لا تزال عدة مناطق في دير الزور السورية، الواقعة تحت سلطة الإدارة الذاتية، تشهد توترًا غير مسبوق وخلافات متصاعدة بين تشكيلات “قسد” الكردية الساعية لفرض هيمنة سلطوية كاملة على المناطق ذات المكون العربي البحت، ولتحجيم مجلس دير الزور العسكري الذي يضمّ عناصر من أبناء أرياف دير الزور بقيادة أحمد الخبيل الملقّب بـ”أبو خولة”.
التوتر بلغ ذروته يوم الثلاثاء 25 يوليو/ تموز، في مشهد أشبه بالتمرد لمجلس دير الزور العسكري على “قسد”، حيث تداولت مواقع وشبكات محلية مقاطع مصورة تُظهر سيطرة مجموعات مجلس دير الزور العسكري، بمساندة أبناء من عشائر المنطقة التي ينتمي إليها عناصره، على عدة نقاط عسكرية.
وترافق ذلك مع قطع للطرقات أمام دوريات “قسد” من الشرطة العسكرية وقوات الأسايش وغيرها من التشكيلات، التي يُطلق عليها مؤخرًا “العمليات”، والتي بدورها استنفرت ودفعت بتعزيزات ضخمة إلى محيط ناحية الصور والمناطق المجاورة.
(تسجيل صوتي لأحمد الخبيل، قائد مجلس دير الزور العسكري التابع لميليشيا “قسد”، يطلب من كافة قواته الاستنفار والتأهُّب)
وذكر موقع “الشرقية 24″، المهتم بنقل أخبار شرق سوريا، أن الاشتباكات جاءت إثر مقتل اثنين من عناصر مجلس دير الزور العسكري على يد قوات من الشرطة العسكرية التابعة لـ”قسد”، على أحد حواجزها في بلدة الصور بريف دير الزور الشمالي، ما أدّى إلى استنفار كبير لذوي القتلى من عشائر المنطقة برفقة قوات المجلس التي أعلنت بدورها النفير.
وتعيش المنطقة الممتدة من نهر الخابور، وصولًا إلى قرى وبلدات جديد عكيدات وجديد بكارة وبلدة البصيرة بريف دير الزور الشرقي، حالة من الغضب، قبل أن يوعز قائد مجلس دير الزور العسكري، أحمد الخبيل، للمجموعات بالانسحاب من النقاط التي سيطروا عليها ليلة الثلاثاء ذاته.
ورغم إعلان التهدئة، لا تزال عدة مناطق تشهد اشتباكات متقطعة، عدا عن التهديد والوعيد الذي ما زال قائمًا بين مجلس دير الزور العسكري وقيادات “قسد” الكردية.
خلافات داخلية
في 19 يوليو/ تموز، انتشرت تسجيلات صوتية لقائد مجلس دير الزور العسكري التابع لـ”قسد”، أحمد الخبيل، يتحدث فيه عن الخلافات بينه وبين قيادات “قسد” الأخرى، وعن استعداده للقتال إن لم تستجب قيادة الإدارة الذاتية لمطالبه، وذلك ضمن سجال لا يزال قائمًا بين الخبيل وكوادر قيادات من “قسد” تتناقله وسائل التواصل الاجتماعي.
ونشرت “وكالة رونهاي” الموالية لـ”قسد” في 23 يوليو/ تموز 2023، لقاءً مع قائد مجلس دير الزور العسكري أحمد الخبيل، أكّد فيه أن قواته جزء من قوات سوريا الديمقراطية، مشيرًا إلى أن ما رُوِّج له على أنه خلاف داخل المجلس هو في حقيقته خلافات في وجهة النظر، وإن لم يتمكنوا من حلها يلجأون إلى القيادة العامة لـ”قسد”، غير أن الأحداث التي شهدتها المنطقة بعد يومَين فقط من نشر اللقاء، كانت كفيلة بإيضاح حجم التوتر الحاصل والخلافات الموجودة.
وبحسب الأحداث الجارية، فإن الصدام وقع كنتيجة تراكمية للخلافات فيما بين تشكيلات “قسد”، ولم يكن أهالي المنطقة سوى ورقة ضغط بيد قيادات “قسد” المتناحرة.
في حديث خاص مع أحد ناشطي دير الزور المقيمين في مناطق سيطرة “قسد” (طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية)، قال إن الاشتباكات جرت بين عناصر وموالين لمجلس دير الزور العسكري من جهة، وقوات “قسد” من الشرطة وغيرها من جهة أخرى.
وبرز المشهد على أنه اقتتال داخلي بين تشكيلات “قسد”، وذلك أكده أحمد الخبيل قائد المجلس في تسجيلاته الصوتية خلال النزاع، مع تشديده على الالتزام بأوامره، لا سيما إيعازه بالانسحاب بعد ورود أنباء عن التوصل إلى اتفاق بينهم.
ويضيف الناشط أن أبناء العشائر لم يقفوا جميعهم مع قوات المجلس العسكري، عدا عن بعض الحالات من ذوي وأقارب القتلى على يد الشرطة العسكرية ومجموعات من الشباب الغاضبة من ممارسات سلطة الأمر الواقع، في حين أن الأغلبية لا تجد في تمرد المجلس سوى مصالح شخصية لقادته، الذين كانوا إحدى أدوات “قسد” في التضييق على أهالي دير الزور.
والكثير من الحوادث والتجاوزات كانت بتنفيذ الخبيل وعناصره على الحواجز المنتشرة على طول خط الخابور ومناطق ريف دير الزور الشرقي، وما أثار غضب أبو خولة هو قرارات “قسد” بتحجيم دور المجلس والحدّ من صلاحيات قادته، من خلال تسليم حواجزه لقوات “العمليات” التي زجّت بها “قسد” مؤخرًا نحو مناطق دير الزور قادمة من الحسكة وجبال قنديل.
وبالتالي سيؤدي ذلك إلى عرقلة عمليات التهريب التي يجني منها الخبيل الملايين، كما أن الحد من سلطة المجلس سيؤثر على إدارته لآبار النفط والاستثمارات الزراعية في العزبة شمالي دير الزور وغيرها، والتي تعود بإيرادات كبيرة تصبّ في جيب قائد المجلس.
مظاهرات تطالب التحالف الدولي بمحاسبة أبو خولة
ويختم الناشط بحديثه أن سياسة الإقصاء والتفرد التي اتبعها قادة مجلس دير الزور العسكري، والذي من المفترض تمثيله لمكون دير الزور العربي، هي ما أودت بالمنطقة إلى ما هي عليه، وذلك يعكس أيضًا سياسة “قسد” التي تريد أن ينشغل الأهالي بالانفلات الأمني والتردي المعيشي، وذلك يؤذن بانفجار حتمي لكن ليس خلف أداة من أدوات سلطة الأمر الواقع “قسد”.
كيف أصبح مجلس دير الزور العسكري الممثل الوحيد لعشائر دير الزور العربية؟
شكّلت “قسد” مجلس دير الزور العسكري نهاية عام 2016 بقيادة أحمد الخبيل، والذي نصب نفسه لاحقًا أميرًا لعشيرة البكير، أحد مكونات منطقة الجزيرة وشرق الفرات، وذلك ضمن هيكليتها التي تضم نحو 15 مجلسًا عسكريًّا متوزعًا على مناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية، لسدّ حاجتها في تجنيد الشباب من أهالي المنطقة ذات المكون العربي، وبسط نفوذها من خلال قيادة وظيفية تتبع لإدارتها.
وتنتشر قوات المجلس في أرياف دير الزور الواقعة يسار شريط نهر الفرات، وبشكل أكبر في قرى وبلدات ناحيتَي الصور والبصيرة اللتين شهدتا الأحداث الأخيرة، وتتواجد عشيرة البكير التي ينحدر منها قائد مجلس دير الزور أحمد الخبيل، والذي أصبح لاحقًا أميرًا لها.
بدأ مجلس دير الزور العسكري بقوام 500 عنصر، بحسب ما أُعلن في بداية تشكيله، بغرض قتال تنظيم الدولة حينها، وبعد انحسار التنظيم بات القوة الأكبر، لا سيما مع تصفية كبار الشخصيات من عناصر الجيش السوري الحر السابقين من أبناء المنطقة الذين انضموا إلى “قسد”، كأبو إسحق الملقب بالأحوازي وأبو بكر القادسية وغيرهما من القادة البارزين، حيث كانوا يقودون مجموعات لتحرير مناطقهم من “داعش”، وتتجه أصابع الاتهام نحو “قسد” لما لهم من شعبية قد تهدد وجود الإدارة الذاتية.
يقول المحرر في شبكة “نهر ميديا”، عهد صليبي، إن “قسد” دفعت في 9 يوليو/ تموز بقوى أمنية وعسكرية كبيرة أُطلق عليها اسم “العمليات”، قادمة من محافظة الحسكة نحو دير الزور، وذلك بغية إعادة هيكلة مجلس دير الزور العسكري الذي لم يعد ينصاع لأوامر “قسد” العليا، بحسب تعبيره.
ما تزال عمليات مكافحة الإرهاب قائمة بعد مرور أكثر من 4 أعوام عن إعلان القضاء على التنظيم، ودونما أي استقرار في الوضع الأمني الذي يزداد سوءًا
دفع ذلك قادة المجلس العسكري إلى عقد جولة من الاجتماعات مع بعض عشائر المنطقة، والتلويح بأن “قسد” تريد إنهاء تمثيل المكون العربي وفرض أوامر “المندوب السامي”، كما يطلق على القيادات الكردية في دير الزور، وذلك بغية تحصيل دعم عشائري بوجه قرار “قسد” بحلّ أو تقليص مجلس دير الزور العسكري.
ويضيف الصليبي أن أبو خولة بات يشكّل عائقًا أمام فرض “قسد” سياستها، حيث اصطفّت وراءه قوة لا يستهان بها أثبتت كلمتها -حتى الآن- في صدّ العملية الأمنية لحلّ المجلس، وهو ما كان يعوّل عليه أبو خولة.
ومن الواضح أنه يطمح للتوسُّع مع ورود أنباء عن نيته تولي إمارة قبيلة زبيد، وذلك التوسع والحصول على قاعدة بشرية يعتبران من الخطوط الحمراء لدى “قسد”، التي تسعى لأن تبقى سلطة كوادرها (قياداتها الكردية) هي العليا، دون أن تلاقي صعوبة في التنفيذ.
وحول قبول عشائر دير الزور تمثيل مجلس دير الزور العسكري لها، يقول عهد الصليبي إن “قسد” لم تترك حرية الاختيار أو حتى تشكيل قوة تدافع عن حقوق أهالي المنطقة في سلطة الأمر الواقع، فتهمة الإرهاب والانتماء إلى “داعش” حاضرة دومًا في قضاء “قسد” ضد جميع أبناء المنطقة الخارجين عن السلطة.
ولم يعد لوجهاء ورموز العشائر أي كلمة في وجه التضييق والتحجيم اللذين تمارسهما الإدارة الذاتية منذ سيطرتها، وبات سكان شرق الفرات مجبرين على الحفاظ على وجود المجلس وإن كان فاسدًا، فهو أهون من فرض مناهج “قسد” وقراراتها المنافية لبيئة المنطقة الاجتماعية والثقافية وحتى الدينية.
ومنذ إعلان التحالف الدولي و”قسد” القضاء على تنظيم الدولة مطلع عام 2019، لم تتوقف العمليات الأمنية في مناطق دير الزور التي تسميها قوات سوريا الديمقراطية بمكافحة الإرهاب، طالت المئات من الشباب، كما قُتل خلالها العشرات دون التأكد من صحة التهمة.
إذ ما زالت تلك العمليات قائمة بعد مرور أكثر من 4 أعوام عن إعلان القضاء على التنظيم، ودونما أي استقرار في الوضع الأمني الذي يزداد سوءًا، وذلك بحسب ما يراه ناشطون إحدى أدوات “قسد” في فرض سياستها.
صمّام الأمان بوجه خطر النظام والميليشيات الإيرانية
لا يخفى على أحد تهديد النظام والميليشيات الإيرانية المستمر للمناطق الواقعة شرق ضفة نهر الفرات، وتدرك عشائر المنطقة إيجابية وجود التحالف الدولي كرادع وحاجز، حيث تجري بين الفينة والأخرى مناوشات بعيدة المدى بين قواعد التحالف الدولي، أبرزها في حقل العمر النفطي وحقل كونيكو بريف دير الزور الشرقي، والميليشيات الإيرانية على الشق الأيمن لنهر الفرات.
غير أن تهديد نظام الأسد والميليشيات المتعددة معه يشكّل كابوسًا لسكان الضفة اليسرى، وجُلّهم نزحوا من المناطق التي سيطرت عليها قوات النظام والميليشيات الإيرانية، ليكون مجلس دير الزور العسكري صمّام أمان مع عدم وجود الثقة التامة بـ”قسد”، من حيث انتقالها لحضن الأسد والروس في حال تخلت عن دعمها قوات التحالف الدولي.
لا بدائل في الوقت الحالي
تداولت صفحات وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي شائعات تفيد بتشكيل مرتقب، يجمع جيش مغاوير الثورة بقوة عربية وكردية، في إشارة إلى “قسد” لشنّ عمل عسكري ضد مواقع النظام والميليشيات الإيرانية في البوكمال والميادين غرب الفرات.
ولاقى هذا الأمر صدى واسعًا في مناطق دير الزور الخاضعة لسيطرة “قسد”، لا سيما أن جُلّ سكانها هُجّروا من المناطق التي قيل إن العمل المرتقب يستهدفها، ما دفع نظام الأسد وميليشياته إلى تعزيز نقاطهما على خطوط التماسّ مع مناطق “قسد” ورفع الجاهزية.
وبعيدًا عن محاولة تفنيد تلك الشائعات، بيد أنها تعكس مطلبًا يعد وجوديًّا للأهالي، وهو ما يحدد دعمهم لفصيل أو تشكيل عسكري، ميزت “قسد” دير الزور عن باقي مناطق سيطرتها في الرقة والحسكة ومنبج، بالحواجز والاعتقالات والحملات الأمنية والعسكرية، ولم تشهد أي تحسين في الوضع المعيشي ولا الأمني، وهي المسؤولة عن ذلك كقوة فُرضت على المنطقة.
ويرى ناشطون أن تقاعس “قسد” ومجلسها العسكري بضبط أمن المنطقة التي تشهد حوادث قتل وسلب لم تنقطع، لا سيما مع تجريد أبناء العشائر من السلاح على عدة مراحل وخلال عمليات أمنية نفذتها، ورفض دعم التحالف الدولي لأي تشكيل عربي أو قوة تمثل مناطق دير الزور خارج عباءة “قسد”، أو حتى خارج تشكيلاتها الموجودة حاليًّا، رغم مطالب شعبية متكررة، أسفر عنه انكفاء أهالي المنطقة وانحسار رموزها ضمن جزئيات الواقع المفروض، وقد يكون ذلك مع عدم الرضا، إلا أن الخشية ممّا هو أسوأ، وأن أي حركة مع تربُّص الأعداء الكثر لا يحمد عقباها بنظرهم، يدفعهم للتريُّث وربما التشتُّت أحيانًا مع عدم وجود الإمكانات والمقومات، ليبقى أملهم في الوقت الراهن معقودًا على كلمة ورأي يجمعانهم ويلبّيان تطلعاتهم ومتطلباتهم.
في حين يرى مراقبون أن الدور العشائري أثبت في الأحداث الأخيرة جدواه لما له من أثر كبير، إذ إن الخبيل، قائد مجلس دير الزور العسكري، كان يعوّل عليه واستخدمه ورقة للضغط على “قسد”، وقد يكون نجح بذلك.