من شوارع الميدان في دمشق إلى سهول عفرين، تنثر السيدة “نور الشامي” (48 عامًا) فنّ لف الورق الملون، وتحويله إلى لوحة فنية بديعة بعد لفّه وتشكيله بصورة متناسقة وأسلوب خاص، تكاد لا تفرّق بينها وبين أي عمل تشكيلي آخر من رسم أو خزف.
ويعرَف هذا الفن باسم “الكولينج”، وهو إتقان قص الورق باحتراف إلى شرائح رفيعة وطويلة، ولفّ تلك القصاصات وضغطها في أشكال مختلفة، ثم لصق الأشكال معًا لتشكيل قطع مزخرفة وأشكال جميلة ثلاثية الأبعاد.
اكتسبت الفنانة نور هذا الفن من والدتها منذ صغرها، عندما كان عمرها 13 عامًا، وعملت على تنميته في المدرسة بعد أن اكتشفت إحدى المدرّسات موهبتها في المرحلة الإعدادية، والتي عملت على تطويرها وتكليفها بإنجاز مهام عديدة لإقامة معرض للوحاتها.
أدوات الكولينج
تستعمل نور في صنع لوحاتها المزخرفة أشرطة ورقية ملونة ذات نوعية خاصة ونادرة جدًّا، تُدعى “كولينج رفيع”، وإبرة، ومادة لاصقة، وملقط معدني تستخدمه لمسك الورق وتشكيله، بالإضافة إلى ماكينة طيّ الورق.
تقول الشامي لـ”نون بوست” إن عملها تركز في بدايته على صنع الإطارات والقوالب وبعض الزهور، لكن بعد رحلة تهجيرها إلى الشمال السوري بدأت بتطوير أدائها من خلال البحث وابتكار أفكار جديدة عن طريق الإنترنت، ما دفعها إلى احتراف هذا الفن وصنع لوحات احترافية تجسّد مشاهد من الطبيعة تدل على الإتقان والشغف.
أوضحت نور أن هذا الفن بات مصدر دخل أساسيًّا لها، خاصة أن المنطقة تعيش تدهورًا في الوضع الاقتصادي وتدني فرص العمل، مشيرة أنها تصنع لوحات وتبيعها وفق طلب الزبائن الذين يتواصلون معها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
فن لا يدرَّس
تقول نور إن “فن الكولينج لا يدرَّس في المعاهد أو الجامعات، فهو موهبة وفن، وهو علم بحدّ ذاته، يمنحنا الصبر والقدرة على فهم المجتمع أكثر”، مشيرة إلى أن هذا الفن “يجسّد خطابًا ثقافيًّا معرفيًّا وجماليًّا، من شأنه أن يوظّف صفات المرأة السورية التي تتحلى بالصبر والجمال، ويجسّد الإصرار على ترسيخ واقع جمالي فني تكون المرأة مركزه لا هامشًا فيه”.
تسعى نور إلى تطوير هذا الفن وعدم دفنه وذلك عبر تقديم ورشات ودورات تدريبية للمهتمين في المنطقة، وتبحث عن داعمين لتلك الورشات، وتأمل أن تتمكن من العثور على مكان خاص بورشتها، فهي ما زالت تتنقل من غرفة إلى أخرى داخل بيتها الصغير المكوّن من 3 غرف، وهو ما يشتّتها كثيرًا، خاصة أن عائلتها تتألف من شاب وفتاة في العقد الثاني من عمرهما، ويدرسان في المرحلة الثانوية.
الكولينج يساعد على الإبداع
الناشط المدني جميل العفان، العامل في المركز المدني في مدينة الأتارب غربي حلب، يرى أنه من الضروري إدراج فن الكولينج في المناهج التعليمية للأطفال، فهو أحد أهم الفنون التشكيلية، إذ يساعد الطفل على الإبداع والابتكار وتنمية قدراته العقلية، كما يؤمّن له تمضية أوقات فراغه بما هو نافع، ويعرّفه أكثر ببيئته ووسطه الاجتماعي.
ويشير في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن الفنون التشكيلية، سواء أكانت الكولينج أو غيرها، من شأنها أن تعرّف الطفل على مفهوم المساحات، وذلك من خلال استخدام الأوراق والكرتون الملوّن وإعداد ملصقات مختلفة المساحات طوليًّا ودائريًّا وغير ذلك، فضلًا عن التعرُّف إلى استخدام الكرتون والنايلون والمعدن وإعادة تركيب هذه المواد بصيغ فنية جميلة، كما أنه يساعد على تنمية مفهوم الأشكال من خلال قصّ الكرتون والرسم.
ويصرّ العفان على ضرورة إضافة مادة الفنون إلى مناهج طلاب المدارس، بالإضافة إلى الاستفادة من محترفي فن الكولينج الذي هو غائب تمامًا عن شمال سوريا، عبر إقامة دورات تدريبية بهدف نشره في أواسط المجتمع، ما من شأنه أن يلعب دورًا في حياة السكان ليكون مالئًا لأوقات فراغ العديد منهم، وحلًّا مؤقتًا تفرّغ به طاقات الصغار واليافعين، لما يعانونه اليوم من أزمات تراكمية أنهكت أرواحهم.
الكولينج فن قديم
ما يميز هذا الفن أنه لا يحتاج إلى مواهب أو إمكانات خارقة، بقدر ما يحتاج إلى طريقة في التعبير لعرض الأدوات والخامات المختلفة، وفقًا لأستاذ الرسم حسام العاروب.
يؤكد العاروب لـ”نون بوست” أن الكولينج هو فن قديم، حتى أنه بدأ قبل عصر النهضة الإيطالية، إذ يكمن سحر هذا الفن بأن لديه القدرة على عمل شيء من لا شيء.
وأشار إلى أن تعلُّم هذا الفن ليس صعبًا، فالمهارات المطلوبة هي إتقان لفّ أوراق البرستول على أسياخ الخشب أو الأقلام، واستعمال الصمغ والتحلي بالصبر.
وتؤكد بعض الدراسات أن فن الكولينج نشأ في مصر القديمة، ومن ثم انتقل إلى فرنسا وإيطاليا في القرن الـ 18، ليستعمله الرهبان والراهبات في تزيين أغلفة الكتب والمواد الدينية.
وكان الورق الأكثر استخدامًا أول ظهوره وفقًا لـ”ويكيبيديا” هو شرائط الورق المقطوعة من حواف الكتب المذهّبة، ثم لفّ هذه الشرائط الورقية المطلية بالذهب لإنشاء الأشكال الملتوية، إذ كان أحد الأشياء القليلة التي يمكن للسيدات القيام بها، والتي لم يكن يفرض عليها ضرائب، ومن ثم انتقل إلى القارة الأمريكية ليصبح اليوم فنًّا معروفًا.