أثارت تصريحات زعيم بوركينا فاسو، الجنرال إبراهيم تراوري، على هامش القمة الروسية الإفريقية الثانية التي احتضنتها مدينة سان بطرسبورغ قبل أيام، بحضور 17 رئيس دولة إفريقية (نصف العدد الذي شارك في قمة سوتشي 2019)، إعجاب الكثير من الحاضرين، الذين تفاعلوا مع محتواها الذي يعزف على وتر النهوض بالقارة الإفريقية.
تراوري المولود في بلدة بوندوكي بمحافظة موهوم (شمال غرب العاصمة واغادوغو) لعائلة مسلمة من قبائل ديولا، عام 1988، وجه في تلك الكلمة رسالة إلى شباب إفريقيا قال فيها: “أنا أتحدث باسم جيل الشباب.. هذا الجيل يضطر أحيانًا لعبور بحار ومحيطات كي يصل لأطراف أخرى في العالم من أجل حياة أفضل”.
ثم جاء موقفه الأخير بشأن التحذير من التدخل العسكري في النيجر لمواجهة الانقلاب الذي شهدته مؤخرًا وأسفر عنه احتجاز الرئيس المنتخب محمد بازوم، ليزيد من وهج الأضواء حوله، معتبرًا أن أي تدخل خارجي بمثابة حرب على بلده ومالي معًا، يستوجب المواجهة العسكرية، في رسالة واضحة لفرنسا والقوى الغربية والإفريقية الرافضة للانقلاب.
قبل 14 شهرًا تقريبًا لم يكن اسم تراوري مطروحًا على قائمة الاهتمامات الإعلامية والسياسية، لا في إفريقيا ولا خارجها، إذ كان أسير وظيفته كضابط برتبة نقيب لا يسمع عنه أحد، لكن منذ أكتوبر/تشرين الأول 2022 تحول الجنرال الشاب إلى حديث الساعة، بل إن البعض يشبهه بزعيم بوركينا فاسو الثوري المعروف “توماس سانكارا”.
داعم للانقلاب
في مساء 30 سبتمبر/أيلول 2022 دخل تراوري العاصمة واغادوغو على ظهر دبابة برفقة 15 عسكريًا، وأطاح برفيقه السابق الجنرال بول هنري داميبا، من منصبه كرئيس انتقالي للبلاد، ونصب نفسه بدلًا منه رئيسًا للسلطة عن عمر لم يتجاوز 34 عامًا ليصبح بذلك أصغر رئيس دولة في العالم.
وقبل ذلك بعشرين شهرًا تقريبًا كان تراوري رفقة داميبا شركاء الانقلاب الذي قاموا به في 24 يناير/كانون الثاني 2021 وأطاحوا حينها بالرئيس المنتخب روش مارك كريستيان كابوري، لتمر الأيام وينقلب الصديق على صديقه في تحرك ليس هو الأول من نوعه في قارة الانقلابات الإفريقية.
قبل هذا التاريخ ما كان يعرف أحد أي شيء عن تراوري الذي تحول بين ليلة وضحاها من ضابط نقيب إلى رئيس دولة، متعهدًا بإخراج مواطنيه من أزمتهم الاقتصادية والسياسية الخانقة التي تخيم عليهم منذ 2015 وزجت بالملايين منهم إلى آتون الفقر والعوز.
ومنذ ذلك الوقت يحاول الجنرال الشاب المنقلب تصدير صورة إيجابية عن حراكه ضد رفيقه السابق، ومن قبله ضد رئيس بلاده المنتخب، مبررًا ذلك بأن الفشل في القضاء على الإرهاب والجماعات الأصولية المسلحة، فضلًا عن الأوضاع المعيشية المتردية كان الدافع الأبرز وراء هذين الانقلابين الذي يفصل بينهما أقل من عامين.
وبهذا الانقلاب انضم تراوري رسميًا إلى قائمة الجنرالات المنقلبين حديثي السن في القارة وعلى رأسهم مامادي دومبويا (24 عامًا) في غينيا والجنرال عاصمي غوتا (40 عامًا) في مالي، وإن تفوق عليهم من حيث التأثير والحضور، نظرًا للخطاب الإعلامي والسياسي المقنع الذي يمارسه إزاء شعبه المقتنع به بشكل كبير.
ونظرًا لأن كونه منقلبًا، واستولى على السلطة بشكل غير قانوني، فبطبيعة الحال سيكون داعمًا للانقلابيين في أي مكان، وهو ما بدا واضحًا من خلال دعمه لانقلاب النيجر الأخير، حيث أصدر ونظيره في مالي بيانًا مشتركًا حذرا فيه من أن أي تدخل عسكري في النيجر لإعادة الرئيس المحتجز محمد بازوم (المدعوم من فرنسا) للحكم مجددًا سيكون بمثابة “إعلان حرب على بوركينا فاسو ومالي”، وذلك ردًا على تلويح قادة دول غرب إفريقيا باستخدام “القوة” في اجتماع عقد الأحد 30/6/2023 في العاصمة النيجيرية أبوجا.
ويحرص تراوري خلال ظهوره إعلاميًا على ارتداء زيه العسكري بالكامل، حيث القبعة الحمراء والخصرة المحاطة بالرصاص من كل جانب، فضلًا عن ارتداء العديد من أجهزة الاتصال اللاسكلي فوق صدره، في محاولة لترسيخ صورة الجندي المقاتل في أذهان مواطنيه، كنوع من الاستمالة والترهيب في آن واحد.
حليف لروسيا
منذ الوهلة الأولى لانقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2022 لم يخف تراوري دعمه لموسكو، بل عبر عن ذلك بشكل علني، معتبرًا أن الانتقال من الغرب إلى الشرق مناورة سياسية ستعود على بلاده بالنفع في ضوء حرب الاستقطابات المشتعلة التي يجب أن يغلب عليها الطابع الميكافيللي.
ففي حديث له مع إذاعة فرنسا الدولية في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2022 قال إن بلاده ترتبط بعقد عسكري مع روسيا وتستخدم عتادها بكثرة، لافتًا أنها ستكون حليفًا قويًا لموسكو، فيما وصفت مجموعة “فاغنر” ترواري بعد الانقلاب بـ”الشجاع والابن البار” لبوركينا فاسو، مؤكدة استعدادها للعمل معه، فيما كتب مؤسس المجموعة، بريغوجين، على منصات التواصل الاجتماعي قائلًا إن انقلاب تراوري ورفاقه كان “ضروريًا”، وإنهم “قاموا به فقط من أجل مصلحة شعبهم”.
تراوري في حديثه مع الإذاعة الفرنسية حين سئل عن شراكات بلاده الدولية بعد الانقلاب قال صراحة: “أعرف أن فرنسا لا يمكنها التدخل مباشرة في شؤوننا (..)، أما الأمريكيون فهم شركاؤنا حاليًّا، لكن يمكننا أيضًا أن نقيم شراكة مع روسيا”، وهو التوجه الذي سلكه الجنرال غوتا في مالي، الذي استعاض بالروس بدلًا من الفرنسيين.
وفي كلمته قبل أيام على هامش القمة الروسية الإفريقية قال الجنرال البوركيني إن بلاده “لديها تاريخ مشترك كبير مع روسيا”، كما وجه الشكر إلى القيادة الروسية لأنها دائمة التذكير بالدور الإفريقي ودور شعوب القارة، مضيفًا “لدينا أبعاد وآفاق مشتركة واعدة وأتمنى بأن هذه القمة تمكننا من إقرار المنظومة العالمية العادلة وإقامة جسور التعاون بين دولنا”.
وتشير الكثير من التقارير والتقديرات إلى تورط الأصابع الروسية في الانقلاب الذي قام به تراوري في بوركينا فاسو قبل عام وما حدث في النيجر قبل أيام، وهو التوجه الذي أكده أكثر من خبير ومحلل بشأن تعزيز نفوذ روسيا في دول الساحل والصحراء في غرب إفريقيا على حساب الدور الغربي.
مناهض لفرنسا
بعد أقل من أربعة أشهر على الانقلاب قرر تراوري طرد القوات الفرنسية من بلاده في غضون 30 يومًا من تاريخ 21 يناير/كانون الثاني 2023، وذلك بعد 3 أيام فقط من تعليق الاتفاق العسكري الموقع مع فرنسا في 17 ديسمبر/كانون الأول 2018 الذي يسمح بوجود القوات الفرنسية في واغادوغو.
القرار المفاجئ جاء بمثابة تصعيد رسمي للدولة البوركينية في ثوبها الانقلابي الجديد تجاه فرنسا التي توترت العلاقات معها منذ الانقلاب الأول في يناير/كانون الثاني 2021 ثم الثاني في نهاية سبتمبر/أيلول وبداية أكتوبر/تشرين الأول 2022، الأمر الذي زاد من وتيرة الغضب والاحتقان الشعبي ضد سياسات باريس في غرب القارة.
الأمر ازداد تعقيدًا حين وجهت الحكومة الفرنسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 اتهامًا للسلطة الانتقالية في بوركينا فاسو بالفشل في توفير الحماية للسفارة الفرنسية في واغادوغو، على خلفية هجوم عدد من المحتجين عليها، وهو ما أثار حفيظة الحكومة الانتقالية في البلد الإفريقي التي طالبت بتغيير السفير الفرنسي في ديسمبر/كانون الأول 2022 قبل أن تطرده في أوائل العام الحاليّ، لتدخل العلاقة بين البلدين نفقًا مسدودًا، ثم جاءت التحذيرات الأخيرة بشأن التدخل العسكري في النيجر، في إشارة إلى فرنسا ومجموعة إيكواس، لتؤكد حجم التوتر الذي بدت عليه العلاقات الفرنسية البوركينية.
كانت باريس تراهن على السلطة الانقلابية في بوركينا فاسو لوقف نزيف تراجع النفوذ في منطقة دول الساحل، حيث تعرضت لضربات مؤلمة في غينيا ومالي، وفقدت العديد من حلفائها في المنطقة مثل إبراهيم كيتا وكريستيان كابوري وألفا كوندي إلى جانب الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن الفرنسية.
وفي قراءة أخرى لانقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2022 الذي قام به تراوري ضد صديقه داميبا، يميل البعض إلى وصف ما حدث بأنه حلقة داخل صراع الضباط في الجيش البوركيني، صراع أجنحة كما يسميه البعض، لكنه مغلف ببعد سياسي في المقام الأول.
فتراوري خريج “أكاديمية جورج ناموناو العسكرية” التي أسسها الزعيم الثوري توماس سانكارا عام 1984 لتكون بديلًا لـ”الأكاديمية العسكرية في كاديوكو” التي أسستها فرنسا عام 1951، وهي التي تخرج فيها الجنرال بول هنري داميبا، الذي أطيح به في الانقلاب الأخير.
وجرى العرف على أن يتعامل خريجو الأكاديمية الفرنسية “الأكاديمية العسكرية في كاديوكو” على أنهم نبلاء القوم ونخبته، فهم الأسرع في الترقي، الأكثر حظوة، الأقرب للمناصب السلطوية، بجانب أنهم الأعلى أجرًا، مقارنة بنظرائهم في الأكاديمية الوطنية “أكاديمية جورج ناموناو العسكرية”.
ومن هنا جاء الانقلاب على داميبا ليعيد إلى الأضواء مجددًا الصراع بين الطبقات في الداخل البوركيني، مغلفًا بشعارات الإطاحة بالنفوذ الفرنسي في البلاد، وتقزيم حلفائها العسكريين، والإعلاء من شأن أبناء الوطن المهمشين طيلة السنوات الماضية، وهو ما ساهم بشكل كبير في توفير غطاء شعبي وعسكري لهذا الحراك.
لا أريد البقاء في السلطة.. نغمة العسكر الثابتة
رغم ما يثار بشأن أنه كان طالبًا خجولًا خلال مراحل دراسته، فإن التقارير الإعلامية المختلفة تذهب إلى أن تراوري كان عسكريًا مقاتلًا، وكان أحد الركائز الأساسية في مواجهة الجماعات المسلحة ومن الذين تصدوا للهجوم الدموي الذي شنه مسلحون في منطقة تمبكتو الشمالية عام 2018.
عمل تراوري بعد تخرجه برتبة ملازم ثان بالمنطقة العسكرية الأولى في محافظة “كايا” في الفترة ما بين 2012 و2014، وفي 2014 تمت ترقيته لرتبة ملازم أول، وشارك في عملية “سحب النار” ضد الجماعات المسلحة في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية في 2019 ثم رقي لرتبة نقيب عام 2020.
وفي مارس/آذار من نفس العام عينه الرئيس المطاح به هنري داميبا، قائدًا للفوج العاشر للمدفعية العسكرية في منطقة كايا، ومن هنا استمد نفوذه القوي الذي تصاعد شهرًا تلو الآخر حتى وصل إلى نهاية سبتمبر/أيلول 2022 حين انقلب على صديقه وانفرد بالسلطة.
وحاول تراوري النأي بنفسه عن فخ الانقلاب من أجل السيطرة على الحكم، حيث أكد – كبقية المنقلبين من قبله – أنه لا يرغب في السلطة ولن يبقى فيها، قائلًا خلال حديثه للإذاعة الفرنسية في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2022: “سنعمل بكل ما في وسعنا من أجل العودة إلى المسار الدستوري قبل شهر يوليو/حزيران 2024 وذلك وفق التعهدات التي اتخذتها بوركينا فاسو حيال المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا”.
لافتًا أن مهمته الحاليّة هي “تسيير المرحلة الانتقالية لغاية تنظيم ما يسمى باجتماع (القوات الحية) للبلاد التي سيتم على إثرها اختيار رئيس لتسيير المرحلة الانتقالية المقبلة”، ثم صرح بشكل مباشر أنه لا يود الاستمرار في السلطة، متسائلًا: “لماذا يجب أن أستمر في الحكم. لم نأت لغرض خاص. ما يهمنا هو وضع حد للانفلات الأمني ووضع البلاد على سكة التنمية”.
ويتميز الجنرال البوركيني الشاب بالذكاء في خطاب مواطنيه، عازفًا على بعض الأوتار القومية والوطنية الشعبوية التي عززت من شعبيته لديهم، آخرها حملة مناهضة النفوذ الفرنسي التي يقودها منذ توليه السلطة، وتصدير صورة المناضل المقاوم لهذا الغزو المستمر لعقود طويلة ذاقت فيها البلاد ويلات الحروب والجوع والتمزق وتفريغ مواردها لصالح أصحاب البشرة البيضاء.
وبلغت شعبية تراوري المتزايدة رغم صغر سنه أن تم تشبيهه بالزعيم الثوري توماس سانكارا الذي قاد النضال ضد المستعمر الفرنسي لسنوات طويلة، لكن يبقى هذا الأمر رهن الوفاء بالتزامه بتسليم السلطة للمدنيين قبل يوليو/تموز العام القادم كما تعهد هو بنفسه.. فهل يفي الجنرال بعهوده أم سيكون لعظمة الكرسي وجنونه رأي آخر؟