ترجمة وتحرير: نون بوست
اقتحم حسين الشيخ، السياسي الفلسطيني، غرفة اجتماعات محصنة تقع في المقر الشاهق لوزارة الدفاع الإسرائيلية في تل أبيب في شباط/فبراير 2022؛ وهي المكتب الخاص بالجيش الإسرائيلي والذي دخله عدد قليل من الفلسطينيين، وحسبما ذكر الشيخ فقد “استقبله كبار ضباط الجيش وقيادة جهاز المخابرات السرية “الشاباك””.
يعمل الشيخ – ذو القامة الطويلة واللطيف وذو شعر رمادي المصفف بالجيلاتين – كوسيط رئيسي للسلطة الفلسطينية مع “إسرائيل” في الضفة الغربية المحتلة؛ حيث يتحدث الشيخ اللغة العبرية بطلاقة، ويرتدي بذلات أنيقة، ويحث على التعاون مع “إسرائيل” وليس التصادم معها. وأصبح من كان في مراهقته ناشطًا تعرض للاعتقال على يد قوات الاحتلال في السابق؛ يرتدي ساعات رولكس الفخمة ويجوب العالم، ناهيك عن أنه يعمل الآن خلف الأبواب المغلقة لمنع انهيار السلطة الفلسطينية، تحت قيادة الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
يميل أصحاب النفوذ الإسرائيليون إلى الشيخ باعتباره شريكًا براغماتيًّا يتمتع بقدرة خارقة على إيجاد أرضية مشتركة؛ حيث قال مسؤول أمني إسرائيلي كبير متقاعد طلب عدم ذكر اسمه بسبب دوره المستمر في المخابرات الإسرائيلية كجندي احتياطي: “إنه رجلنا في رام الله”. ومع ذلك؛ يرى العديد من الفلسطينيين بأن نهجه لم يؤد إلا إلى تعزيز الوضع الراهن للصراع، الذي يتجلى في احتلال عسكري لا نهاية له وصل على ما يبدو إلى عقده السادس.
وروى الشيخ أثناء جلوسه مع جنرالات “إسرائيل” زيارة مؤثرة أجراها رفقة جدته إلى أنقاض مسقط رأسهم في دير طريف الواقعة وسط الأراضي المحتلة؛ حيث شاهدت جدته مجموعة من أشجار البرتقال كانت قد زرعتها قبل طردها وتدمير قريتها في حرب سنة 1948، وقامت جدته باحتضان الأشجار وطفقت تبكي.
خلال المفاوضات لإنهاء الحكم الإسرائيلي على الفلسطينيين الذي يعيشون وضعًا مأساويًّا منذ فترة طويلة؛ صرح الشيخ للجنرالات قائلًا إنه “وجد نفسه ينظر في المرآة، متسائلًا عما إذا كان يرتكب خطأ بمواصلة التعاون مع إسرائيل”، وأضاف لهم الشيخ: “إذا لم يكن هناك شريك في الجانب الإسرائيلي يؤمن بالسلام ودولتين لشعبين، فهل أُعْتَبَرُ خائنًا لدموع جدتي؟”، متابعًا بقوله: “هل يمكنك أن تتخيل ما يشعر به الفلسطيني العادي الذي يعيش في مخيم للاجئين؟”.
بعد ثلاثة عقود من محادثات السلام الإسرائيلية الفلسطينية التي تمخض عنها إنشاء السلطة الفلسطينية؛ لم يعد العديد من الفلسطينيين يعتقدون أن فلسطين ستصبح دولة مستقلة؛ حيث لا تنوي الحكومات ذات التوجه اليميني المتزايد في “إسرائيل” إنهاء احتلالها في أي وقت قريب، ولقد تأكد المجتمع الدولي من ذلك. فيما لا يزال الفلسطينيون يعيشون على وطأة الانقسام بين حركة فتح العلمانية التي يتزعمها عباس والتي تسيطر على الضفة الغربية وحركة حماس الإسلامية التي تسيطر على قطاع غزة.
يقف الفلسطينيون في الضفة الغربية في طوابير الانتظار عند نقاط التفتيش خلال النهار ويشاهدون القوات الإسرائيلية وهي تداهم أحيائهم ليلًا، حيث يؤكد الكثير منهم أن السلطة الفلسطينية – التي تدير المدن الفلسطينية وتعتقل المسلحين الذين يخططون لشن هجمات على الإسرائيليين – موجودة لتنفيذ الأعمال القذرة التي تخدم مصالح الاحتلال الإسرائيلي.
بالنسبة للكثيرين؛ يُعدُّ الشيخ هو الرجل الذي يقوم بهذا العمل القذر وهو نموذج للنخبة في السلطة الفلسطينية، الذي يمثل ما وصفه مسؤول فلسطيني سابق يعيش في الضفة الغربية بأنه “احتلال للشخصيات المرموقة”؛ حيث يمر المسؤولون الفلسطينيون رفيعي المستوى عبر حواجز الطرق الإسرائيلية ويتقاضون أجورًا ضخمة تمكنهم من تغطية نفقات الفيلات المحاطة بأشجار النخيل في مدينة أريحا الصحراوية والرحلات الباهظة في أوروبا وإقامة أطفالهم للحفلات في حيفا ويافا، تلك المدن الإسرائيلية التي يُمنع معظم الفلسطينيين من الوصول إليها.
في هذا السياق، قال غاندي الربيع، المحامي البارز المقيم في رام الله: “النخبة الفلسطينية هي المستفيدون الحقيقيون من عملية السلام”.
هناك العديد من المتنافسين لخلافة عباس البالغ من العمر 87 سنة، لكن لا أحد منهم واثق من أنه سيصل لقمة السلطة، لكن الشيخ لديه حظوظ أوفر ليصبح الزعيم المقبل للسلطة الفلسطينية، على الرغم من عدم اكتسابه شعبية واسعة لدى الفلسطينيين، وذلك بسبب العلاقات الوثيقة التي تربطه مع “إسرائيل” والولايات المتحدة.
على مدى تسعة أشهر؛ أجرت فورين بوليسي مقابلات مع 75 فلسطينيًا وإسرائيليًّا وأمريكيًّا وأوروبيًّا، بما في ذلك مسؤولين ودبلوماسيين ورجال أعمال ومدافعين عن حقوق الإنسان، وجميعهم رسموا صورة لصعود الشيخ إلى أعلى مراتب صنع القرار الفلسطيني.
وفي مقابلة نادرة استمرت ساعتين في مكتبه في رام الله؛ أكد الشيخ الفجوة بين القيادة الفلسطينية وشعبها؛ حيث قال: “السلطة غير قادرة على توفير أفق سياسي للشعب ولا حل مشاكل الشعب المالية والاقتصادية من الاحتلال”، متسائلًا: “ولكن ما هو البديل للسلطة الفلسطينية؟ هل الفوضى أم العنف”.
ويقارن المسؤولون الأمريكيون الشيخ بشكل إيجابي مع السياسيين الفلسطينيين الآخرين، الذين يصفونهم بالتعنت والمماطلة. فخلال اجتماعه الأخير مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، قال أحد كبار المسؤولين في الإدارة، والذي لم يُصرَّح له بالحديث عن الاجتماع، إن عباس استمر في الحديث بلا كلل لمدة 25 دقيقة قبل أن يترك بايدن ينطق بكلمة واحدة. وقال دبلوماسيون أمريكيون وأوروبيون إن محمد اشتية، رئيس الوزراء الفلسطيني، غالبًا ما يُجبِر الشخصيات الزائرة على سماع محاضرات مدتها 40 دقيقة حول التاريخ والقانون الدولي، أما بالنسبة للشيخ، فقد قال المسؤول بإدارة بايدن: “عندما تتواجد معه في الغرفة ذاتها، يمكنك أن تقول إنه حريص حقًا على إيجاد الحلول”، ووصفه دبلوماسي أوروبي في المنطقة بأنه “ماهر في حل المشاكل، وليس التنظير بشأنها”.
في المقابل؛ أوضح المسؤول “أنه يتمتع بشعبية لدى الشعب الفلسطيني مثل تلك التي كان يتمتع بها الشاه في كانون الثاني /يناير 1979″، في إشارة إلى شعبية الزعيم الإيراني محمد رضا بهلوي – الذي كان فاسدًا ومستبدًّا – قبل الثورة التي جلبت آية الله روح الله الخميني إلى السلطة.
تعكس قصة حياة الشيخ مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية التي استمرت عقودًا حتى وصلت إلى المأزق الحالي، فقد كان في السابعة من عمره عندما احتلت “إسرائيل” الضفة الغربية سنة 1967، وسُجِنَ وهو في سن السابعة عشرة، وأُفرج عنه خلال انتفاضة شعبية اجتاحت الضفة الغربية في أواخر الثمانينيات.
بعد تأسيس السلطة الفلسطينية في التسعينيات؛ ارتقى الشيخ ببطء في هرم السلطة، فقد خدم في قوات الأمن الفلسطينية الناشئة قبل أن يتولى منصبه الحالي – رئيس الهيئة العامة للشؤون المدنية – في سنة 2007؛ حيث تتولى هيئته مهام العلاقات مع إسرائيل، بما في ذلك التصاريح الإسرائيلية التي تسمح للفلسطينيين بتفادي القيود المفروضة على تنقلهم.
تُصور مسيرته من ناشط في الشارع يرتدي سترة جلدية إلى مسؤول مكروه؛ الفجوة المتزايدة الاتساع بين الحكومة الفلسطينية وشعبها الذي لم يعد يؤمن بأن قادته سيتمكنون من تحريره من قبضة الاحتلال، ناهيك عن بناء دولة ديمقراطية.
يعمل الشيخ بشكل وثيق مع “إسرائيل” لمنع الهجمات الفلسطينية على الإسرائيليين؛ حيث يتفاوض مع المسؤولين الإسرائيليين لتحديث البنية التحتية الفلسطينية القديمة. في شأن ذي صلة، يقول الزعيم البالغ من العمر 62 عسنة إن “كل هذه الجهود ضرورية للحفاظ على أمل بعيد المنال في أن يتمكن الفلسطينيون يومًا ما من الحصول على الحرية”.
وأضاف الشيخ: “نحن بحاجة إلى تضييق الفجوة الواسعة بيننا”، مشبهًا أسلوبه بالحصول على تفاحة واحدة متاحة بدلَا من حزمة من أربع تفاح لا يمكن الوصول إليها؛ مؤكدًا أنه “مهما كانت إنجازاته بسيطة، فهي مهمة”.
ويتحمل عباس – الذي انتخب لأول مرة لولاية مدتها أربع سنوات في سنة 2005 ويحكم الآن بأمر استبدادي – مسؤولية الحالة الهشة التي وصلت إليها السلطة الفلسطينية، لكن الشيخ لم يُخْفِ رغبته في خلافة عباس مما أثار حفيظة المعارضين الذين يتهمونه بالتصرف وكأنه أصبح رئيسًا بالفعل؛ حيث عزز وجوده على المنصات الالكترونية ونصب نفسه الوجه العام للسلطة الفلسطينية، لا سيما وهو يجوب شوارع رام الله في سيارة مرسيدس بنز محاطة بقوات أمنية كبيرة.
لكن هناك قلة يقولون إنه يمكن اعتباره قائدًا شرعيًّا. في شأن ذي صلة، قال تامر هايمان، الذي قاد المخابرات العسكرية الإسرائيلية حتى سنة 2021: “على غرار الآخرين في الدائرة المقربة من عباس، بدأ الشيخ مسيرته كجزء من الشعب لكنه أصبح معزولًا تمامًا عنه؛ إنه يمثل بالنسبة لفئات كبيرة من الشعب الفلسطيني كل الصفات السلبية التي تتسم بها السلطة الفلسطينية: فهو بمنأى عن الشعب، وفاسد، ومرتبط بإسرائيل”. وفي الصدد ذاته؛ قال محمد عودة، الدبلوماسي الفلسطيني السابق: “لا يمكنك تنصيب كرزاي على رأس السلطة الفلسطينية”، في إشارة إلى الرئيس الأفغاني المدعوم من الولايات المتحدة في الفترة من 2002 إلى 2014.
وخلال لقائه في شباط/ فبراير 2022 مع الجنرالات الإسرائيليين؛ قال الشيخ إن قرار تحقيق مستقبل أفضل يقع على عاتقهم، وهو ما كان اعترافًا صارخًا بفارق القوة الهائل بين رؤساء الأجهزة الأمنية والسلطة الفلسطينية، وهو اعتراف كان الشيخ يردده لسنوات، لكنه يمثل رفضًا للنظر في الجهود التي يمكن أن يبذلها القادة الفلسطينيون لتغيير حاضر شعبهم المؤلم. في نهاية المطاف؛ جلب الحوار للفلسطينيين بعض الامتيازات الصغيرة، لكنه لم يوفر حلا أقرب إلى الاستقلال.
قضى الشيخ طفولته في منزل لعائلة من الطبقة الوسطى في الضفة الغربية، التي لا تشبه الضفة التي يعرفها الفلسطينيون اليوم، فلم تكن هناك مستوطنات إسرائيلية تقريبًا في السنوات الأولى بعد الاحتلال، ولم يكن هناك سفراء ووزراء فلسطينيون يرتدون بدلات رسمية يحملون الشارة المزخرفة للسلطة الفلسطينية التي ولدت ميتًة، ولم يكن هناك جدارٌّ رماديٌّ فاصلٌ يتعرج فوق التلال الوعرة.
لعقود بعد سنة 1967؛ حكمت “إسرائيل” المنطقة بشكل مباشر، وترأس الحكام العسكريون الإسرائيليون المدن الفلسطينية، وتولوا مسؤولية الحفاظ على نظافة الشوارع وإدارة المستشفيات، وفتح فلسطينيون حسابات في بنوك إسرائيلية تقع في خان يونس ونابلس. وكان القلب النابض للنضال الفلسطيني في الخارج؛ في الأردن ولبنان وفي أي مكان ما عدا فلسطين.
ينظر بعض الفلسطينيين إلى تلك الأيام بحنين إلى الماضي؛ حيث كان يمكن للمرء ركوب سيارة والقيادة من غزة إلى الحدود مع لبنان دون التوقف عند نقطة تفتيش، كما يتذكر الكثيرون، أو السفر بسهولة عبر مطار إسرائيل. اليوم؛ باتت هذه الامتيازات البسيطة حلمًا بعيد المنال بالنسبة لمعظم الفلسطينيين.
وكانت رام الله، التي ازدهرت في الوقت الحالي بسبب تدفق المساعدات الدولية إلى السلطة الفلسطينية؛ لا تزال تضم مجموعة متواضعة من المنازل والشركات عندما كان الشيخ طفلًا. وكان والده، شحادة، يدير متجرًا لبيع المواد الغذائية بالجملة يقع في سفوح التلال بالقرب من الكنائس الجيرية في البلدة القديمة. ويعتبر لعائلته الممتدة – عائلة الطريفي – تاريخ طويل من العلاقات الوثيقة مع الإسرائيليين؛ حيث استفاد قريبه جميل؛ وهو رجل أعمال ثري يمتلك مقالع أحجار، من علاقته مع المسؤولين الإسرائيليين للحصول على تصاريح وامتيازات للفلسطينيين الذين يعرفهم. بكلمات أخرى؛ ورث الشيخ مسيرة العائلة التي تتمحور حول التنسيق بين السلطات الإسرائيلية والفلسطينيين.
وتجدر الإشارة إلى أن الشيخ انضم أولًا إلى صفوف المقاومة ضد الحكم الإسرائيلي في سن المراهقة. ففي سنة 1978؛ حُكم عليه بالسجن 11 سنة بعد أن انضم إلى خلية متورطة في شن هجمات ضد إسرائيليين، رغم أنه قال إنه لم يرتكب أعمال عنف. (ويقول الجيش الإسرائيلي إنه فقد سجلات محاكمته). وروى لاحقًا للمسؤولين الإسرائيليين الزائرين كيف أن عقوبته حطمت قلب والده؛ حيث يتذكر مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى آخر متقاعد التقى به مرارًا: “لم أره يروي القصة أبدًا دون أن تنهمر دموعه”.
ألهمت رتابة السجن الشيخ لتثقيف نفسه عن إسرائيل، فقد كان يقضي ساعات يوميًا في قراءة الكتب والصحف باللغة العبرية ويتدرب على التحدث مع الحراس، وفي النهاية أصبح يتحدث العبرية بطلاقة. (أثناء مقابلتنا، تحدث الشيخ باللغة العربية بشكل أساسي، لكنه بدا في أقصى قدراته التعبيرية عند مشاركة القصص باللغة العبرية). ودرّس في وقت لاحق اللغة العبرية لسجناء آخرين.
في السياق ذاته أوضح الشيخ:”لم أكن أعرف شيئًا عن إسرائيل. كنت أرى جنودًا إسرائيليين في بلدتي، بالقرب من باب منزلي. لكن ما هي إسرائيل؟ لقد درستُ كل ذلك في السجن”.
بحلول الوقت الذي غادر فيه الشيخ السجن، كانت الانتفاضة الأولى في ذروتها. بعد بضع سنوات؛ تفاوضت “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية على اتفاقيات أوسلو، التي شهدت انسحاب “إسرائيل” من بعض أجزاء الضفة الغربية وغزة وتسليم بعض المسؤولية للسلطة الفلسطينية المنشأة حديثًا؛ حيث بدأت الهيئة شبه المستقلة في الإشراف على الخدمات الأساسية للفلسطينيين مثل التعليم والرعاية الصحية. لكن سلطتها ظلت محصورة إلى حد كبير في المدن الفلسطينية، وبقيت معظم الضفة الغربية وقطاع غزة تحت سيطرة “إسرائيل” المباشرة.
أمضى الشيخ بضع سنوات يبحث عن مكانه في النظام الجديد الذي أوجده التقارب بين “إسرائيل” والفلسطينيين؛ حيث أمضى فترات برتبة عقيد في جهاز استخبارات معروف باجتثاث المعارضين مثل حماس والشرطة، وانتهى به الأمر في النهاية إلى كونه ناشطًا ثانويًا في كوادر حركة فتح الشعبية.
وكان الشيخ يجيد اللغة العبرية بطلاقة مما منحه ميزة في بناء علاقات وثيقة مع المسؤولين الإسرائيليين، فعندما كان ضابطًا شابًّا في قوى الأمن بين سنتي 1994 و1997، قام الشيخ بالترجمة بين المسؤولين الفلسطينيين والإسرائيليين في اجتماعات مشتركة. وفي خطوة لم يكن من الممكن تصورها بعد حوالي 30 سنة، سافر حتى إلى مدرسة ثانوية إسرائيلية في ضاحية رمات هشارون الثرية في تل أبيب لإلقاء محاضرة على المراهقين الإسرائيليين حول التعاون الإسرائيلي الفلسطيني وإمكانية السلام. وقال يوني فيغيل، الحاكم العسكري السابق لرام الله، والذي كان يدرّس في المدرسة ودعا الشيخ: “لقد طرح عليهم المحاضرة بلغة عبرية ممتازة”.
ولم تدم أيام أوسلو الذهبية؛ فقد أعقب انهيار محادثات السلام في كامب ديفيد سنة 2000 احتجاجات في المسجد الأقصى. وسرعان ما اندلعت الاشتباكات في جميع أنحاء “إسرائيل” والضفة الغربية وغزة، مما مهد الطريق للانتفاضة العنيفة الثانية، لكن حتى مسؤولي الأمن الإسرائيليين يتفقون على أن الشيخ تجنب المشاركة فيها. وقال شالوم بن حنان، الضابط السابق في جهاز الشاباك، إن “حسين كان يتزعّم حركة فتح وقام بكل أنواع القذارة لكنه لم يكن مقاتلا أو قائدا على الأرض”.
وقد قوّضت الانتفاضة الثانية عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، التي لم تتعافَ بالكامل، وشجعت الجناح اليميني المتشدد في البلاد، ولقد مكن هذا المأزق مسؤولين مثل الشيخ، الذين تنحصر مهمتهم في التصاريح أكثر من محادثات السلام.
بحلول سنة 2017؛ أصبح الشيخ حارس عباس، إلى جانب رئيس المخابرات الصارم ماجد فرج. وشكل الثنائي ما يسميه بعض المسؤولين الفلسطينيين الدائرة المغلقة حول عباس، الذي أصبح غير متسامح مع النقد.
ويقول مسؤولون في مكتب عباس إن الشيخ يجلس بجانب الرئيس في رحلاته، ويدون ملاحظاته في دفتر صغير عما يقوله له، ثم يكررها لاحقًا في اجتماعات مع شخصيات أجنبية. وأصبح مقربًا من أفراد عائلة عباس، حيث ظهر في صورة مع حفيد الرئيس في آب/ أغسطس الماضي الذي وصفه بأنه “زعيم وطني”، وقال ناصر القدوة، العضو السابق في قيادة فتح والذي تحول إلى ناقد لعباس: “لديه قدرة خاصة على التملّق، والكذب، والاذعان، والهراء، ودائمًا ما يعمل على إقناع أبو مازن بأنه إله ويقول “كلامك رائع، سيدي الرئيس”.
وقال محللون فلسطينيون إن أبو مازن أو عباس مكّن الشيخ من الصعود لأنه يفضل المستشارين غير القادرين على تحدي سلطته. وقال القدوة إن الرئيس يمكن أن يتخلص منه بسهولة إذا لم يكن محبوبًا، وأضاف قائلًا: “إنه حشرة صغيرة مقارنة به. إذا غيَّر أبو مازن موقفه غدا، سينتهي الشيخ”.
في كانون الأول/ ديسمبر، سُمع الشيخ وهو يشتم عبّاس قائلا “أنت ابن 66 عاهرة” في تسجيل صوتي سُرِّب إلى وسائل الإعلام الفلسطينية. واختيار تسريب هذا التسجيل كان مؤشرًا معبرًا على أن خصوم الشيخ يعتبرون عبّاس مصدر قوته الرئيسي. ومن جهته، نفى الشيخ هذه التسجيلات ووصفها بأنها تلفيقات تهدف إلى “تقويض الوحدة الوطنية“.
بغض النظر عن العلاقات الشخصية، يشترك عبّاس والشيخ في الالتزام بحلّ تفاوضي مع “إسرائيل” والتشكيك في خصومهم من حماس، الذين انتزعوا السيطرة على قطاع غزة في انقلاب سنة 2007. وفي اجتماع عقده سنة 2017 مع مسؤولين أمريكيين، ذكر مسؤول بارز في إدارة بايدن أن الشيخ قال صائحًا إن المضي قدما في اتفاق مصالحة بين فتح وحماس سينتهي بتحليق صواريخ الجماعة الإسلامية فوق رأسه. وأخبر الشيخ مجلة “فورين بوليسي”: “أنا مؤمن تماما بخطة أبو مازن ونهجه. إنه يثق بي. وأنا ممتن لهذه الثقة”.
حتى يومنا هذا، يردّد الشيخ معارضته للهجمات التي تُشن على الإسرائيليين والتي يقول إنها تصب في مصلحة إسرائيل: “أنا مع مقاومة الاحتلال، وأعارض تماما إيذاء المدنيين. أنا أؤيد مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وما زلت أؤمن بذلك. ولكن كيف؟”.
قال نيكولاي ملادينوف، كبير مبعوثي الأمم المتحدة السابق للسلام في الشرق الأوسط، إن الشيخ يعمل في “حالة من الفصام” بينما “لا يعلم ما الذي سيحدث بعد ذلك ويحاول العمل في جميع العوالم في نفس الوقت”. وأضاف: “ينبغي عليك تقديم خدمات لشعبك، وأنت تعلم جيدًا أن الناس سيعارضونك لأنك لا تعمل على حل الدولتين الذي وعدتهم به لفترة طويلة”.
في الأشهر الأخيرة، ركّز الشيخ على استعادة الهدوء في خضم أعنف الاشتباكات المسلحة منذ الانتفاضة الثانية. قتلت القوات الإسرائيلية هذه السنة أكثر من 140 فلسطينيا ومقاوما ومدنيا، بينما قتل المقاومون الفلسطينيون 25 إسرائيليا على الأقل معظمهم من المدنيين.
يعكس تصاعد العنف حالة اليأس المنتشرة في صفوف الفلسطينيين. لم يصوّت الشباب الفلسطيني قط في انتخابات وطنية، ومع ذلك يبدو أن النخبة السياسية تركز على من سيحل محل عباس الطاعن في السن أكثر من تركيزها على إصلاح النظام الفاسد. وفي غضون ذلك، يتمتع المقاومون الفلسطينيون الذين يواجهون الجنود الإسرائيليين في مدينة نابلس القديمة أو مخيم جنين للاجئين بشعبية لا يمكن لزعماء السلطة الفلسطينية مثل الشيخ إلا أن يحلموا بها.
بينما يتباهى المسؤولون الفلسطينيون بإقامة “دولة فلسطين”، فإن ما يمكن رؤيته بالفعل هو بالكاد دولة صغيرة – بوجود وزارات حكومية تعمل في الغالب كمنصات للمسؤولين لتوزيع المناصب المريحة، والعقود المرغوبة، والتصاريح التي تجنب أصحابها مواجهة الحكم العسكري الإسرائيلي. وعلى حد تعبير المحلل السياسي جهاد حرب “ما لدينا اليوم هو بقايا المشروع الوطني”.
إن بؤس الاحتلال يتغلغل في الحياة الفلسطينية، لكن نفاق القيادة الفلسطينية – التي تدعو إلى العدالة على الساحة العالمية بينما ينتشر الفساد والاستبداد بين صفوفها – يضيف طبقة أخرى من الإحباط. غالبًا ما يتم اعتقال الفلسطينيين الذين ينتقدون قادتهم عبر الإنترنت أو ينظمّون الاحتجاجات – أو يتعرّضون لما هو أسوأ من ذلك.
في حزيران/ يونيو سنة 2021، زُعم أن ضباط الأمن الفلسطينيين ضربوا الناقد نزار بنات حتى الموت، ما أثار مظاهرات نادرة فرّقتها عصابات يرتدي أفرادها ثيابًا مدنية اعتدوا بشراسة على الصحفيين والمتظاهرين. وقد وصفت السلطة الفلسطينية مقتل بنات بالخطأ وقدّمت عددا من ضباط الأمن للمحاكمة، ولكن المنتقدين أكدوا أن هذه الانتهاكات استمرت.
قال مهند كراجة، محامي حقوق الإنسان الذي مثّل المعارضين المسجونين لانتقادهم الحكومة، إن “الاحتلال لعب الدور الأول والأهم في معاناتنا، ولكن شيئًا فشيئًا، أصبحت السلطة الفلسطينية عبئًا موازيًا من خلال قمعها للنشطاء السياسيين والمجتمع المدني، وانتشار الفساد، والمراسيم القانونية المناهضة للديمقراطية”. وفي آذار/ مارس، جمّدت السلطة الفلسطينية ترخيص مزاولته المهنة القانونية فيما وصفه عمر شاكر، مدير الشؤون الإسرائيلية والفلسطينية في منظمة “هيومن رايتس ووتش”، بأنه “أحدث جهودها المنهجية لتكميم المعارضة”.
يكافح القادة الفلسطينيون للرد على الشعب المستاء. قال صبري صيدم المسؤول في فتح: “لسنا ملائكة”، مضيفا أن محاولات مناقشة إخفاقات الحكومة الفلسطينية تصرف الانتباه عن المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويمتنع آخرون عن انتقاد الحكومة لكنهم يعرضون بعض الاستبطان. وقال عزام الأحمد، وهو عضو بارز في حركة فتح منذ فترة طويلة: “أنا أدافع أحيانًا عن السلطة وقادتها وأعلم أنني مخطئ”، معترفًا بأنه دافع عن أشياء “لا يؤمن بها”.
قال الشيخ إن حالات القمع والكسب غير المشروع كانت شكلا من أشكال الانحراف: “انظر، أنا لا أقول إن أداءنا سليم 100 بالمائة”. ولكن بالنسبة للعديد من الفلسطينيين، ترتبط هذه الانحرافات المفترضة بالنظام الذي يترأسه الشيخ.
تنظم “إسرائيل” بإحكام حركة الفلسطينيين. وكل من يريد السفر إلى القدس للصلاة في المسجد الأقصى أو ارتياد مطاعم الأسماك في يافا يحتاج إلى تصريح صادر عن الجيش الإسرائيلي. في المقابل، تسمح “إسرائيل” لشريحة مميزة من النخبة الفلسطينية بالتحرك بحرية وتجاوز القيود التي تثير غضب الجمهور العريض.
بعبارة أخرى، إن تصاريح كبار الشخصيات المزعومة تسمح للمسؤولين الفلسطينيين رفيعي المستوى بعبور نقاط التفتيش المخصصة عادة للإسرائيليين. ويمكن لرجال الأعمال الأثرياء التقدم بطلب للحصول على “بطاقة رجل أعمال”، وهي بطاقة تُخوّل لمالكها الدخول بحرية تقريبًا إلى “إسرائيل” ومطارها الدولي بالقرب من تل أبيب.
على الجانب الفلسطيني، يكون مكتب الشؤون المدنية التابع للشيخ مسؤولا عن توزيع التصاريح الإسرائيلية الحصرية – ويروي العديد من الفلسطينيين في رام الله وبيت لحم وطولكرم قصصًا عن صديق أو جار يدفع ثمنها.
قال بن حنان في إشارة إلى الشيخ: “عندما تتحدث إلى الفلسطينيين سيقولون لك: فاسدون، فاسدون، فاسدون”. (لم يشر تقريرنا إلى تورط الشيخ المباشر في حالات الفساد المزعومة).
عندما يتواصل التجار مع المسؤولين في وزارة الشيخ بشأن الحصول على “بطاقة رجل أعمال”، قد يُطلب منهم تقديم خدمات أو أموال، وذلك وفقًا للعديد من رجال الأعمال البارزين. وقال سمير حزبون، الأمين العام لاتحاد الغرف التجارية، إنه “في ظل تزايد الطلب، يعرض بعض الأشخاص مقابلا لتحسين الصفقة”.
وأضاف حزبون أن بعض المسؤولين الحكوميين قالوا للمتقدمين: “أصلح مكاتبنا، وأنشئ لنا وحدات تكييف، وستحصل على “بطاقة رجل أعمال الخاصة بك”. وقال إن مسؤولين آخرين تلقوا رشاوى بقيمة 10 آلاف دولار. وفي استطلاع أجري سنة 2022 من قبل التحالف من أجل المساءلة والنزاهة الذي يقع مقره رام الله، أفاد حوالي ربع الفلسطينيين بأنهم دفعوا رشوة أو عرضوا هدية أو دفع عنهم أحد الأقارب ذلك مقابل تلقي خدمة عامة.
قال سمير أبو زنيد، الرئيس السابق لمكتب مساءلة الحكومة في السلطة الفلسطينية، إن “الناس يستخدمون علاقاتهم لتحقيق مصالحهم”. وقد نفى وزير التنمية الاجتماعية الفلسطيني أحمد مجدلاني مزاعم تفشي الفساد الحكومي قائلا إن “هذه القصص التي تشاركها معي تافهة”. وأكد الشيخ سعيه إلى معالجة المشكلة ونفى انتشار الفساد. وعندما واجه ادعاءات محددة تتعلق بالكسب غير المشروع في وزارته نفى ذلك بشكل تام.
بخصوص دعاوى الفساد، تساءل الشيخ: “هل لديك أي فكرة عن عدد الأشخاص الذين أرسلتهم إلى مكتب المدعي العام؟”. ولكنه لم يرد على أسئلة حول عدد الأشخاص الذين أحالهم إلى العدالة، مؤكدًا أنه تابع كل قضية عن كثب، حتى أنه حضر جلسات الاستماع.
ذكر مسؤولون إسرائيليون تلقيهم عددا كبيرا من الشكاوى حول الفساد في “مكتب الشؤون المدنية” من فلسطينيين وعاملين غير ربحيين. وقال كوبي لافي مستشار الشؤون الفلسطينية السابق للإدارة المدنية – الذراع البيروقراطية للاحتلال الإسرائيلي – إنه طالما أن السلطة الفلسطينية تشن حملة على النشطاء الفلسطينيين، فإن الكثيرين في “إسرائيل” لا يرون سببًا للتدخل. وأضاف أن “الفلسطينيين يقولون لنا: “لو لم يكن الوضع مريحًا لإسرائيل، لوضعتم حدا له”، مشيرًا إلى أنه رفع تقارير عن الفساد مع مسؤولين غير مهتمين. وأشار إلى أنه “لا يبدو من الجيد أن أقول ذلك، لكنهم على حق. إذا لم يكونوا مسؤولين عن الإرهاب، فمن سيهتم”.
قال رجال الأعمال إن الممارسات الفاسدة تمتد لتشمل توزيع الحكومة للتراخيص المربحة، التي غالبًا ما تُمنح لأصدقاء وأقارب كبار المسؤولين. وتعزز التراخيص، المستخدمة لتشغيل محطات الوقود واستيراد السجائر وإدارة الأعمال الأخرى، ثروة الأشخاص الذين لديهم صلات جيدة.
وصف رجل أعمال فلسطيني كيف استدعى شخصين من أفراد عائلة الشيخ إلى شركته بوصفهما “شريكين خياليين” – وهي أداة شائعة للتغلب على الإجراءات البيروقراطية حسب رجال الأعمال. وصرّح رجل الأعمال بأن أحد الشركاء قدم مساهمة صغيرة للشركة، في حين لم يقدم الآخر أي مساهمة على الإطلاق، بينما كان يتنقل عبر وثائق التسجيل التي تحمل أحد أسمائهم ومحادثات “واتسآب”.
مستفيدين من ارتباطهم بالشيخ، ساعد أفراد العائلة رجل الأعمال في الحصول على تصريح وتجنب العقبات التنظيمية وأخذوا في المقابل حصة من عائدات الشركة. حيال ذلك، قال رجل الأعمال”: “لولاهم، لما كان العمل سيتقدم. إن عائلته عبارة عن هيئة حكومية”. (طلب رجل الأعمال حجب التفاصيل المتعلقة بعمله من أجل حمايته من انتقام السلطة الفلسطينية) ولم يرد الشيخ على طلب للتعليق أُرسل إلى كبير موظفيه بشأن الأنشطة التجارية لأفراد عائلته.
يقول قادة الأعمال إن المخططات تعكس كيفية هيمنة الطبقة الحاكمة الفلسطينية على كل جوانب الحياة تقريبًا. قال هشام مسعد، الرئيس السابق لغرفة التجارة والصناعة في جنين: “لسوء الحظ، أصبحت فلسطين ساحة لعب للمجرمين. في كل مكان آخر، الفساد يحدث تحت الطاولة، لكن هنا، على مرأى من الجميع”.
هذه المحسوبية المتجذرة في وزارة الشيخ تولّد الاستياء، خاصة بين الفلسطينيين في الضفة الغربية الذين يعيشون في خوف من الترحيل إلى قطاع غزة لأن بطاقات هويتهم تقول إنهم يعيشون هناك. لسنوات، لم تسمح “إسرائيل” في الغالب بتغيير الإقامة بين الضفة الغربية وغزة، مما جعلهم عرضة لخطر الترحيل. أخبر الشيخ المسؤولين الأمريكيين بأن “إسرائيل” منحت استثناءات فقط للمسؤولين “كامتيازات لقيادة السلطة الفلسطينية”، وذلك فقًا لبرقية دبلوماسية أمريكية تعود لسنة 2009. (إن حصار “إسرائيل” طويل الأمد لقطاع غزة وتضييق مصر يجعل الحياة هناك أكثر صعوبة بالنسبة لمعظم الفلسطينيين مقارنة بالضفة الغربية).
في سنة 2021، أعلنت الحكومة الإسرائيلية السابقة أنها ستقوم بتحيين عناوين آلاف الفلسطينيين التي كانت منسية لعدة سنوات، فازدحمت الحشود أمام مكاتب الشؤون المدنية لتحديث وثائقهم، لكن العملية شابتها اتهامات بمحاباة الأقارب.
أظهرت بيانات من سجلات الوزارة أن محمود الهبّاش – مسؤول بارز – غيّر عنوانه إلى الضفة الغربية مع 17 من أفراد أسرته. كما أن مساعده وزوج شقيقته خالد بارود، وما لا يقل عن 10 من أفراد أسرته، حصلوا على تحيين. ومن جهته، قال الهبّاش إن عائلته تقدمت بطلب تغيير العنوان من خلال “الشؤون المدنية” منذ سنة 2009 ولم تستخدم نفوذه، ولم يرد بارود على طلب للتعليق.
قالت جيسيكا مونتيل، المديرة التنفيذية لمنظمة “مركز الدفاع عن الفرد” (هموكيد)، وهي منظمة إسرائيلية لحقوق الإنسان تدعم حقوق الإقامة الفلسطينية: “إسرائيل هي المتسبب الرئيسي في حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية، ولكن من المحبط والمثير للغضب أن الناس لا يستطيعون الاعتماد على السلطة لحماية مصالحهم بشكل مناسب”. وأضافت: “يبدو واضحًا أنهم يتخذون هذه القرارات عن طريق المحاباة”.
ومع ذلك، تظل إساءة الشيخ المزعومة للنساء التحدي الأكبر أمام رغبته في خلافة عباس. تعود معظم الفضائح إلى عدة سنوات، لكنها مع ذلك شوهت صورته. بعضها شائعات لا أساس لها من الصحة، ولكن يبدو أن إحداها على الأقل تكشف عن الإفلات من العقاب الذي يتمتع به كبار المسؤولين. نتج عن إساءة معاملة الشيخ المزعومة لموظفة في مكتبه في سنة 2012 إلى شكوى رسمية، وفتح تحقيق تدخّل فيه عباس وانتهى بدفع 100 ألف دولار لم يتم الإبلاغ عنها سابقًا، وذلك وفقًا لمسؤول فلسطيني مقرب من المدعية في ذلك الوقت وآخرين على دراية بالقضية.
رابط الصورة:
وفقًا لمن هم على دراية بالقضية والتقارير الإعلامية في ذلك الوقت، استدعى الشيخ إلى مكتبه في سنة 2012 شابّة موظفة في تكنولوجيا المعلومات في وزارته لإصلاح خطأ في الكمبيوتر، لكنه تحرش بها لفظيًا معلقًا على مظهرها. وقد أخبرت المحاورين أنها صدّت الشيخ، وقال مسؤولون إنه بدأ في لمسها دون رادع، ووصفت الحادثة بقولها إنها رفضت هذه الخطوة بسرعة وصرخت احتجاجًا قبل أن تغادر الغرفة، وذلك على حد قولهم.
في خطوة نادرة، قرّر زوج الموظفة في التكنولوجيا المعلومات، وهو عضو نافذ في حركة “فتح”، تحدي الشيخ بتقديم شكوى رسميّة. وفجأة، بدا أن المستقبل السياسي للمسؤول الفلسطيني الكبير على صفيح ساخن.
أثارت تلك الفضيحة انزعاج حلفاء الشيخ في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. يتذكر آفي إيساكاروف، مراسل مختص في الشؤون الفلسطينية، تلقيه مناشدة غير عادية من ضابط إسرائيلي كبير لوقف نشر قصصه حول هذه القضية في ذلك الوقت من أجل حماية سمعة الشيخ، لكن إيساكاروف نشر القصص على أي حال.
خلال مقابلته مع “فورين بوليسي”، رفض الشيخ الرد على المزاعم بالتفصيل مشيرا إلى أنه لن يضيع الوقت في “حديث تافه”. ونظرًا لما بدا له أنه سيواجه أسئلة حول الاتهامات، قال في بداية الاجتماع إنه لن يجيب على الأسئلة التي “لا تعجبه”. وقبل أن نغادر مكتبه، قال بالعبرية إن لديه عرضًا: “انسَ الأمر وقلْ إنها دعاية سلبية ضدي”. وقد رفض الشيخ الرد على أسئلة محددة تعقيبًا على الحادث. وفي رسالة بريد إلكتروني، وصف كبير موظفيه جميع أسئلة “فورين بوليسي” بأنها باطلة وقال إن الشيخ ليس لديه الوقت للرد على مثل هذه الادعاءات الباطلة.
في العلن، تتنازع الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية باستمرار حول السياسة. لكن المسؤولين على الجانبين يحافظون على ما أسماه أحد الدبلوماسيين “زواجًا كاثوليكيًا” لدرء الوضع الراهن الذي يفضله الطرفان في الوقت الحالي.
لكن مع تصاعد إحباط الشعب الفلسطيني في ربيع 2022 وسط اشتباكات دامية بين المقاومة وقوات الأمن الإسرائيلية، هدّد عبّاس سرًا بتجميد “التنسيق الأمني”، وهي سياسة لا تحظى بشعبية تجعل السلطات الفلسطينية والإسرائيلية تشارك المعلومات الاستخباراتية لقمع المقاومين الفلسطينيين. وإذا تم تنفيذ التهديد، فمن الممكن أن يؤدي إلى تصاعد العنف.
لجأ المسؤولون الأمريكيون والإسرائيليون إلى الشيخ لإقناع الرئيس بالتراجع. فعلاقات الشيخ الوثيقة مع عبّاس، إلى جانب استعداده لتقديم تنازلات، جعلت منه منذ فترة طويلة الشخص المناسب للدبلوماسيين. وقال مسؤول أمريكي عمّا وصفه بـ”همسة لعباس”: “عندما تتوتر الأمور كثيرًا، سيكون نقطة الاتصال لتهدئة الوضع”.
أجرى الشيخ محادثات هادئة مع باربرا ليف، المسؤولة البارزة في وزارة الخارجية، التي أبلغته بأن “إسرائيل” تعهدت بوقف هدم المنازل حتى زيارة بايدن في تموز/ يوليو الماضي، وذلك حسب مسؤول بارز في إدارة بايدن. وقد استفاد الشيخ من الاقتراح لإقناع عباس بالعدول عن هذه الخطوة.
يظل شركاؤه الإسرائيليون على اتصال دائم واصفين إياه بالشريك الموثوق به في تحسين شبكات الهاتف الجوال الفلسطينية الأمر الذي يتطلب موافقة إسرائيلية؛ وكذلك لحمل رسائل القادة الإسرائيليين لعباس ومهام أخرى. وقال سامر السنجلاوي، الناشط في حركة “فتح”، إن المسؤولين الإسرائيليين كانوا يتّصلون بالشيخ باستمرار خلال رحلة عبر الصحراء الأردنية قبل عقد ونصف. وأضاف: “حجم المكالمات بينه وبين مسؤول الارتباط العسكري الإسرائيلي لم يكن طبيعيًا. حتى أفضل الأصدقاء لا يتحدثون مع بعضهم البعض بهذه الطريقة”.
حيال ذلك، قال مايكل ميلشتين، وهو ضابط مخابرات إسرائيلي متقاعد التقى الشيخ: “هذا يترك انطباعًا سأشرحه لك، إذا أبرمت صفقة معك بشأن محطة كهرباء فرعية في جنين أو أي شيء يتعلق بالتنسيق الأمني، فكن على يقين من أنه يمكن الاعتماد عليه”.
لكن بالنسبة للعديد من الفلسطينيين، يلعب الشيخ على الشروط التي تفضلها إسرائيل، وهي بمثابة تنازلات إضافية تعمل على تحسين الحياة اليومية ولكنها لا تقرّب الفلسطينيين من الاستقلال. وقال السنجلاوي “إنه براغماتي لكنه يفتقر إلى البراغماتية التي تحقق النتائج”.
في أواخر سنة 2022، وافق الشيخ على خطوة من شأنها أن تترك العديد من الفلسطينيين يتكبدون دفع إيجار لإسرائيل مقابل أراضٍ في الضفة الغربية يعتبرها الفلسطينيون محتلة. كانت الفكرة إنشاء مرفق جمركي فلسطيني في بلدة ترقوميا بالضفة الغربية من شأنه أن يمنح الفلسطينيين قدرًا ضئيلًا من السيادة عن طريق تأجير الأرض من إسرائيل. وقال مسؤول في مكتب الشيخ طلب عدم الكشف عن هويته لتجنب أي انتقام منه: “لقد شعرت بالذهول. نحن نتحدث عن أرض محتلة بالطول والعرض. أعتقد أنه لو تم تنفيذ هذه الصفقة، فإنها كانت لتشكّل سابقة خطيرة للغاية”.
(قال الشيخ إنه وافق على تأجير المساحات بموجب اتفاقية مدتها 99 سنة، ووصف هذا الجزء من الاقتراح بأنه “غير إشكالي”. لكنه قال إن الصفقة فشلت لأن “إسرائيل” رفضت السماح بعبور التبغ والكحول، اللذيْن يجلبان عائدات كبيرة للسلطة الفلسطينية، في المركز).
واجه الفلسطينيون الذين ينتقدون قرارات كبار المسؤولين مثل الشيخ تهديدات وترهيب. في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أعلن الشيخ أن الحكومة استأنفت رسميًا التنسيق مع إسرائيل، بما في ذلك استراتيجية بغيضة على نطاق واسع للعمل مع “إسرائيل” لقمع المقاومين. قدّم أسيل سليمان، مذيع إذاعي على “راديو إف إم” – محطة مقرها رام الله – مونولوجًا ضد الشيخ الذي كان قد وصف لتوه على موجات الأثير قرار استئناف التنسيق مع “إسرائيل” “انتصارًا عظيماً لشعبنا الفلسطيني”. وقال سليمان بنبرة غاضبة: “جعل الله هذا المساء جحيمًا لمن باع وخان ونسق ثم أعلن أن ذلك انتصارًا. ما هذه السذاجة؟”.
ردًا على ذلك، اتصل الشيخ بصاحب المحطة وطالبه بشدة “بإصلاح الوضع”، وذلك على حد قول مسؤول فلسطيني مطّلع على الحادث، وقد أصرّ أيضًا على أن ينشر المنفذ الإخباري مقالًا يدعم العلاقات المعادية. فامتثل المنفذ ونشر افتتاحية تدافع عن القرار ونفى الشيخ علمه بالحادث.
لدى المعجبين الأمريكيين بالشيخ انطباع بأن لديه مشكلة في صورته المحلية. في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، دعا المسؤولون الأمريكيون الشيخ – وليس رئيس الوزراء الفلسطيني – لزيارة واشنطن للقاء المسؤولين الأمريكيين، بما في ذلك مستشار الأمن القومي جيك سوليفان. وقال المسؤول في الإدارة: “لقد أراد أن يأتي، بالتأكيد، لتعزيز مصداقيته داخل السلطة الفلسطينية، وكانت رغبتنا أن نسمح له بالمجيء ونمنحه بعض المصداقية في الشارع”.
طالما أن سياسة الولايات المتحدة تهدف إلى الحفاظ على الأمل في حل الدولتين في مواجهة سنوات من الجمود، فستحتاج واشنطن إلى أشخاص مثل الشيخ. وقال مسؤول من الإدارة: “إنه يحاول إبقاء هذا البرج المنهار بأكمله قائمًا. إنه يفهم حدودنا وحدود الإسرائيليين”.
لكن من العدل أن نتساءل عن مدى فهمه للحدود الفلسطينية. وأيًا كان من سيتولى مقاليد السلطة بعد رئيس في الثمانين من عمره، فإن أحد الأمور المؤكدة هو أنه سيقود سلطة فلسطينية شديدة الإشكالية. قالت حنان عشراوي، وهي مسؤولة فلسطينية كبيرة سابقة، إن الرئيس المقبل سيرث الوضع الذي تواصل فيه “إسرائيل” قتل الناس وهدم المنازل وتوسيع المستوطنات وضم الأراضي، بينما يتعامل مع إرث حكومة استخدمت سلطتها المحدودة لقمع شعبها وارتكاب الظلم ضده”.
قال محظوظ شلالدة، وهو مدرّس يبلغ من العمر 39 سنة من قرية على سفح التل بالقرب من الخليل في جنوب الضفة الغربية، إن آمال طلاب الصف العاشر في مستقبل أفضل تتراجع سنويًا، وهم يشعرون بأنهم محاصرون بين مطرقة الاحتلال وسندان السلطة. وأضاف: “الاحتلال يخنقنا والسلطة تمارس كل أنواع الفساد الممكنة. لقد أغلقت أبواب الأمل في وجوهنا”.
يُقرّ الشيخ بأن العديد من الفلسطينيين توقفوا عن الاعتقاد بأن حكومته ستحررهم من الاحتلال الإسرائيلي، وليس من الواضح ما إذا كان يعتقد أن ذلك يجب أن يؤدي به إلى تغيير المسار. وأضاف: “لقد فقد الناس الأمل بالطبع. لكنني كمسؤول وقائد لا يمكنني ذلك”.
المصدر: فورين بوليسي