نهاية يناير/كانون الثاني 2020، كلّف الرئيس التونسي قيس سعيد، الوزير السابق إلياس الفخفاخ بتشكيل حكومة جديدة في البلاد، رغم أن الفخفاخ لم يفلح في الحصول إلا على 0.34% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية سنة 2019، فيما لم يحصل حزبه على أي مقعد في البرلمان.
لم تمض أكثر من خمسة أشهر على توليه المنصب، حتى استقال الفخفاخ من رئاسة الحكومة، إثر إعلان حركة النهضة أنها قررت سحب الثقة منه على خلفية اتهامات في ملف تضارب مصالح، ما اعتبر الفشل الأول لاختيارات سعيد.
بعد الفخفاخ اختار سعيد، هشام المشيشي وزير الداخلية آنذاك ومستشار الشؤون القانونية في قصر قرطاج، لرئاسة الحكومة الجديدة، رغم أنه لا يوجد أي حزب اقترح اسم المشيشي لهذا المنصب، لكن صداقته لسعيد مهدت له الطريق لذلك.
سرعان ما تعكرت العلاقات بين الطرفين وأغلقت أبواب التواصل بينهما، في ظل رغبة سعيد في تجاوز الصلاحيات التي منحها له دستور 2014، ووضع يده على كل مفاتيح الحكم في البلاد، ما أدخل تونس في أزمة شاملة أثرت على كل مناحي الحياة.
سارع سعيد للإطاحة بهشام المشيشي ليلة 25 يوليو/تموز 2021، لكن هذه المرة أطاح معه بالبرلمان المنتخب وعطل العمل بالدستور وجاء بدستور جديد يمنحه كل صلاحيات الحكم بعيدًا عن المحاسبة وعطل العمل السياسي في البلاد.
كل ذلك ولم يعترف الرئيس قيس سعيد بمسؤوليته فيما وصلت له البلاد من أزمات كثيرة نتيجة اختياراته وسياساته الخاطئة، فدائمًا ما يتهرب من تحمل المسؤولية ويتهم غيره بالتسبب في الوضع الصعب الذي تعيشه تونس.
إقالة بودن
سلسلة الإقالات والتهرب من المسؤولية لم تقتصر على الفخفاخ والمشيشي فقط، وإنما شملت أيضًا نجلاء بودن، التي أُقيلت في ساعة متأخر من مساء أمس الثلاثاء، رغم أنها كانت في تجاوب كامل مع الرئيس قيس سعيد في أغلب الملفات.
ولم يُعرف عن نجلاء بودن معارضتها لسياسة الرئيس سعيد، بل كانت تقوم حرفيًا بما يمليه عليها ويأمرها به، ما وضعها في إحراجات كثيرة في العديد من المناسبات، خاصة في مفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولي.
تشهد تونس منذ سيطرة سعيد على كل السلطات في البلاد، وضعًا اجتماعيًا مترديًا، دفع الآلاف لمغادرة البلاد والتضحية بحياتهم في عرض المتوسط
أقال سعيد رئيسة الحكومة نجلاء بودن وعين أحمد الحشاني خلفًا لها، وقالت الرئاسة التونسية – في حسابها الرسمي على موقع فيسبوك – إن الحشاني أدى اليمين الدستورية كرئيس للحكومة أمام الرئيس سعيد خلال موكب رسمي.
ونشرت الصفحة الرسمية للرئاسة صورًا لموكب أداء اليمين في القصر الرئاسي، ولم توضح الرئاسة التونسية سبب إقالة بودن، لكن الرئيس سعيد قال في مقطع مصور خلال موكب تنصيب الحشاني إن هناك تحديات كبيرة لا بد من كسبها من أجل الحفاظ على الدولة والسلم الأهلي داخل المجتمع.
جدير بالذكر أن تعيين نجلاء بودن على رأس الحكومة، تم في سبتمبر/أيلول2021، أي بعد أكثر من شهرين من انقلاب قيس سعيد، واستحواذه على كل السلطات في البلاد، لتكون أول امرأة تكلف بهذه المهمة، ليس في تونس فحسب بل في العالم العربي.
الحشاني.. معاد للإسلام السياسي
كما جرت العادة، منذ إشراف سعيد على التعيينات في صلب الدولة، لا توجد معلومات كثيرة عن المسؤولين الجدد، إذ لا يعرف الشارع التونسي الكثير عن رئيس وزرائه الجديد، فقد خرج فجأة إلى الحياة العامة.
قديمًا كان التونسيون يتوجهون لمحركات البحث للتعرف على المسؤولين الجدد في الدولة، لكن مع سعيد الأمر اختلف، فلا توجد معلومات كثيرة عن أغلب المسؤولين الذين يعينهم ومنهم الحشاني، إلا بعض الصور التي تجمعهم بقيس سعيد في أثناء حملته الانتخابية أو بعض التدوينات التي عبروا فيها صراحة عن دعمهم اللامشروط له.
وبالنظر إلى سيرة رئيس الحكومة الجديدة، نرى أنه سبق أن شغل منصب مدير عام الشؤون القانونية في البنك المركزي التونسي قبل إحالته للتقاعد، خلال فترة محافظ المصرف المركزي السابق الشاذلي العياري.
ودرس الحشاني في كلية الحقوق السياسية والاقتصادية بجامعة تونس قرطاج، حيث كان قيس سعيد أستاذًا مساعدًا، وحصل منها على شهادة الماجستير سنة 1983، حسب ما ورد في حسابه بموقع التواصل الاجتماعي، فيسبوك.
يخبرنا حساب الحشاني في فيسبوك، بعداء الرجل الشديد للإسلام السياسي، إذ دائمًا ما ينشر تدوينات وصورًا للتهكم على حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي، فضلًا عن التهكم على ائتلاف الكرامة – حليف النهضة – وفي إحدى تدويناته كتب “الإسلام السياسي هو عدونا الوحيد الذي يجب حظره”.
فضلًا عن عداء النهضة وكل ما له علاقة بها، يجاهر الحشاني بدعمه للرئيس قيس سعيد، وظهر ذلك خلال الحملة الانتخابية التي سبقت وصول سعيد إلى قصر قرطاج في أكتوبر/تشرين الأول 2019، أي أننا أمام صديق جديد لسعيد في الحكم.
التهرب من المسؤولية
قبل إقالة بودن، أقال سعيد عددًا من وزراء حكومتها، على رأسهم عضده الأيمن، وزير الداخلية توفيق شرف الدين، ووزيرة الصناعة والمناجم والطاقة نائلة نويرة القنجي، ووزيرة التجارة وتنمية الصادرات فضيلة الرابحي ووزيري التعليم فتحي السلاوتي والزراعة محمود إلياس حمزة، فضلًا عن وزير الخارجية عثمان الجرندي، ووزير التشغيل والتكوين المهني نصر الدين النصيبي.
فضلًا عن هؤلاء الوزراء، أقال سعيد عددًا آخر من المسؤولين منهم مديرة ديوان الرئاسي نادية عكاشة، التي كانت تُعرف بكاتمة أسرار الرئيس، وتعلقت بها العديد من الأحداث المهمة التي عرفتها تونس منذ يناير/كانون الثاني 2020.
وفي كل مرة يخرج سعيد على التونسيين للحديث عن مؤامرة تُحاك ضده ووجود خونة في البلاد لا يريدون الإصلاح، رغم أنه هو من جلب هؤلاء المسؤولين ووضعهم في الصف الأول للحكم، رغم انعدام الخبرة المطلوبة لدى أغلبهم.
يوجد في تونس رئيس حكومة ومسؤولين كبار، لكن كل الصلاحيات مسلوبة منهم ولا يتحركون إلا بأوامر من قرطاج
نفهم من إقالة بودن وقبلها عدد من وزراء الحكومة ومسؤولي الدولة، محاولة سعيد التهرب من مسؤولية فشل منظومة الحكم التي أسسها بعد انقلاب 25 يوليو/تموز 2021، إذ يريد تحميل فشل نظامه لهؤلاء المسؤولين.
وجاءت إقالة بودن وتعيين الحشاني عوضًا عنها على رأس الحكومة، في وقت تشهد فيه تونس أزمة حادة مست كل جوانب الحياة في البلاد، إذ فشلت السلطات في التصدي للأزمة الاقتصادية والمالية وأدخلت البلاد في حالة إرباك كبيرة.
وتشهد تونس منذ سيطرة سعيد على كل السلطات في البلاد، وضعًا اجتماعيًا مترديًا، دفع الآلاف لمغادرة البلاد والتضحية بحياتهم في عرض البحر المتوسط، فأغلب المواد الأساسية مفقودة والموجودة في الأسواق أسعارها في ارتفاع مستمر، كما ارتفعت نسب البطالة والفقر وتراجع الإنتاج بسبب ملاحقة رجال الأعمال والتضييق عليهم، وعدم إيفاء الدولة بالتزاماتها المالية تجاه الفلاحين والصناعيين والتجار.
رئيس الجمهورية #قيس_سعيد، يشرف على موكب أداء اليمين من قبل السيد أحمد الحشاني، رئيسا للحكومة. #TnPRhttps://t.co/4MJO1lliCn
— Tunisian Presidency – الرئاسة التونسية (@TnPresidency) August 1, 2023
فضلًا عن ذلك، تجد تونس صعوبات كبيرة في الحصول على التمويلات الضرورية لميزانية الدولة، نتيجة فشلها في الوصول لاتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قسط أول من قرض قيمته 1.9 مليار دولار لدعم اقتصادها ومخزونها من العملة.
حتى إن كان هؤلاء المسؤولون هم الفاشلون، لنا أن نتذكر أن من أوصلهم لهذه المناصب هو الرئيس قيس سعيد، يعني أنه هو من يتحمل مسؤولية فشل الاختيار، مع ذلك لا يعير سعيد بالًا لهذه النقطة ويواصل في نهجه دون أن يفكر للحظة أنه هو السبب فيما وصلت له تونس.
يوجد في تونس رئيس حكومة ومسؤولون كبار، لكن كل الصلاحيات مسلوبة منهم ولا يتحركون إلا بأوامر من قرطاج، لكن إن فشلوا فإنهم وحدهم من يتحملون مسؤولية ذلك، أما الرئيس فهو منزه عن الخطأ ويتعالى عن النقد.