنفسه على نفسه في لحظة نادرة، أن كثيرًا من “الأحلام” التي كانت تراوده في شبابه قبل أن يكون جزءًا من المشهد السياسي العام في البلاد، مثل المدن الصناعية المتخصصة التي ضخ مليارات من أجل تنفيذها، اصطدمت بعتبة الواقع، فلم يقبل عليها المستثمرون ولم تلق ترحابًا من المواطنين.
حتى مشروعات الطرق ومحطات الطاقة التي طالما تغنى بها الإعلام الرسمي في السنوات الأولى من حكم السيسي، أظهرت هشاشةً استثنائية أمام العوامل الطبيعية، فبضعة أمتار مكعبة من الأمطار كفيلةٌ بتدمير طريق حديث أشرف الجيش على شقه بالمليارات، وموجة حارة جعلت البلاد ترزح في الظلام.
ولسوء حظه، فقد تبددت تدريجيًا إحدى أبرز السرديات التي كان يستند عليها السيسي في تفرُده وشعبيته وتبرير إجراءاته الاقتصادية القاسية، وهي التجرد ونظافة اليد، إذ كشفت المواد الاستقصائية والصراعات السياسية الداخلية بين أجنحة الحكم بدءًا من سبتمبر/أيلول 2019، تضخمًا هائلًا غير مبرر في نفوذ وثروة السيسي وأبنائه وأشقائه.
وبمرور الوقت، وجد المصريون أن الصيغة التي اُتفِق عليها ضمنيًا بين شريحة معتبرة منهم، شاركت في 30 يونيو/حزيران واستجابت للدعوة للتفويض، بأن يظل عنف الدولة الجذري مقصورًا على خصومها من الإسلام الجهادي والسيادي، نُقِضت بالكامل.
إذ راكم الضباط من النفوذ والثروة والحماية، ما جعلهم يتجرأون على اقتحام مشفى حكومي وجلد كادره الطبي بالصوت والصورة اعتراضًا على مستوى الخدمة المقدمة لهم، ودهس أسرة مدنية بالكامل عقابًا على كشطها سيارة مقدسة لأحد الضباط الشباب، ناهيك بعودة التوسع في قتل المواطنين خارج القانون داخل مقرات الشرطة.
أفول النجم
في مشهد نادر شديد التكثيف والدلالة، بدا السيسي الذي صعد إلى السلطة في كامل طاقته، مرهقًا شاحب الوجه بعد عقد من الطموح الجامح والانكسارات، وذلك في لقاء غير رسمي مع أحد القادة الأفارقة على هامش القمة الدولية التي عقدت في روسيا نهاية يوليو/تموز الماضي.
توقفت أيضًا بعض مشروعات البنى التحتية التي كان السيسي يتعهدها بالزيارة أسبوعيًا ضمن برنامجه الدعائي لاستظهار هيمنته على ربوع البلاد، وبدأت بعض الوزارات في الاستدانة من خزينة الجيش المعدة للطوارئ مدفوعة في ذلك بنقص التمويل، كما تواجه العاصمة الإدارية “انكشافًا” عامًا ضرب مساعي افتتاحها الأسطوري، الذي طالما انتظره النظام، في مقتل.
لم يعد السيسي متحمسًا للظهور في وقت الأزمات للثناء على ثباته الشخصي كما اعتاد، حتى إنه أوكل مهمة مخاطبة الرأي العام في أزمة انقطاع الكهرباء إلى رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، الذي يفتقد أيضًا للمهارات التواصلية مع الجمهور، ما عقد الأزمة وزاد الطين بلة.
ليست تلك المرة الأولى التي يتوارى فيها السيسي عن مواجهة الرأي العام المحلي في ذروة الأزمات، إذ آثر الاختفاء أيضًا في بداية أزمة كورونا، مطلع 2020، رغم تساؤلات المواطنين الملحة عن سبب اختفائه حينها، إلى أن ظهر في وقت متأخر، قيل حينها إن سبب غيابه كان تأثره بتداعيات وصول الفيروس إلى نخب المجلس العسكري، ما أدى إلى وفاة رتبتين كبيرتين آنذاك.
في الواقع، انتهى مشروع السيسي إكلينيكيًا، فلم يعد لدى الرجل ما يقوله أو ما يفعله، ولم يعد هناك من يمد له يد العون، وصار رهانه محصورًا على إفشال مساعي المصريين في تدبير بديل يعيد البلاد إلى حظيرة العقلانية والرشاد والحداثة
كما فوجئ المصريون باختفاء السيسي الطويل مع تفجر الأزمة السودانية على الحدود الجنوبية للبلاد، التي شهدت إساءات بالغة للسيادة الوطنية المصرية، حينما قامت قوات الدعم السريع بتركيع عناصر من الجيش المصري وتصويرهم في وضع مذل، تزامنًا مع تدمير عدة طائرات حديثة تابعة لسلاح الجو المصري كانت ترابط في إحدى القواعد الجوية السودانية ضمن مهمات تدريبية مشتركة، ومع ظهوره المتأخر، لم يقم بأكثر من مناشدة الجانب السوداني الإفراج عن الجنود المصريين.
يقول بعض مراسلي الوكالات العالمية، المطلعين على بعض كواليس منظومة عمل مؤسسة الرئاسة في مصر، إن السيسي نفسه بات مصدومًا من النسق التراجعي السريع في كل الملفات الداخلية والخارجية، كما يعلم أنه لم يعد محل إجماع حقيقي داخل الجيش أو داخل المجتمع المصري، كما كانت الحال لحظة 30 يونيو/حزيران 2013.
إذ لم يتحقق إلا الجزء الأول من النبوءة التي راودته فقط، وهو صعوده إلى حكم مصر، لكن تصوراته عن إدارتها والنهوض بها باستخدام العنف الشامل ضد الخصوم والإجراءات الجذرية اقتصاديًا والدعم الخارجي وحماية الجيش، أثبتت فشلها.
بدلًا عن الوعد بمستقبل جيد، كما كانت الحال قبل عقد، لم يعد في جعبة السيسي غير إعادة مساءلة الماضي وتحميله مسؤولية الفشل، فتارة يقول ثورة يناير، وتارة يقول جائحة كورونا وحرب أوكرانيا، ووصل به التنقيب في الماضي، إلى البحث وراء تداعيات حرب اليمن التي خاضها عبد الناصر قبل 70 عامًا، ولعل هذا أحد أسباب تفضيل فريقه البيروقراطي انزاوئه عن المشهد، الذي لم يعد يتحمل تلك الشماعات أكثر من ذلك.
في المقابل، لم يفقد السيسي جذوة شعبيته التي انقدحت قبل 10 أعوام فقط، وإنما فقد أيضًا التواصل مع الجمهور، فالمواطنون الذين تباروا لتمويل مشروع قناة السويس الجديدة 2014، هم أنفسهم من نفضوا أيديهم عن الاستجابة إلى أي مبادرة تمويلية لإنعاش النظام، مهما كانت مغرية العوائد، فيما يبدو أنه عقابٌ صامت على السياسات غير الرشيدة التي قادها السيسي خلال فترة حكمه.
في الواقع، انتهى مشروع السيسي إكلينيكيًا، فلم يعد لدى الرجل ما يقوله أو يفعله، ولم يعد هناك من يمد له يد العون، وصار رهانه محصورًا على إفشال مساعي المصريين في تدبير بديل يعيد البلاد إلى حظيرة العقلانية والرشاد والحداثة، وخوف المواطنين من وفائه بالتهديد الأثير بحرق البلاد برمتها حال إحساسه الجاد بالخطر.
فهل ينجح المصريون في إزاحة الجنرال المأزوم مع إجهاض مسعاه في إحراق البلاد؟ أم يظل السيسي ملوحًا بتلك الورقة الابتزازية إلى ما لا نهاية؟