يوم 6 فبراير/شباط 2007، أعلن الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش إنشاء مركز للقيادة العسكرية الأمريكية في القارة الإفريقية بعدما كانت مرتبطة بقيادة القوات الأمريكية في أوروبا، وأضيفت القيادة الجديدة لثلاث قيادات إقليمية سابقة هي: القيادة الأمريكية في أوروبا والقيادة المركزية الأمريكية والقيادة الأمريكية للمحيط الهادي.
حملت القيادة العسكرية الأمريكية الجديدة اسم “أفريكوم”، وشملت دائرة تدخلها المؤلفة من مئات الجنود الموزعين على ثلاث قيادات فرعية، كل القارة الإفريقية (باستثناء مصر التابعة للقيادة المركزية في ميامي بولاية فلوريدا)، إلى جانب جزر في المحيط الهندي مثل سيشيل ومدغشقر وأرخبيل القُمر.
تمثلت سياسة القيادة الجديدة الخاصة بإفريقيا، في تدريب الجيوش الإفريقية وتقديم المساعدات المالية واللوجستية لها قصد تطوير أسلحتها وتحديث منشآتها، فضلًا عن الإشراف على تنظيم مناورات عسكرية واسعة مع قوات عسكرية إفريقية، في مسعى من واشنطن لدعم وجودها في إفريقيا ومزاحمة النفوذ الأوروبي هناك.
لدى إطلاق قيادة “أفريكوم”، أكد وزير الدفاع الأمريكي حينها روبرت غيتس أن إنشاء هذه القيادة “سيمنح الولايات المتحدة مقاربة أكثر فاعلية وتماسكًا للقارة الإفريقية، قياسًا على المقاربة الحاليّة التي هي من مخلفات الحرب الباردة”.
وقد وجدت الإدارة الأمريكية في تنامي نشاط تنظيم القاعدة في إفريقيا والهجمات التي استهدفت سفارتيها في كينيا وتنزانيا، إلى جانب انتشار الفوضى في عدد من الدول الإفريقية كالسودان والصومال، وتنامي الخلافات بين بعض الدول، مبررًا لدعم نشاطها العسكري في إفريقيا.
كررت القيادة الأمريكية أن الهدف الأبرز من التعاون العسكري مع إفريقيا، يتمثّل بتنمية الديمقراطية في دول القارة، لكن الوقائع تكشف تنامي الانقلابات العسكرية رغم تراجع حدتها في بداية الألفية الأولى.
هنا يجب علينا أن نطرح السؤال التالي: أي علاقة للإدارة الأمريكية بالانقلابات المتتالية التي ما انفكت تشهدها دول القارة الإفريقية في السنوات الأخيرة، تحديدًا منذ تشكيل قيادة الأفريكوم؟ أيضًا هل تضمن التدريبات والتمويل السخي ولاء الجيوش لأمريكا أم العكس ما يحصل؟
أي دور لأمريكا في الانقلابات؟
قبل نحو أسبوع من الآن، أعلنت مجموعة من العسكريين في النيجر – عبر التليفزيون الوطني – عزل الرئيس محمد بازوم واحتجازه في القصر الرئاسي، وإغلاق الحدود وفرض حظر التجوال في البلاد، فضلًا عن تعليق العمل بالدستور وحل المؤسسات المنبثقة عنه، وتعليق أنشطة الأحزاب السياسية حتى إشعار آخر.
إلى جانب ذلك، أُعلن تشكيل مجلس عسكري أوكل لنفسه مهمة الإشراف الكامل على المهام التشريعية والتنفيذية في البلاد إلى حين العودة للنظام الدستوري المعلّق، على أن يتولى رئيس المجلس – وهو قائد الحرس الرئاسي الجنرال عبد الرحمن تياني – منصب رئيس الدولة، ويمثل البلاد في العلاقات الدولية.
قاد هذا الانقلاب الجديد في النيجر عساكر من الحرس الرئاسي، على رأسهم الجنرال في القوات المسلحة عمر عبد الرحمن تياني الذي يشغل منذ سنة 2011 منصب قائد الحرس الرئاسي، وينحدر من قبائل الهوسا ذات الأغلبية السكانية في البلاد.
تم استخدام وجود الجماعات المسلحة والتهديد المتصور للاستقرار الإقليمي لتبرير الوجود العسكري الأمريكي الثقيل بشكل متزايد في إفريقيا
لن نبحث هنا عن سيرة الرجل، بل سنركز على تفصيلة مهمة وهي إشراف القيادة الأمريكية على تدريب أغلب عناصر الحرس الرئاسي في النيجر، أي أن من قاد الانقلاب الأخير تدرب لدى أمريكا التي تهدّد بوقف تعاونها مع السلطات إن تواصل الانقلاب ولم يعد محمد بازوم للسلطة.
ليس هذا فحسب، فالجيش الذي أشرفت واشنطن على تدريبه منذ سنة 2002، دعم الانقلاب وأعلن اصطفافه إلى جانب المجلس العسكري المشكل حديثًا، أي أننا أمام انقلاب تقوده مجموعة عسكرية تلقت تدريبات من الجيش الأمريكي وعملت إلى جانبه في محطات عديدة داخل البلاد وخارجها.
تقول الولايات المتحدة الأمريكية إنها قدمت أكثر من 500 مليون دولار منذ سنة 2012 للتدريب والمعدات للنيجر، بشكل جعل النيجر أكبر متلق للمساعدات الأمريكية في منطقة دول الساحل والصحراء الإفريقية.
لم تدرب واشنطن الجيش فقط، وإنما نشرت المئات من قواتها في هذا البلد الإفريقي بشكل سري، لكن كُشف الأمر عقب مقتل 4 جنود أمريكيين في كمين نصب لهم في أكتوبر/تشرين الأول 2017، وقُتل في الكمين جنود من النيجر أيضًا.
تستقبل النيجر أكبر قاعدة والأكثر كلفة للطائرات دون طيار تحت إدارة القوات الأمريكية، وأنشئت القاعدة في مدينة أغاديز، شمال البلاد بكلفة 110 ملايين دولار وتدار بميزانية سنوية تتراوح ما بين 20 و30 مليون دولار، وتعد نقطة انطلاق لأرخبيل من النقاط العسكرية الأمريكية في منطقة غرب إفريقيا، ويتمركز في هذه القاعدة، جنود من قوة الفضاء ومفرزة لقوات العمليات الجوية الخاصة المشتركة وأسطول من المسيرات من نوع “إم كيو-9 ريبر”.
ووُجدت القوات الأمريكية في النيجر للمساعدة في تعزيز شريك عسكري موثوق للولايات المتحدة، وهو شيء ما فتئت واشنطن تفعله في جميع أنحاء إفريقيا منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، حتى تعزز نفوذها في القارة.
11 انقلابًا لقوات دربتها أمريكا منذ 2008
انقلاب النيجر الأخير، لم يكن أول انقلاب يقوده عساكر تدربوا وعملوا مع الجيش الأمريكي، إذ سبق أن نفّذ وشارك ضباط دربتهم الولايات المتحدة في 6 انقلابات – على الأقل – في بوركينا فاسو ومالي المجاورتين للنيجر منذ عام 2012.
ولو رجعنا قليلًا إلى الوراء، مثلًا إلى سنة 2008، أي مع بداية عمل أفريكوم، نجد أن الضباط الأفارقة الذين دربتهم الولايات المتحدة قاموا بما لا يقل عن 10 انقلابات في غرب إفريقيا، بما في ذلك الانقلابات المذكورة آنفًا في بوركينا فاسو أعوام 2014 و2015 و2022.
كما قام هؤلاء الجنود بانقلاب في غامبيا سنة 2014، وآخر في غينيا سنة 2021، و3 انقلابات في مالي وهي على التوالي في سنوات 2012 و2020 و2021، وفي موريتانيا سنة 2008، وأغلبها وطّد حكمه وأرسى نظامًا استبداديًا.
تُدين الإدارة الأمريكية علنًا الانقلابات وتهدد بالتصدي للمنقلبين لإعادة المسار الدستوري وترسيخ الديمقراطيات، لكن في أرض الواقع تبقي التعاون معهم
يذكر أن القوات الأمريكية دخلت القارة الإفريقية بشكل جماعي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما بدأت الولايات المتحدة في تدريب الجيوش وتجهيزها والمساعدة في بناء القدرات في دول إفريقية لم يسبق لها أن شهدت هجمات إرهابية ضد أهداف أمريكية.
وتقول السياسة الأمريكية إن الدول الضعيفة يمكن أن تصبح ملاذًا للإرهابيين، لكن وعلى الرغم من التهديد الحقيقي للجماعات المسلحة، فإنها لم تشكل أي تهديد جدّي للولايات المتحدة الأمريكية، ما يعني أن الهدف ليس القضاء على هذه الجماعات وإنما تعزيز نفوذها والحصول على امتيازات جديدة في القارة السمراء.
وطيلة السنوات الماضية استُخدم وجود الجماعات المسلحة والتهديد المتصور للاستقرار الإقليمي لتبرير الوجود العسكري الأمريكي الثقيل بشكل متزايد في إفريقيا، وقد عاينا ذلك في العديد من الدول خاصة في شمال القارة وشرقها وغربها.
دعم ضمني للانقلابات
عقب انقلاب النيجر مباشرة، أصدرت الإدارة الأمريكية، بيانًا أدانت فيه أي جهد للاستيلاء على السلطة بالقوة في هذا البلد الإفريقي، وحذرت من أن ذلك سيؤدي إلى توقف الشراكة مع هذا البلد، مطالبة بإطلاق سراح الرئيس محمد بازوم.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يدين فيها البيت الأبيض الانقلابات في إفريقيا، لكن بقي مجرد كلام ولم يتحول إلى واقع، فالتعاون مع السلطات الجديدة متواصل بل وتدعم أكثر، وقد عاينا ذلك في مصر سنة 2013 وفي تونس سنة 2021.
يفرض قانون الولايات المتحدة قطع الأموال والمساعدات عن أي دولة يطيح انقلاب عسكري بحكومتها المنتخبة، ويمنع القانون الإفراج عن هذه الأموال حتى يشهد وزير الخارجية للكونغرس بإعادة الديمقراطية.
وبموجب نص القانون، يبدو من الواضح أن المساعدات العسكرية أو الأمنية أو الاقتصادية الأمريكية للنيجر سيتم تعليقها الآن بعد التطورات التي حدثت هذا الأسبوع، لكن واقعيًا الأمر مختلف، فالرؤساء دائمًا ما يناورون لمواصلة الدعم المالي والعسكري لحلفائهم الجدد، تحت بند “الحفاظ على مصلحة الأمن القومي للولايات المتحدة”.
سنة 2013، أطاح الجيش المصري بقيادة قائد الجيش (الرئيس الحاليّ) عبد الفتاح السيسي بالرئيس محمد مرسي المنتخب ديمقراطيًا، وبموجب نص القانون كان على إدارة الرئيس أوباما حينها أن تعلن صراحة أن ما أقدم عليه الجيش المصري كان انقلابًا وأن تعلق مئات الملايين من دولارات دافعي الضرائب الأمريكيين إلى القاهرة كل عام حتى يعود المسار الديمقراطي في البلاد.
لكن ذلك لم يحدث، فقد خرج الناطق باسم البيت الأبيض بعد أيام من الانقلاب ليعبر عن رفض الولايات المتحدة توصيف ما جرى في مصر بأنه انقلاب عسكري، واصفًا الرئيس المصري مرسي بأنه لم يكن يحكم بطريقة ديمقراطية وأن مساندة الجيش لمن خرجوا ضده لا تعدّ انقلابًا.
ليس هذا فقط، إذ قالت إدارة أوباما أيضًا إن التجميد طويل الأمد للمساعدات المقدمة لمصر من شأنه أن يغرق أكثر دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حيث عدد السكان في انعدام الأمن، أي أن الإدارة وجدت مبررًا لمواصلة دعم نظام السيسي الانقلابي.
حدث الأمر نفسه في بوركينا فاسو، تلك الدولة الصغيرة الفقيرة في غرب إفريقيا، التي يحكمها الآن مجلس عسكري، فبعد شهر واحد من خلع قوات بوركينا فاسو الرئيس روش كابوري، قيدت واشنطن 160 مليون دولار من المساعدات الأمريكية للبلاد، لكن سرعان ما تم التراجع عن الأمر بحجة مصالح الأمن القومي أيضًا.
تُدين الإدارة الأمريكية علنًا الانقلابات وتهدد بالتصدي للمنقلبين لإعادة المسار الدستوري وترسيخ الديمقراطيات، لكن على أرض الواقع تبقي التعاون معهم، بل وتدعمه في العديد من المرات بحجة الحفاظ على الأمن والسلم العالمي.
دعم تجاوز انقلابات الأفارقة
دعم الإدارة الأمريكية للانقلابات لم يقتصر على القارة الإفريقية فقط، إنما امتدّ لدول بالأمريكيتين الجنوبية والشمالية وآسيا أيضًا، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2019، دعمت واشنطن إطاحة الجيش البوليفي برئيس البلاد المنتخب إيفو موراليس.
وفي الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية التي عُرفت بالحرب الباردة، كانت الإدارة الأمريكية في كثير من الأحيان عاملًا مساعدًا ومخططًا لمحاولات الانقلاب ضد الحكومات التي يُنظر إليها على أنها متعاطفة مع الشيوعية أو متحالفة مع الاتحاد السوفيتي، أو مجرد مزعجة.
دبرت واشنطن ودعمت انقلابات في دول كثيرة بقارتي أمريكا اللاتينية وأمريكا الشمالية منها: هندوراس ونيكاراغوا وغواتيمالا وتشيلي والسلفادور، لتسهيل عمل شركات الفواكه الأمريكية بدول المنطقة، خاصة هندوراس، ومن هنا شهدت السياسة العالمية مولد مصطلح جديد هو “جمهوريات الموز”، وهي الدول غير المستقرة التي تشهد عادة انقلابات متكررة.
كما سبق أن كشفت وثائق لوزارة الدفاع الأمريكية، أن الولايات المتحدة نظمت انقلابًا داخل قيادة جنوب فيتنام، التي دعمتها واشنطن خلال حرب فيتنام، وأفادت الوثائق بأنه عندما أبلغت واشنطن الجيش الفيتنامي عدم رضاها عن رئيس جنوب فيتنام، نغو دينه ديم، نفذ الجيش انقلابًا في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1963، أطاح بالرئيس، وقتله هو وشقيقه.
تكرر الأمر نفسه في إيران، ففي سنة 1953 أطيح بمحمد مصدق، رئيس وزراء إيران المنتخب ديمقراطيًا، وقد تورطت في هذا الانقلاب المخابرات الأمريكية صحبة المخابرات البريطانية، ما يفسّر العداء الإيراني لواشنطن، وفي اليونان أيضًا سنة 1967.
نتيجة هذه الانقلابات المتكررة التي رعتها الولايات المتحدة الأمريكية بصفة مباشرة أو غير مباشرة، تدهور الوضع الأمني في العديد من الدول، وشهدت بعض الدول نتيجة ذلك حروبًا أهلية أودت بحياة مئات الآلاف، كما حصل في فيتنام، إذ لقي أربعة ملايين شخص مصرعهم في الحرب الأهلية التي كانت واشنطن سببًا رئيسيًا فيها.
كما دعمت هذه الانقلابات الحكام المستبدين، وأعطت بعض الأنظمة الضوء الأخضر لتشديد قبضتها الأمنية على الشعوب للحفاظ على سلطتها، وأفسحت المجال أمام الشركات الأمريكية للعمل دون رقابة في القارة الإفريقية.
تناقض أمريكي
تقدّم الولايات المتحدة نفسها مدافعًا عالميًا عن الحكم الديمقراطي في جميع أنحاء العالم، ودائمًا ما يتعهد مسؤولوها بحماية حقوق الإنسان في جميع الأنحاء والتصدّي للانتهاكات التي يتعرض لها البشر على أيدي الأنظمة الاستبدادية الحاكمة.
واقعيًا، تمتلك واشنطن القوة والنفوذ والموارد لإحداث تغيير إيجابي في حقوق الإنسان خارج حدودها، فلها القدرة على الوقوف إلى جانب الحكومات الداعمة للحقوق وعدم مكافأة من ينتهكها، لكن العكس ما يحدث.
كان على الإدارة الأمريكية أن تقف علنًا ضد استحواذ العسكر على السلطة في إفريقيا، فهي من دربتهم وأشرفت على تكوينهم، لكنها اختارت مسايرتهم ما دامت مصالحها محفوظة، فالمصالح عند واشنطن أهم من مبادئ حقوق الإنسان التي تدّعي حمايتها.
رغم تبني صانعي القرار في الولايات المتحدة علنًا مبادئ حقوق الإنسان والقيم الإنسانية، فإن واشنطن لم تظهر اتساقًا في الدفاع عن حقوق الإنسان في القارة الإفريقية وفي العالم عمومًا، بل ارتكبت انتهاكات جسيمة في سياساتها وتحركتها الخارجية أو تواطأت فيها.
رغبة واشنطن في التمسك بمصالحها وتحقيق مكاسب جديدة أقوى من رغبتها في التمسك بسمعتها كمنارة للحرية والحرية الفردية
نفهم من هنا أن تعامل الإدارة الأمريكية مع مسألة حقوق الإنسان يتم بطريقة انتقائية أو لتحقيق هدف دبلوماسي أو عسكري، أي أن مسألة حقوق الإنسان ما هي إلا وسيلة لتحقيق الغايات ليس أكثر خلافًا للشعارات المتداولة.
يبدو أن رغبة واشنطن في التمسك بمصالحها وتحقيق مكاسب جديدة أقوى من رغبتها في التمسك بسمعتها كمنارة للحرية والحرية الفردية، ما يؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم شعارات الديمقراطية لتحسين صورتها فقط وافتكاك امتيازات جديدة.
ماذا عن الروس؟
هناك نقطة مهمة برزت في الانقلابات الأخيرة التي شهدتها الدول الإفريقية، فعقب كل انقلاب تخرج مظاهرات منددة بالغرب، ويُرفع خلالها علم روسيا وبعض الشعارات المرحبة بالروس والداعية إلى قدومهم للقارة السمراء.
للوهلة الأولى يبدو لنا وجود ترحيب كبير بالروس، فحتى القيادات الجديدة سرعان ما تتجه نحو موسكو وتحول بوصلة النظام من الغرب للشرق رغبة منها في الحصول على حليف قوي يتم الاعتماد عليه خارجيًا وداخليًا لتوطيد النظام الجديد.
أغلب الانقلابات التي حصلت في إفريقيا مؤخرًا، وإن قادها عساكر تدربوا في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن الوجهة كانت روسيا، ففي مالي مثلًا، قام العقيد أسيمي غوريتا بتدريبات في فلوريدا وعمل مع قوات العمليات الأمريكية الخاصة، وأطاح بالحكم في بلاده عام 2020 و2021.
مع ذلك عقد غويتا اتفاقًا مع مرتزقة فاغنر المتهمة بارتكاب جرائم وقتل جماعي وتهجير قسري مع القوات المالية ضد مدنيين في وسط مالي منذ ديسمبر/كانون الأول 2022، كما ورد في تقرير لمنظمة هيومان رايتس ووتش.
يظهر النفوذ الأمريكي من خلال قيمة التبادلات التجارية بين الولايات المتحدة والقارة الإفريقية، إذ قدرت بـ83 مليار دولار سنة 2022 مقابل 18 مليار دولار بين روسيا والقارة السمراء
يبين لنا هذا الأمر، أن الولاء لم يبق للجهات التي أشرفت على التدريب وإنما تحول لروسيا – القوة الصاعدة – التي تقدم المساعدات العسكرية الحينية للأنظمة الجديدة، خاصة مرتزقة فاغنر الذين يشرفون على حماية القادة وكبار المسؤولين، مقابل نصيب مهم من ثروات البلاد.
في بداية الألفية الماضية، حاولت روسيا الاستفادة قدر المستطاع من تغيير الأنظمة، لكن في السنوات الأخيرة، أصبحت موسكو أكثر نشاطًا في دعم الانقلاب، حتى إنها تُتّهم بالوقوف وراء بعضها، رغبة منها في منافسة الغرب ودعم نفوذها ومكانتها هناك.
وتوفر روسيا الأسلحة للحلفاء الجدد دون شروط قاسية كالتي تفرضها الدول الغربية، ناهيك بالفرق الكبير في الأسعار بين السلاح الروسي الرخيص الذي يناسب ميزانيات الدول الإفريقية المحدودة، مقارنة بالأسعار المرتفعة للسلاح الغربي.
وتستغل روسيا الموارد الطبيعية في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي والسودان لتمويل اقتصادها المتعثّر وآلة الحرب التي تشرف عليها في العديد من المناطق، ومع ذلك تنفي أي دور لها فيما يحصل في تلك البلدان وتصر على عدم تورطها في أي شيء هناك.
هل خسرت واشنطن الرهان؟
يقود العساكر الذين تدربوا في الولايات المتحدة الأمريكية الانقلابات على أنظمة الحكم في إفريقيا، لكنهم يتوجهون علنًا نحو موسكو – العدو اللدود لواشنطن – يعني ذلك أن هذه الأخيرة خسرت الرهان، وأن كل التدريبات ذهبت سدى.
لا يبدو ذلك صحيحًا، فمن المستبعد أن تخسر واشنطن الرهان بصفة كلية، فهي على علم مسبق بأغلب الانقلابات التي حصلت في القارة السمراء، فمخابراتها منتشرة في كل الدول الإفريقية دون استثناء وتعمل بحرية كاملة دون أي قيود.
صحيح أن القادة الجدد يحاولون الابتعاد قدر الإمكان عن الغرب، لكن هنا نعني الأوروبيين فقط، فعلاقتهم مع الولايات المتحدة تبقى على حالها بل وتتطور أكثر، إذ لا يهم واشنطن من يحكم قدر ما يهمها الحفاظ على مصالحها، ولها أن تتعامل مع الروس أو الصينيين للحفاظ على ذلك.
في المظاهرات التي تشهدها الدول الإفريقية عقب كل انقلاب لم نشهد تنديدًا بالولايات المتحدة الأمريكية، ذلك أن قادة الانقلاب لا يريدون الدخول في صراع مباشر مع واشنطن التي تشرف على تدريبهم.
ظهر نفوذ الولايات المتحدة الكبير في القارة السمراء خلال القمة الروسية الإفريقية الأخيرة التي عقدت قبل أيام في سان بطرسبورغ الروسية، فالضغط الأمريكي أجبر العديد من القادة الأفارقة على عدم التحول لروسيا للمشاركة في القمة والاكتفاء بإرسال وزراء الصف الثاني.
شارك في هذه القمة 17 رئيس دولة مقابل مشاركة 43 رئيس دولة في القمة التي سبقتها سنة 2019، نتيجة الضغط الأمريكي المسلط على القادة الأفارقة، ما يعني أن نفوذ واشنطن في القارة السمراء أقوى وأشد من النفوذ الروسي حتى الآن.
النفوذ الأمريكي يظهر من خلال قيمة التبادلات التجارية بين الولايات المتحدة والقارة الإفريقية، إذ قدرت بـ83 مليار دولار سنة 2022 مقابل 18 مليار دولار بين روسيا والقارة السمراء، رغم أن واشنطن لا تركز كثيرًا على التجارة مع الأفارقة، والروس يصبون كل اهتمامهم عليها.
يعني هذا أن إشراف القيادة الأمريكية على تدريب الجيوش الإفريقية – حتى إن انقلبت على الأنظمة الحاكمة وهددت السلم العام في القارة – لم يذهب سدى، فرغم أن الأنظمة الجديدة تحاول الذهاب إلى الشرق فإن المصالح الأمريكية مضمونة، ومتى جرى تهديدها فإن واشنطن ستتحرك لحمايتها وقد عاينا ذلك في دول عديدة.