ترجمة حفصة جودة
الوصول إلى منبع نهر دجلة ليس بالمهمة الهينة، فبعد أن ينتهي الطريق الترابي، يقودنا ممر صغير إلى قمة الجبل المسنن الذي شُذبت رؤوسه لتبدو مثل أظفار الأصابع، أصبح الممر طريقًا للماعز وضيقًا بشكل خطير، حيث يلتف حول جانب التل حتى يتوقف عند مصبات الينابيع، هذا التدفق الغزير يختفي عند النفق الواسع المحدب حيث يظهر النهر الوليد بعد 1.5 كيلومتر.
اعتقد الآشوريون قديمًا أن هذا المكان التقى فيه العالمان المادي والروحي، قبل 3 آلاف سنة، سافرت جيوشهم إلى منبع النهر لتقديم القرابين، وما زالت نقوش الملك الآشوري تغلث فلاسر – من عام 1114 حتى 1076 قبل الميلاد – قائمةً عند مصب النفق، ربما تأثر وضوحها بمرور الوقت، لكنها ما زالت قائمة وملكية تشير إلى إمبراطوريته.
يقع منبع النهر الآن فيما تُعرف اليوم بتركيا، حيث يتدفق جنوب شرق جبال طوروس، فيتسلل من منطقة ضيقة شمال شرق سوريا ثم يمر عبر الموصل وتكريت وسامراء حتى يصل إلى بغداد.
في جنوب العراق، تتشرب الأهوار الشاسعة لبلاد ما بين النهرين نهر دجلة قرب نقطة التقائه مع نهره الشقيق الفرات، ليصبان معًا في الخليج العربي.
قبل نحو 8 آلاف عام، استقر أسلافنا الصيادون في السهل العظيم بين هذين النهرين وقاموا بالزراعة وتربية المواشي، لينشأ ما أطلق عليه الكثيرون “مهد الحضارة”، وفي تلك المدن القديمة التي عُرفت باسم إريدو وأور وأوروك اختُرعت العجلة والكلمات المكتوبة، وكذلك الأنظمة القانونية والمراكب الشراعية وأغاني الحب.
ومع ذلك، وبسبب عقود من الصراعات في العراق اليوم، فقد نُسيت حقيقة أن نهر دجلة شكّل وحرس تراثنا الإنساني المشترك.
في عام 2011 خضت رحلة مدتها 10 أسابيع وطولها ألفي كيلومتر مع فريق صغير برًا وبحرًا، من منبع دجلة حتى مصبه في الخليج العربي، وقد أخبرني أحد المستشارين أن هذه الرحلة لم يقم بها أحد غالبًا منذ العصر العثماني.
كان هدفي من الرحلة توضيح الأهمية التاريخية للنهر ونشر قصته عن طريق الأشخاص الذين يعيشون على ضفتيه، وكذلك التحقيق في المخاطر التي تهدد مستقبله، فقد أدت مجموعة من الاضطرابات الجيوسياسية وسوء إدارة المياه وتغير المناخ إلى إعلان البعض بأن هذا النهر العظيم يموت.
تمنيت أن تكشف رحلتي العظمة التي خرجت من هذه الأرض، وما سنخسره إذا جف هذا النهر الذي كان مهدًا للحضارة.
على بُعد 8 كيلومترات من منبع النهر في مدينة إيجل بتركيا، يقع حصن قلعة آشورية، عدّله اليونانيون والأرمانيون والبيزنطيون والرومان والعثمانيون الذين استوطنوا جميعًا ضفاف النهر.
وفي ديار بكر بتركيا يقع حصن آخر منذ العصر البرونزي، تعتبر المدينة اليوم العاصمة الفعلية لسكان تركيا من الأكراد، وفي أزقتها الملتوية، جلسنا للراحة في فناء من أحجار البازلت تحت ظلال شجر التوت تحيط بنا الأصوات التي تتردد بين الجدران.
هناك جلست سيدة ترتدي سترة صوفية على مقعد خشبي وقد وضعت يدها اليمنى حول أذنها، كان اسمها فيليكناز أصلان، ولمدة 30 دقيقة سحرتنا بصوتها، كانت أصلان مغنية روائية كردية تروي تاريخ أجدادها وقصصهم الشعبية.
غنت أصلان عن قصة حب حُكم عليها بالفشل على ضفاف دجلة، تقول أصلان إن معظم المغنيين الشعبيين الآن رجال، لكن هذه الممارسة اخترعتها النساء أولًا، وقد كانت طريقة لحفظ الهوية والثقافة، كما كان نهر دجلة خلفية مشتركة لتلك الأغاني، باعتباره سمة أساسية لحياة الأكراد في المنطقة.
في جنوب شرق ديار بكر، يحفر نهر دجلة جدولًا عميقًا خلال منطقة طور عابدين عند جبال طوروس في تركيا، ولقرون كانت هذه المنطقة قلب الكنسية الأرثوذكسية السريانية القديمة التي تعود أصولها لبداية المسيحية.
هناك تسلقنا دير “مور إيفجين” الذي يعود عمره إلى 4 قرون والمعلق على حافة الجرف كأنه معلق بالإيمان وحده، في صحن الدير، ما زال الجص الذي وضعه أوائل المسيحيين في العالم موجودًا على الجدران، ولا تزال كتابات السريانية على الجدران أيضًا.
سافرنا عبر القارب كلما كان ممكنًا رغم أن الوصول إلى نهر دجلة كان صعبًا في كثير من الأحيان، في تركيا، كان الإبحار في النهر صعبًا بسبب مشاريع السدود، وفي سوريا يعد النهر حدودًا دولية، حتى وصلنا إلى الموصل التي يقسمها النهر إلى نصفين، هناك أخيرًا تمكنا من السفر بحرية.
عندما احتلت داعش الموصل من 2014 وحتى 2017، منعت السكان من استخدام النهر، وأصبحت مدينة الموصل القديمة الواقعة على الضفة الغربية للنهر الملاذ الأخير للجماعة، في أثناء القتال دُمرت جميع الجسور المبنية فوق النهر وقفز الكثير من الجهاديين في النهر محاولين الهرب في أثناء المعركة الأخيرة.
في اللغة العربية تعني كلمة “الموصل” نقطة الربط، ربما لأن المدينة كانت على مفترق طرق التجارة ومركزًا رئيسيًا على طول النهر بين ديار بكر والبصرة، تأسست المدينة في القرن السابع قبل الميلاد وهي واحدة من أقدم مدن العالم.
وصلت المدينة إلى أوجها في القرن الـ12 ميلاديًا، ولم يكن نفوذها محليًا فقط بل كانت مركزًا للتنوع الديني والعرقي، هذا التنوع الثقافي خلق مساحة ثقافية غنية، ورغم أن داعش دمرت الكثير من البلدة القديمة، فإن روح المدينة ما زالت باقية.
يقول سلمان خير الله مؤسس مشارك لرابطة “حماة نهر دجلة” ورفيقنا في الرحلة: “يعتقد الناس أنه لم يبق لنا شيء، لكن هناك الكثير من الأشياء الناجية على طول نهر دجلة، والأهم من ذلك أن العراقيين يعيدون البناء دائمًا، فنحن لا نقبل بالدمار”.
في الموصل، أُعيد بناء جامع النوري الكبير الذي يعود تأسيسه إلى القرن الـ12 من خلال منحة ضخمة قدمتها اليونسكو والإمارات، وفي مقابل جامع النوري يقع مبنى “بيتنا” وهو منزل عثماني جديد جدده الشباب الفنانون في الموصل وحولوه إلى متحف متعدد الأغراض ومقهى ومنطقة اجتماعية.
تقول سارة سالم الدباغ أحد مؤسسي المكان: “لا نريد أن ينسى الناس ما حدث هنا، لكننا أردنا أيضًا أن نخلق فرص عمل ومكانًا لدعم أصحاب المهارات”.
بعد ذلك حملنا النهر إلى مدينة آشور أول عاصمة للإمبراطورية الآشورية حيث تلوح الزقورات (معابد) التي يعود عمرها لأكثر من 4 آلاف عام، وفي الصحراء تقع مدينة نمرود آخر عاصمة آشورية ومملكة الحضر التي يعود عمرها لنحو ألفي عام.
دمرت داعش المدن الثلاثة، لكن فريق من علماء الآثار المحليين الأبطال يبذلون ما بوسعهم لحماية تلك المواقع رغم الموارد الشحيحة المتاحة.
في تلك المنطقة التي تتصدر الأخبار العالمية بسبب حروبها، كان أكثر الانطباعات التي أسرتني هو كرم الضيافة، فحتى في شهر رمضان، كانوا يقدمون لنا واجب الضيافة رغم أنهم صائمون، وقد انتهى مصير العديد من الماعز المساكين على قمة طبق كبير من الأرز في ولائم فخمة.
في قرية كفري، أخبرنا العمدة كيف قام راعيان شابان بتهريب المدنيين عبر النهر من المناطق التي تسيطر عليها داعش إلى مناطق آمنة ليلًا وذلك باستخدام القناة الداخلية للجرار فقط.
لقد وجدت أن كل هذا القدر من العنف لم يؤثر على رغبة السكان في مساعدة الغرباء وكرمهم الشديد، كان نهر دجلة شاهدًا على كل هذه القصص وبدا كأنه حد فاصل بين الحياة والموت، ووسيلة كذلك لكثير من الأعمال العظيمة الطيبة.
قضينا يوم الأحد مع المندائيين، وهم أصغر وربما أقدم مجموعة عرقية دينية في العراق، يعتقد المندائيون أن نهر دجلة مصدر مقدس للحياة، وعلى عكس المسيحيين الذين يُعمدون مرة واحدة، فإن المندائيين يعمدون بانتظام.
وقد رأيت الكاهن وهو يقود 8 سيدات إلى نهر دجلة حيث يغمرهن في المياه ثم يهمس بالصلوات مستخدمًا اللغة المندائية (وهي لهجة آرامية قديمة) التي لا يتحدثها غيرهم، وقد أخبرني مساعد الكاهن أن هذا الماء هو نفسه الماء الذي سيكون موجودًا في العالم الآخر.
هذا النهر الذي يعتمد عليه المندائيون وغيرهم من المجتمعات أصبح في خطر، لكن النشطاء مثل خير الله وعلماء آثار آشور وفناني الموصل يحاولون استعادة ثقافتهم، إنهم حراس دجلة وليسوا مستعدين للتخلي عنه.
عندما سألت خير الله عن مستقبل النهر قال ببساطة: “يملك العراقيون الأمل دائمًا، وأيًا كا ما فعلته الأجيال السابقة، يمكننا أن نحقق التغيير دائمًا”.
المصدر: بي بي سي