ينتظر ياسر دوره للحصول على فرصة تعبئة خزانه بالمياه في حي المشيرفة، أحد أحياء مدينة الحسكة التي تعاني أزمة مياه خانقة من 3 سنوات، تفاقمت آثارها هذا الصيف مع موجة الجفاف وارتفاع درجات الحرارة.
بعينَين مراقبتَين يترصّد ياسر حركة الصهاريج القادمة من دير الزور والمتجهة إلى الأحياء، لتوزيع المياه على المنازل وملء الخزانات، ضمن مبادرات عشائرية وفزعات أخرى ستصل المدينة خلال الأيام القادمة، تشمل عشرات الصهاريج التي لا تكفي احتياجات المدينة وأريافها التي تضمّ قرابة المليون نسمة.
يتساءل ياسر عبد العزيز في حديثه لـ”نون بوست”: “كم عائلة ستستفيد من هذه الفزعة؟ إذ إن المشكلة متروكة دون أي حل والمعاناة متكررة كل صيف، ومليون شخص في المدينة وأريافها يواجهون عطشًا في المحافظة التي كانت تعدّ سلة غذاء سوريا”.
ويعيل ياسر ذو الـ 55 عامًا إلى جانب أسرته أسرة ابنه الذي فُقد منذ العام 2015، يقول: “نحتاج كأسرتَين إلى أكثر من 3 براميل يوميًّا في هذا الحر الشديد، أي أكثر من 30 ألف ليرة سورية (2.5 دولار تقريبًا)، وهذا ما يجعل المعيشة أكثر صعوبة ويزيد الأعباء المالية، لا سيما أن رائحة الفقر تفوح من كل أحياء الجزيرة”.
ويعتمد الأهالي في الحسكة بشكل رئيسي على مياه محطة علوك التي تنقطع باستمرار، ما اضطرهم للاعتماد على مياه الصهاريج المعبّئة من الآبار لا سيما من منطقة الحمة، والنفاشة الواقعة شرق المدينة التي تعتمد عليها عشرات القرى المجاورة في الريف الشرقي لمدينة الحسكة.
فزعة عشائر دير الزور
في الأول من شهر أغسطس/ آب الجاري، وصلت قافلة مكونة من عشرات صهاريج المياه إلى مدينة الحسكة، ضمن حملة “فزعة عشائر دير الزور”، استجابة لنداءات استغاثة أطلقها أهل الحسكة الذين يعانون شحًّا في المياه.
وفي كلمة مصورة، اعتبر الشيخ أحمد الحسن، أحد مسؤولي الحملة، أن الحملة إسعافية وغير قادرة على الاستمرار في تلبية حاجة السكان لمياه الشرب والذين يتجاوز عددهم مليون نسمة، ويجب إيجاد حل جذري لمشكلة انقطاع المياه عن مدينة الحسكة، لافتًا أن هذه الحملة من عطشانين إلى عطشانين، وأن أهالي محافظة دير الزور رغم الأزمة المعيشية الخانقة التي يعيشونها، إلا أنهم أصرّوا على إطلاق هذه الحملة.
وضمّت القافلة التي ستستمر 15 يومًا 100 صهريج مياه شرب نظيفة، سعة كل صهريج 100 برميل، وتمَّ توزيع أكثر من 10 آلاف قالب ثلج، حسب حديث إبراهيم الحسين، أحد المنسقين والمرافقين للحملة.
مضيفًا لـ”نون بوست” أن الحملة ستعمل على تغطية كل أحياء الحسكة التي لم تصلها المياه، لا سيما أن مناهل المياه تعاني ضغطًا كبيرًا نسبة للاحتياجات السكانية الكبيرة، فضلًا عن أن غالبية الآبار هي مياه كبريتية غير صالحة للشرب.
وحسب مشاهدة الحسين، فإن الأهالي يضطرون للاعتماد على مياه الآبار الكلسية في الاستعمالات المنزلية والاستحمام، بسبب الأزمة الحادة، منوّهًا أن حملة الفزعة لا تكفي حيَّين فقط من أحياء المدينة، لذا تمَّ استئجار صهاريج من المدينة وتعبئتها من المناهل ثم توزيعها مجانًا على الأحياء.
ومن المقرر أن تقوم حملة فزعة بحفر آبار جوفية ضمن الأحياء السكنية، إذ تبلغ كلفة البئر الواحد من 600 إلى 1300 دولار، حسب توافر مصادر الطاقة الكهربائية المشغّلة لتلك الآبار، وفق تأكيد الحسين.
محطة علوك.. أُسّ الصراع
تشكّل محطة مياه علوك، شرقي مدينة رأس العين، مصدرًا رئيسيًّا للمياه في مدينة الحسكة وبلدة تل تمر والأرياف المحيطة بهما، بما في ذلك مخيمات الهول ومخيم السد ومخيم التوينة التي تضمّ عشرات الآلاف من النازحين داخليًّا من محافظات ومناطق سورية مختلفة، بالإضافة إلى آلاف العراقيين والأجانب ممّن كانوا يعيشون سابقًا في مناطق كان يحكمها تنظيم “داعش”.
وأُنشئت محطة علوك لتجميع وضخّ المياه عام 2010، وذلك بعد شحّ مصادر مياه الشرب في الحسكة وأريافها، إذ تمّ حفر 30 بئرًا ارتوازيًّا بالقرب من قرية علوك شرقي مدينة رأس العين، باستطاعة ضخّ تبلغ حوالي 175 ألف متر مكعب من المياه الصالحة للشرب يوميًّا.
وتضم المحطة خزان مياه تبلغ سعته 25 ألف متر مكعب، و12 مضخة كبيرة (تعمل 3 منها فقط) تقوم بضخّ المياه عبر خطوط نقل بطول 67 كيلومترًا، لإيصالها إلى محطة مياه منطقة الحمة بريف الحسكة الغربي، ومنها إلى التجمعات السكانية.
في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، سيطرت المعارضة السورية الموالية لتركيا على محطة مياه علوك خلال عملية نبع السلام العسكرية في رأس العين بريف الحسكة وتل أبيض بريف الرقة، ومنذ ذلك الحين توقفت المحطة أكثر من 36 مرة، حسب مواقع كردية.
هذا فيما سُجّل آخر توقف للمحطة في 9 يونيو/ حزيران الفائت بعد تشغيلها لأقل من أسبوع، بسبب انقطاع التيار الكهربائي عنها من محطة مدينة الدرباسية بريف الحسكة الشمالي، رغم وجود اتفاق بين الطرفَين (الجانب التركي و”قسد”) وبوساطة منظمة اليونيسف، يقضي بتزويد “قسد” مناطق المعارضة السورية بالكهرباء مقابل ضخّ المعارضة مياه الشرب للمدينة.
بدورها، وجّهت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، في مارس/ آذار 2020، أي بعد عملية “نبع السلام” بـ 6 أشهر، انتقادات متكررة لتركيا على دورها في أزمة المياه بسوريا.
وقالت المنظمة الدولية حينها، إن “تقاعس السلطات التركية عن ضمان إمدادات مياه كافية لمناطق سيطرة الأكراد في شمال شرق سوريا، يضرّ بقدرة المنظمات الإنسانية على تجهيز المجتمعات الضعيفة لحمايتها”.
الحسكة منطقة منكوبة
في 31 يوليو/ تموز الفائت، أعلنت الإدارة الذاتية، الجناح المدني لـ”قسد” شمال شرق سوريا، مدينةَ الحسكة وضواحيها مناطق منكوبة إثر انقطاع مياه الشرب، متهمة تركيا وروسيا وحكومة دمشق بالوقوف وراء ذلك.
وأشارت الإدارة إلى أن “المفاوضات الحاصلة من قبل اليونيسف باءت بالفشل، نتيجة سياسة الاحتلال التركي بقطع المياه عن محطة علوك المصدر الرئيسي لمياه الشرب بمدينة الحسكة، والذي أدى إلى الاعتماد على الآبار السطحية، ما أدى إلى انخفاض منسوب المياه وازدياد عبء تأمين المياه لسكان المدينة ونواحيها”.
بدورها، نقلت مواقع كردية عن مسؤول المديرية العامة لمياه الشرب في الحسكة، أن “اليونيسف أخبرتهم أن مشكلة مياه محطة علوك ليست لأسباب تقنية أو فنية، إنما هي قضية سياسية”.
وكانت اليونيسف قد توسّطت بين إدارة “قسد” والجانب التركي عدة مرات، على أن تقدم الإدارة الذاتية خط كهرباء للمحطة ولمناطق خاضعة لسيطرة تركيا، مقابل أن تسمح الأخيرة بعمل محطة علوك، إلا أنها خرقت التفاهم لعدة مرات، بحسب المسؤول.
الكهرباء مقابل المياه
يتبادل كلا الطرفَين الاتهامات بالمسؤولية عن الأزمة الحاصلة في الحسكة وأريافها، فالإدارة الذاتية تتهم فصائل المعارضة وتركيا بتعمُّد قطع المياه عن الحسكة عبر تعطيل مضخّات محطة علوك في رأس العين بريف الحسكة الشمالي، والخاضعة لسيطرة قوات المعارضة المدعومة تركيًّا منذ أواخر عام 2019، كورقة ابتزاز للمساومة والحصول، في كل مرة، على حمولة إضافية من كهرباء سدّ تشرين، الذي يخضع لسيطرة الحكومة السورية والإدارة الذاتية.
فيما تؤكد المعارضة أن الإدارة الذاتية تقطع وصول المحروقات والطاقة الكهربائية عن مدينتَي رأس العين وتل أبيض وعن محطة علوك، باعتبار أن مصادر تغذيتها كهربائيًّا من محطة سدّ تشرين ومحطة الجبسية والدرباسية الواقعة في مناطق “قسد”.
الإدارة الذاتية، وبعد تعثُّر اتفاقاتها مع الجانب التركي، ورغبة منها في البحث عن حلّ مستدام، أشارت في 1 أغسطس/ آب الجاري أنها بصدد إطلاق مشروع استجرار مياه الشرب إلى مناطق سيطرتها في محافظة الحسكة، دون أن تحدد موعدًا دقيقًا لذلك.
موضحة أن مشروع الاستجرار سيكون عبر جرّ مياه من عامودا بريف الحسكة بمسافة 60 كيلومترًا، وجرّ مياه الفرات من ريف دير الزور، وجرّ مياه في منطقة الحمة غربي الحسكة، والذي من المقرر أن يؤمّن 50% من حاجة الحسكة لمياه الشرب.
ويعدّ مشروع جرّ مياه في منطقة الحمة مشروعًا قديمًا بدأ أواخر مارس/ آذار 2020، إذ قالت حينها الإدارة الذاتية إنها ستقوم بحفر 50 بئرًا في محطة الحمّة، بغزارة تصل إلى 15 ألف متر مكعب يوميًّا، وذلك خلال 29 يومًا، لكن تنفيذه تأخّر حتى أغسطس/ آب 2022، وانقطعت المياه بعد أيام معدودة من وضعها ضمن الخدمة، ولم تعلق الإدارة الذاتية بعدها على المشروع، ولم تصدر أي بيان حول سبب توقفه.
يشير الصحفي المتحدّر من الحسكة والمتابع لأوضاعها، محمد حسون، أن مدينة الحسكة كانت تعتمد في شربها سابقًا بشكل رئيسي على مياه السد الشرقي وبحيرة السد الغربي المغذي للسد الشرقي، القادمة من منطقة ينابيع رأس العين عن طريق قناة مكشوفة (1-2م) بطول 64 كيلومترًا.
وبعد انعدام جريان الينابيع عام 2000، بدأ ضخّ المياه بشكل قسري من الينابيع و116 من الآبار الارتوازية في رأس العين التي تصبّ في السدَّين، لكن أدّى ذلك إلى جفاف آبار المزارعين ثم جرى منع زراعة القطن برأس العين.
مضيفًا أن مشروع محطة علوك كان بالأصل مشروعًا إسعافيًّا ليساعد في إرواء الحسكة، التي كانت تشرب من مياه سد الخابور شمال الحسكة، إلى حين تنفيذ مشروع دجلة العملاق بتمويل من الكويت والصندوق العربي، والذي توقف العمل به مع اندلاع الثورة السورية.
وحسب حسون فإن مشروع محطة مياه علوك قد تحوّل إلى ورقة على طاولة الصراع السياسي والعسكري في المحافظة التي تعاني من تعدُّد السلطات، ففيها حكومة دمشق والسلطات الكردية والتركية، متسائلًا عن الفائدة من إيصال قوات “قسد” الكهرباء إلى محطة علوك فقط دون باقي الأحياء السكنية في رأس العين، والتي يعيش فيها سوريون من حقّهم الحصول على خدمات بلادهم.
ورأى حسون أن كل الحلول المطروحة من سلطات “قسد”، سواء بحفر آبار في الحمة أو نفاشة، أو استجرار مياه نهرَي الخابور والفرات، ثم محطات تحلية وآخرها مشروع عامودا، لن تستطيع إرواء المحافظة وأريافها.
فمشروع الحمة لم يكتمل، ومشروع استجرار مياه الفرات من ريف دير الزور الذي بدأ العمل به أواخر عام 2020 تمَّ إيقاف ضخّ المياه فيه، بعد أن وصلت إلى حيَّي الصالحية والمفتي بالحسكة.
ويعدّ الهدف الرئيسي من هذه المشاريع، فيما لو أُنجزت، هو قطع التيار الكهربائي عن مناطق نبع السلام (تل أبيض ورأس العين)، وسحب ورقة التفاوض نهائيًّا مع تركيا بشأن محطة علوك، والتي تعدّ أصلًا غير قادرة على تغطية كامل مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، حسب حسون.
الإنسان السوري يدفع ثمن استخدام جميع الأطراف المياه كسلاح حرب، والذي يرقى إلى جريمة حرب تهدد حياة المدنيين، ما يؤدي إلى عواقب إنسانية مأساوية بسبب النقص في إمدادها وتلوثها، ودوام تأثيراتها لفترة طويلة في المستقبل.
ويأتي هذا بدءًا من المعاناة السكانية الجماعية وانتشار الأمراض، خاصة في المخيمات، مرورًا بتدهور السلة الزراعية التي تميز الجغرافيا السورية ولا سيما الجزيرة، وصولًا إلى تعذُّر التعايش مع هذا الواقع ولجوء السكان إلى الهجرة وتفريغ المناطق، لا سيما أن الكثير من السكان استطاع التعايش مع واقع القصف والدمار والخوف وفقدان أدنى مقومات الحياة، إلا أن التأقلم مع فقدان المياه أمر لا يمكن تحمُّله إذا ما طالت فترة انقطاعها.