ما زال الانقلاب العسكري الذي قام به قائد الحرس الرئاسي في النيجر الجنرال عبد الرحمن تياني ضد حكم الرئيس محمد بازوم، في 26 يوليو/تموز 2023، يخيم على أجواء غرب إفريقيا والقارة بأكملها، لما له من تداعيات ستعيد رسم خريطة المنطقة سياسيًا وأمنيًا.
وتسابق العديد من القوى الإقليمية والدولية الزمن من أجل إجهاض الانقلاب قبل تثبيت أركانه بشكل رسمي، فيما تتواصل الجهود الدبلوماسية للمطالبة بإطلاق سراح الرئيس النيجري المحتجز، غير أن إصرار الجنرالات على إبقاء الوضع على ما هو عليه والتمسك بالإطاحة ببازوم يعرقل كل تلك الجهود وسط تلويح بالتدخل العسكري كما ذهبت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس).
وقد أثار هذا الانقلاب العسكري، الخامس من نوعه الذي تشهده النيجر منذ استقلالها عام 1960، والأول منذ 2010، الكثير من المخاوف، ليس على مستوى الداخل النيجري فحسب، لكن على محيط البلاد وامتدادها الحدودي بطول الساحل الإفريقي الذي يشمل بشكل مباشر نيجيريا وبنين (جنوبًا) وبوركينا فاسو ومالي (غربًا) والجزائر وليبيا (شمالًا)، وبشكل غير مباشر موريتانيا والسودان.
تهديدات أمنية واقتصادية.. قلق دول الجوار
أعربت العديد من دول الجوار عن قلقها مما يحدث في النيجر، لما يترتب عليه من تداعيات قد تحمل تهديدات وتحديات خطيرة لتلك الدول الملاصقة لها حدوديًا، يأتي على رأسها الجزائر التي تربطها معها حدود يبلغ طولها نحو ألف كيلومتر، فضلًا عن تفاهمات أمنية وسياسية مهمة.
وجاء الموقف الرسمي الجزائري واضحًا وكاشفًا لرفضها القاطع لهذا الانقلاب، فهي لا تريد أن تنزلق دولة أخرى من الدول المحيطة إلى مستنقع الفوضى، بحسب تعبير أستاذ العلاقات الدولية والأكاديمي الجزائري علي ربيج، الذي أكد أن الدولة العربية ذات الثقل الإقليمي لا تريد تكرار سيناريو مالي وبوركينا فاسو فيما يتعلق بالفوضى الأمنية والسياسية كونهما تعرضا لانقلابات عسكرية مؤخرًا.
ويرى ربيج أن تداعيات ما يحدث في النيجر وإن كان لا ينطوي على تهديدات مباشرة إلا أن الجزائر قلقة من حالة الفوضى والهشاشة التي تعرفها هذه الدول التي سيكون لها انعكاساتها على شعوب المنطقة، معتبرًا أن أي انهيار في المنظومة الأمنية داخل أي من بلدان الساحل سيكون له ارتدادات كارثية حيث الهجرات الجماعية والجماعات المسلحة والتهديدات الاقتصادية والأمنية معًا.
وألمح الأكاديمي الجزائري إلى أن تطورات المشهد تضع التفاهمات الأمنية والمصالح المشتركة بين النيجر والجزائر في مهب الريح، فلا أحد يعرف مصيرها إذا ما استتب الوضع على ما هو عليه، منوهًا أن الجزائر لن تقف مكتوفة الأيدي وهي تشاهد جيرانها يسقطون واحدًا تلو الآخر في فخ الفوضى.
وما تتخوف منه الجزائر هو ذاته الذي تتخوف منه ليبيا التي يربطها شريط حدودي يبلغ 342 كيلومترًا، يمتد من النقطة الثلاثية مع الجزائر في الغرب إلى النقطة الثلاثية مع تشاد في الشرق، حيث زيادة في نشاط الجماعات المسلحة والفوضى على الشريط الحدودي، كذلك نزوح جماعي للنيجريين إلى الجار الشمالي وزيادة عمليات التهريب وتجارة البشر على طول السواحل الليبية الغربية القريبة من شواطئ مالطا وإيطاليا.
السودان هو الآخر ربما ينضم إلى قائمة المتخوفين والمترقبين للمشهد النيجري بشكل دقيق، فرغم أنه لا وجود للحدود المشتركة بينهما، فإن بين البلدين بحر مفتوح من الرمال وقبائل متشابكة عرقيًا ومذهبيًا تزيد المشهد تعقيدًا، بما يجعل أي انهيار للاستقرار في الأراضي النيجرية غذاءً فعالًا لحرب الجنرالين في السودان.
فخارطة التشابكات القبلية بين البلدين من الممكن أن تشهد سيولة تسليحية إذا ما انهار الوضع في النيجر، بمعنى زيادة كبيرة في نشاط الجماعات المسلحة التي من الممكن أن تجد لها حضورًا كبيرًا في المشهد السوداني الراهن والذي تحول إلى أرض خصبة للمسلحين، أفراد وجماعات، وهو التخوف الأبرز الذي يهيمن على السودانيين إزاء الوضع المتفاقم في النيجر.
ومن السودان إلى مورتيانيا التي وإن لم ترتبط بحدود مباشرة مع النيجر لكنها ليست في مأمن من التداعيات المحتملة، وفق ما ذهب الباحث الموريتاني مختار الشين، الخبير الأمني في شؤون الساحل، كون البلدان متشابكين بحزمة من التفاهمات على رأسها أنهما منضويان تحت مظلة مجموعة دول الساحل الخمسة (النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو والنيجر) التي شكلتها فرنسا لتنسيق عمليات مكافحة الإرهاب في المنطقة عام 2014.
ويرى الباحث الموريتاني أن أي انفلات أمني في النيجر سينسحب إلى مالي المجاورة لها، وبمنطق الأواني المستطرقة، ونقل العدوى، سيؤثر هذا الوضع على موريتانيا المرتبطة مع مالي بشريط حدودي يبلغ 2237 كيلومترًا، كما أن أي تقدم للجماعات المسلحة المتطرفة الموجودة في منطقة الحدود الثلاثة بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر سيكون له مخاطره الكارثية، ويجعل من الساحة الموريتانية معركة جديدة بين المسلحين، بما يقوض الأمن الموريتاني الداخلي، لا سيما وأن الجيش النيجري ضعيف ولا يزيد تعداده على 16 ألف فرد في بلد تعداد سكانه 25 مليون نسمة، وينسحب الأمر كذلك على نيجيريا وبنين ورفقاء الانقلابات، بوركينا فاسو ومالي.
إيكواس والاختبار الصعب
تمثل الوضعية النيجرية اختبارًا صعبًا للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا المعروفة باسم “إيكواس” (ECOWAS) التي تحاول حلحلة الأزمة بشكل دبلوماسي، مهددة باللجوء إلى الخيار العسكري إذا فشلت جهود الاحتواء السياسي، وهو التهديد الذي قوبل بتحذير من السلطات في بوركينا فاسو ومالي، إذ أعلنا في بيان مشترك، أن أي تدخل عسكري في النيجر سيكون بمثابة إعلان حرب على بلديهما.
وتعد إيكواس المجموعة المعنية الأكثر بمثل تلك الأزمات، كما أن لها تاريخًا جيدًا نسبيًا في التعامل مع مثل تلك الأزمات، وتمتلك خبرات طويلة في هذا الشأن، إذ إن 13 من بين الـ15 دولة عضو في المجموعة شهدت انقلابات عسكرية منذ استقلالها، ونجحت المنظمة في احتواء الكثير من الأزمات التي مرت بها تلك البلدان.
ودخلت إيكواس على خط العديد من الأزمات التي شهدتها الدول الأعضاء طيلة العقود الثلاث الماضية، البداية كانت مع الحرب الأهلية التي اندلعت في ليبريا عام 1989 واستطاعت خلالها التوصل إلى تسوية سياسية في نهاية الأمر، ثم الأزمة السياسية في سيراليون عام 1991، مرورًا بمالي ثم بوركينا فاسو.
في تصعيد غير مسبوق.. هدد رؤساء دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب #إفريقيا “إيكواس”، الأحد، باستخدام القوة في حال عدم عودة رئيس #النيجر المعزول محمد بازوم إلى منصبه في غضون أسبوع. pic.twitter.com/K8LXykshNs
— TRT عربي (@TRTArabi) July 31, 2023
ونجحت في بعض التدخلات في إنهاء الأزمة بشكل دبلوماسي، وفي البعض الآخر كان الفشل هو المسيطر، لكن منذ ديسمبر/كانون الأول 2022، بدأت المجموعة في طرح الخيار العسكري كأحد البدائل المطروحة لحل الأزمات، حيث شكلت قوة مؤلفة من 5 آلاف جندي بتكلفة سنوية قدرها 2.3 مليار دولار لنشر القوات عند الطلب، وقد حددت حالات معينة من أجل التدخل العسكري هي: استعادة النظام الدستوري والعودة للحكم المدني، أو في حالات التطرف والإرهاب.
ويلاحظ خلال الأعوام الماضية أن تدخل إيكواس لحل الأزمات السياسية والانقلابات بشكل عسكري جاء في حالات الصراع المسلح بين طرفين، إذ لا بد من طرف ثالث يحسم المواجهة، أما في حالة وقوع انقلابات عسكرية دون وجود أي نزاع مسلح فإن الطرق الدبلوماسية والضغوط الاقتصادية والسياسية هي الخيار الوحيد أمام المجموعة.
وهنا قد تجد إيكواس نفسها في مأزق خطير إذا حاولت التدخل العسكري لحسم المعركة في النيجر وإعادة الرئيس المحتجز، خاصة مع تصعيد دول الجوار، بوركينا فاسو ومالي، والتحذير من أي تدخلات عسكرية واعتبار ذلك إعلان حرب علي البلدين، ومن ثم فليس هناك بديل من الضغوط السياسية والاقتصادية وتعزيز الخيار الدبلوماسي كحل وحيد لحل تلك الأزمة وتجنب الولوج في مستنقع أكثر عمقًا من الدماء والأشلاء.
التدخل العسكري لإيكواس يحتاج إلى طلب رسمي من الرئيس بازوم شرط وجود ظهير عسكري أمني يدعم هذا القرار حتى يتحول المشهد إلى صراع بين طرفين، وهنا يكون التدخل قانونيًا وفق لوائح المنظمة، لكن طالما ظل الرئيس محتجزًا دون إعلان رسمي عن مقاومته للانقلاب بشكل مسلح فإن مسألة التدخل العسكري للمجموعة مستبعدة نسبيًا.
وهنا ليس أمام هذا التجمع الإقليمي الإفريقي إلا ممارسة المزيد من الضغوط كما حدث في اجتماع الأحد 31 يوليو/تموز 2023 حين فرض عقوبات مالية على قادة الانقلاب، وجمد المعاملات التجارية والمالية بين دول المجموعة والنيجر، بجانب فرض حظر سفر على الضباط المتورطين في العملية، فيما أغلقت دول المجموعة جميع الحدود البرية والجوية مع النيجر.
ومنحت إيكواس أسبوعًا واحدًا فقط لسلطة الانقلاب لإنهاء انقلابهم وإعادة الرئيس المنتخب إلى موقعه، ويتوقع خلال تلك المهلة أن تمارس المجموعة، مستغلة نفوذها وثقلها القاري، وبعض الكيانات الإفريقية والدولية مزيدًا من الضغوط، السياسية والاقتصادية، من أجل حدوث انفراجة تجنب البلاد الدخول في مستنقع من المواجهات العسكرية خاصة بعد الدعم الملاحظ من بعض دول الجوار، والتحذير من التدخل العسكري.
ويرسخ الانقلاب العسكري في النيجر ثوابت تلك العلاقة الآثمة بين إفريقيا والانقلابات العسكرية، فرغم ثراء القارة التي تمتلك موارد طبيعية هي الأضخم عالميًا، وتمثل ثرواتها التعدينية عصب الصناعات المهمة في الغرب والشرق على حد سواء، يقبع 55% من سكانها تحت خطر الفقر، في مفارقة تبرهن على أن ما يحدث داخل القارة الإفريقية أمر أكبر من مجرد الاقتصاد والفقر كما يدندن الباحثون والخبراء، فهناك أيادي خارجية تعبث بمقدرات القارة وتشعل تلك الأجواء التآمرية داخل إفريقيا من أجل السيطرة على ثرواتها واستغلال ممراتها وموقعها اللوجستي المحوري.