مثّلت محنة الزلزال نافذة أمل لبشار الأسد لفكّ عزلته الدولية، فرحَ بها فرحًا لم يستطع إخفاءه ولو كنوع من البرستيج أمام الكاميرات وقت المأساة، بل ظهر بضحكته البلهاء أثناء زيارته لتفقد مناطق الزلزال في حلب.
تدفقت الاتصالات والزيارات والوفود إلى دمشق، أُعيد مقعد سوريا إلى الجامعة العربية، وظهر بطوله الفارع في الصورة التذكارية بجانب إخوته من الزعماء العرب بقمة جدة (عُقدت في 19 مايو/ أيار) التي استقبلته -ولو من غير حفاوة- وتنفّس فيها الصعداء، وكل شيء أصبح تمام التمام، لقد عادت المياه إلى مجاريها، وانطلق قطار التطبيع في دربه بعد تعثّر مرير.
الآن، مضى أزيد من شهرَين على انتهاء قمة جدة التي عوّل عليها كثيرًا ليعود إلى الحظيرة، وليرجع كل شيء إلى سابق عهده، لكن ما جرى قبل القمة من حراك لم يثمر عن شيء بعدها على أي مستوى تقريبًا، وخفتت الحماسة العربية تجاه الأسد، وانتهى ذلك السباق المحموم نحو العاصمة السورية.
قطار التطبيع العربي مع الأسد تعثّر من جديد، ربما انتهى وقوده، أو تخرّبت سكّته، أو تعطّل محرّكه، أو وضع أحدهم العراقيل في مساره، لا أدري، لقد أصابه عطب ما، ولا يبدو أحد مهتمًا… فماذا حدث؟
الزلزال محنة الشعب ومنحة لنظام الأسد
مع صبيحة اليوم الثاني من الزلزال، بدا مكتب بشار الأسد نشطًا -على غير المعتاد- وهو يستقبل المكالمات لتلقي التضامن والمواساة بالكارثة التي عمّقت محنة السوريين، التي كان سببها بشار ذاته، إذ تلقى أول مكالمة هاتفية من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قبل أن تشهد دمشق أول زيارة لوزير خارجية مصري (سامح شكري)، وأول زيارة لوزير خارجية أردني (أيمن الصفدي)، منذ أكثر من عقد، بحجّة تقديم واجب العزاء بالضحايا.
وبينما كان ضحايا الزلزال في المدن السورية الخاضعة لسلطة النظام يعيشون في العراء، باحثين عن مأوى بعدما دمّرت الكارثة منازلهم أو أضرّت بها، وفيما كانت عشرات العائلات تنتظر انتشال ذويها العالقين تحت أنقاض مساكنهم، أجرى الأسد زيارة هي الأولى له منذ عقد إلى سلطنة عُمان، شكّلت حجر الأساس للمبادرة العربية لحل الأزمة في سوريا.
وتحت غطاء الاستجابة لمنكوبي الزلزال، حطت أكثر من 200 طائرة مساعدات قادمة من دول مختلفة، بعضها لأول مرة، في المطارات الواقعة تحت سيطرة النظام، في حين تجاهلت كثير من تلك الدول عشرات الآلاف من المتضررين بفعل الزلزال في مناطق سيطرة المعارضة، والتي كان واضحًا أنها أقرب لمركز الزلزال والمحنة فيها أشد وأقسى.
في تلك الأثناء، بدا وكأن الدول الراغبة بتطبيع علاقاتها مع الأسد، لكنها تتمنّع خشية ردود الفعل الدولية، قد وجدت ضالتها في الزلزال الذي سيعطيها المبرر الأخلاقي، لتخطو خطواتها الأولى بذلك الاتجاه وإعلانه على الملأ.
على أن التطور الأبرز في هذا الملف أحدثته السعودية حين غيّرت سياستها تجاه الملف، وترجمت ذلك بخطوات متسارعة تمثلت بتصريحات وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، ومن ثم زيارته إلى سوريا وتوجيهه دعوة لبشار الأسد لحضور القمة العربية في جدة.
كانت تلك ذروة الموجة، اللحظة التي انتظرها بشار الأسد وتمناها لسنوات لكسر اللفظ الدولي لشخصه ونظامه، لكن الآن وقد فتحت الأبواب والأحضان، وأبدى القوم علامات الترحيب، بات واضحًا أن العالم العربي جاد في مساعيه لتطبيع العلاقات مع دمشق.
لكن الزمن توقف عند تلك اللحظة، وخمدت الذروة.
موجة أعقبها هدوء
يرى الباحث في الشأن السوري سنان حتاحت، أن المعرقل الأساسي لعدم تطور مسار التطبيع العربي مع النظام إلى مرحلة أبعد من إبراز حسن النوايا وعودة العلاقات الدبلوماسية، هو عدم ترجمة الإرادة السياسية لخطط قابلة للتنفيذ على الواقع ومرضية للأطراف.
وحسب ما تحدث حتاحت لـ”نون بوست”، فالدول الأطراف في ملف التطبيع مع النظام لديها أجندة مختلفة ودوافع مغايرة تجعلها منخرطة في هذا المسار، إذ يصنّفها الباحث إلى دول وسيطة كالأردن ومصر وسلطنة عُمان التي تحاول لعب دور إقليمي أكبر، وتبحث عن صيغ عربية للتعامل مع نظام الأسد، مستخدمة أدوات سياسة ناعمة متمثلة بالتشديد على تطبيق القرارات الدولية كالقرار الأممي 2254، وهي بدورها غير قادرة على تحقيق فائدة مباشرة في هذا الملف.
وأصيلة كالسعودية التي أخذت دورًا محوريًّا باستضافتها الأسد في القمة، والإمارات التي تقود الملف وتحاول إعادة النظام إلى المجتمع الدولي، عبر إيجاد المناخ المناسب من خلال تقديم مبادرات عديدة، كتسديد بعض الديون المترتبة عليه ولعب دور الوسيط بإفراج معتقلين من سجونه.
تتعامل السعودية مع الملف السوري بدرجة ثانية من الأهمية، ولا ترى فائدة أمنية أو اقتصادية ترجى سواء من مقاطعة أو مصالحة النظام، وليس لديها استراتيجية واضحة للاستفادة من الوضع في سوريا.
يتفق مدير مركز جسور للدراسات، محمد سرميني، مع حتاحت في أن الدول العربية لديها دوافع مختلفة للتطبيع مع النظام، ويسقط ذلك على نموذجَي الأردن والسعودية، إذ يذهب إلى أن “عمّان تحرص على وقف التهديدات الأمنية القادمة من الحدود السورية، المتمثلة بتهريب المخدرات والأسلحة إلى الداخل الأردني، وتسعى لتحقيق مكاسب اقتصادية من خلال ضمان عودة تشغيل خطوط الترانزيت التي تربط أوروبا بالخليج، مرورًا بتركيا ثم سوريا ثم الأردن”.
واستدرك سرميني بأن “تحقيق أهداف الأردن يتطلب تجاوبًا من روسيا، التي تسيطر إلى جانب النظام على المناطق المحاذية للحدود السورية الأردنية، مقابل ثمن سياسي يتم دفعه، وهو التطبيع مع النظام والعمل على إعادة تعويمه”.
أما دوافع السعودية في الانخراط بالتطبيع فتتمثل في سياستها الخارجية التي تبنتها مؤخرًا، والمتمثلة بخفض التصعيد في مختلف مناطق الصراع مع إيران بعد التفاهمات الأولية التي أجرتها مع طهران، وبالتالي تخفيض التصعيد في الساحات التي تتواجد إيران فيها في المنطقة، بما في ذلك سوريا والعراق ولبنان.
يستبعد سرميني أن يكون التطبيع السعودي مع النظام مرتبطًا بإجراء تطبيع شامل فعلي معه، إنما يرجع سبب الحماسة السعودية تجاه هذا الملف قبيل القمة العربية إلى رغبتها في تحقيق إعادة سوريا إلى الجامعة العربية في أراضيها.
وتتعامل السعودية مع الملف السوري بدرجة ثانية من الأهمية، ولا ترى فائدة أمنية أو اقتصادية ترجى سواء من مقاطعة أو مصالحة النظام، وليس لديها استراتيجية واضحة للاستفادة من الوضع في سوريا، وهدفها من إظهار حسن النوايا يكمن في عرقلة أي اتفاق قد يضرّ بمصالحها مستقبلًا، دون الاضطرار للعب دور فاعل في المرحلة الحالية، وفق ما ذكر الباحث سنان حتاحت.
تطبيع مجاني
اتّبع النظام منذ بداية الثورة السورية استراتيجية عدم تقديم التنازلات، فخلال أكثر من عقد من الزمن تمسّك بكرسي الحكم قاضيًا على كل محاولات الإصلاح السياسي، بمنهجية وحشية حصدت أرواح آلاف السوريين، ولن “يصوم اليوم كله ويفطر على بصلة” الآن وقد مرّت سنوات على عزلته وطرده من المجتمع الدولي.
منذ بداية موجة التطبيع التي قدّمت للنظام فرصة للعودة إلى الساحة الدولية، لم يتقدم أي خطوة باتجاه الحل السياسي، ولم يبدِ نيته بتنفيذ مبادرة “خطوة بخطوة” التي طرحها الأردن، ما أخفض الحماسة التي تعتري الدول العربية حول التطبيع معه.
إذ يؤكد سرميني أن “الأردن غير مستعد للمضيّ بعيدًا في مسار التطبيع مع النظام، دون تقديم الأخير لتنازلات حقيقية، خاصة فيما يتعلق بتهريب المخدرات، وإبعاد إيران وحلفائها عن الحدود الجنوبية”.
ويعلن الأردن بشكل متكرر إحباط محاولات تهريب مخدرات عبر حدوده مع سوريا، والغالبية متجهة إلى الدول الخليجية، إذ كان آخر هذه المحاولات قبل عدة أيام، حيث أعلن الجيش الأردني أنه أسقط طائرة مسيّرة تضمّ كمية من مادة الكريستال المخدرة قادمة من سوريا.
وذلك بعد يوم من اجتماع للجنة مشتركة أردنية سورية في عمّان، بحث في مكافحة تهريب المخدرات، ما يظهر عدم جدية حكومة النظام للحد من تدفق المخدرات إلى الأردن، خصوصًا في الوقت الذي يعاني فيه من أزمة اقتصادية خانقة.
يشير الباحث سنان حتاحت إلى أن مسار التطبيع مع النظام يراوح مكانه، كونه “يصطدم بملفات تقنية تتطلب من النظام تقديم حلول لها، سواء على مستوى عودة اللاجئين أو مكافحة المخدرات أو التخفيف من دور نفوذ الميليشيات”.
وتعدّ إيران صاحبة أكبر انتشار عسكري في سوريا بواقع 570 نقطة عسكرية، وآلاف الميليشيات التي تسيطر على مناطق سورية مختلفة، وهو ما يزعج الدول الخليجية التي تحاول تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة.
الموقف الغربي عقبة أمام العرب
“مسار التطبيع العربي محكوم بالمشهد الدولي، فالدول العربية لا تستطيع تقديم الدعم للنظام أو بناء علاقات تجارية فاعلة معه، في ظل وجود العقوبات الدولية والأمريكية”، هكذا وصف سرميني مصير ملف التطبيع، مشيرًا إلى الدور الغربي المناهض.
ويقف قانون عدم مساعدة الأسد المعروف بـ”قانون قيصر” في وجه محاولات الاستثمار العربي في سوريا، لأنه يمنع كل محاولات إعادة الإعمار ويحظر قيودًا على التعامل مع الشركات والأفراد المرتبطين به.
وأقرّ مجلس النواب الأمريكي في مايو/ أيار الماضي مشروع قانون لمناهضة التطبيع مع نظام الأسد، كردّ فعل على الخطوات العربية المتسارعة حينها للتطبيع مع النظام، وينص التشريع على تمديد مدة تطبيق “قانون قيصر” حتى 31 ديسمبر/ كانون الأول 2032، وعلى توسيع قائمة العقوبات التي يجب أن تفرضها الإدارة، لتشمل التعامل مع الممتلكات المصادرة أو المأخوذة من قبل النظام.
أثبت النظام السوري مرة أخرى أن التقرب منه كالولوج إلى صحراء قاحلة، طعامها -إن وُجد- لا يسمن ولا يغني من جوع.
وفي منتصف يوليو/ تموز الماضي، وصلت نسخة موازية من المشروع المذكور آنفًا إلى مجلس الشيوخ الأمريكي وبانتظار المصادقة عليه، الأمر الذي وصفه مراقبون بالخطوة المهمة لثني الدول عن التعامل الاقتصادي مع النظام.
ليست الولايات المتحدة فحسب، بل الدول الأوروبية أظهرت بشكل صريح رفضها التطبيع العربي مع النظام، وتمثّلَ ذلك بتأجيل اجتماع وزاري عربي-أوروبي كان من المقرر عقده في أواخر يونيو/ حزيران الفائت، وذلك بسبب قرار الجامعة العربية بعودة سوريا وفق بيان صادر عن الاتحاد الأوروبي.
يؤكد سنان أن العقوبات الغربية وموقفها الرافض للتطبيع أثّرا على المسار ككلّ، لكن لم يشكّلا رادعًا للدول في إعادة علاقاتها مع النظام، إنما ساهما في إفشال المساعي العربية للاستفادة من التطبيع.
أثبت النظام السوري مرة أخرى أن التقرب منه كالولوج إلى صحراء قاحلة، طعامها -إن وُجد- لا يسمن ولا يغني من جوع، فانتهى بالدول العربية المنخرطة بمسار التطبيع أن “خرجت من المولد من دون حمّص”، والتغيير الوحيد الذي أحرزته هو إضافة وصمة عار جديدة على جبينها، بتطبيع علاقاتها مع نظام وحشي عكف على تدمير بلاده وأزهق أرواح شعبه في سبيل البقاء في سدة الحكم.