في قرية برطباط الجبل بمركز مغاغة شمال محافظة المنيا صعيد مصر، ترعرع الشاب محمود يوسف في بيئة اعتبرها قاسية، إذ كان ككل الأطفال في سنه مُجبرًا على مساعدة والده في الحقل لتوفير ثمن العمالة، ولم تكن هناك أي وسائل ترفيهية يمكن أن تخرجه من عناء ومشقة الأيام الحافلة بمهام الزراعة.
كانت وسيلته الوحيدة للترفيه هي الأفلام والمسلسلات التي يُشاهدها في تلفاز الجيران، فيُطلق حينذاك لخياله العنان ويعيش مع أبطال الأعمال التليفزيونية تلك، فتخيل نفسه ضابطًا يُلقي القبض على المجرمين بعد مطاردات عنيفة، ثم تقمص شخصية رجل أعمال لديه من الحياة المُترفة الكثير ومن النعم التي فقدها الطفل الصغير في حياته الحقيقية، فكان خياله يأخذه ليرى نفسه نجمًا سينمائيًا.
تمر السنوات، وتأتي الفرصة التي لطالما تمناها محمود ليُشارك كـ”كومبارس” في أحد الأعمال التليفزيونية مع الفنان عادل إمام، وبالصدفة تحقق حلمه بأن يقف أمام الكاميرات لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فالنجومية التي كان محمود يحلم بها لم تتحقق، فليس لديه “واسطة” أو “معرفة” تجعله من نجوم الصف الأول أو حتى الثاني، بحسب حديثه لـ”نون بوست”، لذا قرر العودة إلى قريته مرة أخرى، وترك القاهرة دون عودة، تركها لكنه لم يترك حلمه في أن يكون ممثلًا.
أهل مكة أدرى بشعابها
لصعيد مصر طبيعة خاصة بعاداته وتقاليده ومشكلاته وحتى لهجته، لذا دائمًا ما نواجه رفضًا من أهله لبعض المسلسلات الدرامية التي تتناول في جزء منها حياة أهله، وهو ربما ما تجسد في بعض الأزمات التي صنعتها بعض الأعمال الفنية ورفضها أهل الصعيد باعتبارها غير مُعبرة عن واقعهم الفعلي، وكان أهمها مُسلسل “نسل الأغراب” في عام 2021 من بطولة أحمد السقا وأمير كرارة ومي عمر.
وانطلاقًا من المثل الحجازي القائل “أهل مكة أدرى بشعابها”، حاول بعض الشباب في عدة مدن بصعيد مصر تجسيد واقع “الصعايدة” من خلال أعمال درامية خاصة بجهود وإمكانات متواضعة، لكنها حققت نجاحًا وجماهيرية كبيرة.
من ضمن هؤلاء الشباب كان محمود يوسف الذي فشل في تحقيق حلمه بالقاهرة واتجه لإنتاج عدة أعمال درامية بمساعدة أهل قريته وبإمكانات زهيدة، ليعبر عن الصعيد وناسه، وعبر منصات التواصل الاجتماعي خرج مسلسله الدرامي الأول “الحجايرة غرب”، كأول مسلسل درامي صعيدي يُعرض عبر منصات التواصل الاجتماعي.
ربما للوهلة الأولى عندما تشاهد أحد تلك الأعمال أو تسمع أغنية دعائية لها أو تشاهد البرومو الدعائي لها بما يضمه من فريق متكامل من كتابة سيناريو وإخراج وتصوير ومونتاج، تعتقد أن هناك شركات إنتاج كاملة تقف خلف تلك المسلسلات، لكن عندما تقترب أكثر من صنّاعها تتفاجأ أنها أُنتجت بجهود ذاتية اعتمادًا على مواهب شباب الصعيد فقط في الكتابة والإخراج والتصوير.
أحد تلك النماذج التي حققت نجاحًا كبيرًا بدأها الشاب الأقصري سيد داوود المطعني، فرغم تخرجه في كلية الحقوق، تميز في الكتابة الأدبية وله العديد من الروايات المنشورة التي حققت انتشارًا كبيرًا على وسائل التواصل الاجتماعي، ولأن المطعني كان متابعًا لبعض الأعمال التليفزيونية التي تطرقت لحياة أهل الصعيد، رفع شعار “للصعيد أهل يحميه”، كما يقول في حديثه مع “نون بوست”.
قرر المطعني أن يتحدث عن الصعيد وأهله، فكتب قبل عامين مسلسله الأول “عيال عم عرفة” من 15 حلقة فقط، واعتبره بمثابة “جس النبض” لجمهور وسائل التواصل الاجتماعي، لقياس مدى استعداد الناس في الشارع لمتابعة عمل درامي كامل عبر منصات التواصل الاجتماعي، وبالفعل حقق المسلسل نجاحًا كبيرًا بين أهل الصعيد.
يوضح المطعني قائلًا: “إشادة الناس في الشوارع والمواصلات والطرقات بالمسلسل بعد عرضه، دفعتني لكتابة مسلسلين تاليين، لكن هذه المرة من 30 حلقة، ومؤخرًا عرض مسلسل “أغراب في بيتي”، وحاليًّا يُعرض مسلسل “آخر كرم””.
مضيفًا “الصعيد يحوي زخمًا كبيرًا، فهو ثري بموضوعاته التي يجب أن تُناقش بعيون أهله، لا سيما أن ما يتم عرضه عن الصعيد وأهله لا يُعبر عنهم بشكل حقيقي، وقد حاولت أن أشارك بأعمالي تلك بالتواصل مع شركات الإنتاج الكبرى، لكن للأسف الشديد ليس هناك فرصة حقيقية تُقدم إلا بمعرفة مسبقة بالقائمين على شركات الإنتاج، فالوساطة والمحسوبية تحكم اختياراتهم للأفكار الجديدة، كما أنني لا أعتقد أنهم قد ينتجون مسلسلًا كاملًا يتحدث عن الصعيد وأهله”.
رسالة أم مخاطرة مالية؟
التكلفة الإنتاجية الضخمة للدراما الصعيدية في كثير من الأحيان قد تكون عائقًا أمام تنفيذ عمل فني متكامل يتحدث عن الصعيد، لكن على الرغم من ذلك وبإمكانات متواضعة، تبنى الباحث في العلوم السياسية محمد عاشور فكرة المطعني بضرورة إنتاج مواد درامية تخص أهل الصعيد وحدهم.
لذا قرر عاشور مساعدة المطعني وفريقه إنتاجيًا وتبنى مواهبهم، مُعتبرًا أن الفن وحده القادر على تغيير قناعات الناس نحو قضايا معينة، لذا شارك بماله في إنتاج عمله الأول “أغراب في بيتي”، مستعينًا بعدد كبير من المواهب الشابة بقصور الثقافة في صعيد مصر.
يقول عاشور لـ”نون بوست: “أعتبر أن رسالتي هي تقديم الفرصة للمواهب الشابة التي تكافح لتعريف الناس بموهبتها، هم حققوا نجاحات كبيرة عبر مسارح قصور الثقافة، لكن يظل جمهورهم محدودًا، لذا أحاول أن أساعدهم بالأفكار وبالدعم المادي، فلا يُعنيني ما أدفعه من أموال مقابل تقديم تلك المواهب الشابة للجمهور، وأتمنى أن نحقق أرباحًا من النشر عبر منصات التواصل الاجتماعي، لكي يتثنى لنا إنتاج المزيد من الدراما الصعيدية”.
ويستطرد “حققت ما أرجوه شخصيًا من تغيير قناعات الناس بشأن بعض القضايا مثل عمل بعض الجمعيات الخيرية وكيف تُقدم الصدقات للفقراء من دون جرح كرامتهم، وهو أمر مهم جدًا ونعرضه في مسلسل “آخر كرم” بمعدل حلقة أسبوعيًا”.
التمويل أيضًا كان أحد الأزمات التي واجهت محمود يوسف عندما قرر إنتاج عمله الأول “الحجايرة غرب”، ونجح بمساعدة أهل قريته الذين تبنوا فكرته، وعن هذا يقول: “كان النجاح الساحق لمسلسل “الحجايرة غرب” حافزًا لعدد من المواهب في صعيد مصر للبدء في صناعة أعمالهم الدرامية الخاصة، وأسس هؤلاء بميزانيات ضئيلة لنوع جديد من الدراما المستقلة التي تتحدث عن قضايا شائكة في الصعيد مثل خرافات البحث عن الآثار والثأر وحرمان المرأة من الميراث والعادات الخاطئة تجاه الإناث كالختان والزواج المبكر وغيرها من الموضوعات التي لا تستطيع دراما شركات الإنتاج الكبرى في القاهرة تقديمها بشكل مفصل”.
انتشار وشهرة
بعض المواهب الشابة وجدت طريقها للشهرة من خلال المشاركة في تلك الأعمال، لا سيما أنهم حققوا نجاحًا كبيرًا على خشبة مسارح قصور الثقافة، أو ممن تملكهم حب التمثيل عبر المسرح الكنسي، ومن هؤلاء الممثل الشاب رامز ثابت، الذي يقول في تصريحات لـ”نون بوست” إن دراما منصات التواصل الاجتماعي لها فضل كبير في تحقيق شهرة واسعة له في مجتمع الصعيد.
وتابع “المسرح الكنسي ساعد في صقل موهبتي في البداية، ثم بعد ذلك أعطاني مسرح وزارة الثقافة خبرة التعامل مع الجمهور، وكانت دراما اليوتيوب فرصتي لتحقيق انتشار كبير لي بعد أول أعمالي “زنقة فرج” الذي قدمته في رمضان قبل الماضي”.
ومن محافظة قنا جنوب مصر يتفق الممثل الشاب كريم عطا الله الذي شارك في عدد من الأعمال الدرامية المعروضة على “اليوتيوب” مع نظيره رامز ثابت في أن اليوتيوب كان بوابة الشهرة والنجاح والاحتكاك بشريحة أكبر من الجمهور.
ويتابع عطا الله في حديثه لـ”نون بوست”: “لا أتقاضى أجرًا لمشاركتي في تلك الأعمال، فهي حققت لي شهرة وقاعدة جماهيرية، وأتمنى أن تنافس الدراما التي نقدمها تلك الدراما التي تعرض عبر المنصات الشهيرة”.
دراما قادرة على المنافسة
الشاعر المصري عادل صابر الذي شارك العام الماضي في كتابة مسلسل صعيدي وهو “كرم الحكاوي”، يقول لـ”نون بوست” إن دراما اليوتيوب وغيره من المنصات بشكل عام إذا وجدت الترويج والتسويق الجيد سوف تنهزم أمامها الأعمال التليفزيونية تمامًا.
وتابع صابر “ما نراه من دراما تليفزيونية لا تمت للصعيد بصلة، فهي بعيدة كل البعد عن عاداتنا ولهجتنا، وأعتقد أن هناك أزمة في الذائقة الشعبية نتيجة الإفلاس في الأعمال الفنية، ما يقدمه أبناء الصعيد من أعمال عبر وسائل التواصل الاجتماعي يعبر عنهم وعن صعيدهم هم لا صعيد دراما التليفزيون”.
وتابع “تلك المواهب بإمكانات زهيدة حتى التصوير تم بكاميرا هاتف محمول، ولم يتقاض أحد منهم أجرًا، لكنهم يعشقون جنوبهم، فهم شامخون كنخل الصعيد، لكن رغم ذلك يكافحون لتقديم دراما صعيدية تليق بهم”، مؤكدًا “دراما الصعيد لسان حال كل أهل الصعيد يقولون من خلالها للعالم: نحن هنا”.
غياب العنصر النسائي
بعيدًا عن التكلفة الإنتاجية الضخمة التي يحتاجها أي عمل درامي متكامل، هناك العديد من العقبات الأخرى منها عدم وجود العنصر النسائي في العمل الفني، وهذا يرجع إلى طبيعة المجتمع الصعيدي الذي ما زال يرفض عمل المرأة في التمثيل بوجه خاص.
وعن تلك الإشكالية يقول الشاعر عادل صابر: “العمل الذي قدمته لم يخرج بالشكل الذي يُرضيني بسبب غياب العنصر النسائي، وهو ما اضطر المخرج للابتعاد قدر الإمكان عن الحكايات التي تحتاج لوجود أنثى، لذا خرج العمل مترهلًا”.
ويشرح “رغم وجود المواهب النسائية الشابة، فإن المجتمع الصعيدي يرفض ذلك، وقد تُقتل الفتاة إذا خرجت في عمل وقال لها شاب “بحبك””.
ويتفق معه في الرأي الكاتب سيد داوود المطعني الذي أكد أنه في الأعمال التي قدمها طُلب منه تنحية العنصر النسائي، لكنه يتحايل على ذلك بوصف البطلة على لسان أحد أبطال العمل ويجعلها موجودة طوال الحلقات دون ظهور حقيقي لها.
جماهيرية محلية
الصحفي محمود الدسوقي، وهو مهتم بظواهر اليوتيوب الصعيدي يقول لـ”نون بوست” إن ما يُقدم عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي من دراما صعيدية هي فقط تخص أهل الصعيد وتناقش قضايا تشغلهم مثل الاختلاف بين جيل الكبار والجيل الحاليّ وخرافات البحث عن الآثار وغيرها.
ويتابع “ما تقدمه تلك الدراما يُقبل عليها جمهور الصعيد، فهم يناقشون قضايا المجتمع المحلي التي لا يمكن أن تناقشها الدراما التليفزيونية، وأتمنى أن تساعد نقابة الممثليين تلك المواهب بورش تمثيل مجانية لأنهم يقدمون برأيي فنًا حقيقيًا”.
بخلاف كل ما سبق، يتمنى الشاب محمود يوسف أن تقدم الدولة دعمًا لفناني الصعيد بالاهتمام بقصور الثقافة، ويوضح: “كان من المفترض تخصيص قطعة أرض لبناء قصر ثقافة داخل قريتنا “برطباط” لكن للأسف بدلًا من بنائه تم تحويله لإنشاء محطة للصرف الصحي، فهل يُعقل هذا”.