فضّل ملايين السودانيين الذين يقطنون العاصمة الخرطوم البقاء فيها، رغم استمرار غارات الطيران الحربي والقتال بالقذائف الثقيلة والاشتباكات بصورة شبه يومية، لعدم امتلاكهم موارد كافية لتغطية ارتفاع تكاليف الإعاشة وإيجار المساكن في المدن الآمنة؛ لكن هذا الوضع على وشك أن يتغير مع شحّ الإمدادات الغذائية.
انعدمت المواد الغذائية تمامًا في بعض أحياء العاصمة الخرطوم، مثل الصحافة والديم والشجرة والكلاكلة وبُري وشمبات والحلفايا، بينما أخذت في التناقص في بقية الأحياء، ما قاد إلى ارتفاع أسعارها بنحو لا يتناسب مع وضع السودانيين الحالي.
دفع القتال الشرس المندلع بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ 15 أبريل/ نيسان هذا العام، أكثر من 3.9 ملايين شخص إلى الفرار من منازلهم، منهم 71% فرّوا من العاصمة الخرطوم التي يبلغ عدد سكانها وفقًا لتقديرات حكومية 8 ملايين شخص، فيما تقول تقديرات أخرى إن عددهم يصل إلى 12 مليون شخص.
كان معظم السودانيين يفضّلون السكن في عاصمتهم بمدنها الثلاث: الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان، لتمركز خدمات التعليم والصحة والصناعات والشركات فيها، غير أن هذا الوضع تحوّل بعد اندلاع الحرب وتضاؤل الأمل بإنهاء النزاع عبر الطرق السلمية.
موجات نزوح قادمة
يقول أحمد موسى، وهو ربّ أسرة مكونة من 7 أفراد، إن السلع الغذائية نفدت من متاجر حي عباد الرحمن بالخرطوم بحري الذي يقيم فيه، في وقت لا يستطيع المخاطرة بالذهاب إلى متاجر المحلات المجاورة لشراء احتياجات أسرته، خوفًا من المقذوفات الطائشة وأعمال السلب والنهب وعدم امتلاكه أموال كافية.
تدور اشتباكات عسكرية عنيفة بالقرب من أسواق الخضر والفاكهة الرئيسية، ما دفع الباعة إلى البحث عن أسواق داخل الأحياء السكنية التي لم يمتد إليها النزاع حتى الآن، لكنهم يواجهون صعوبة بالغة في توصيلها من المزارع إلى الأسواق.
ويشير إلى أنهم يعتمدون كليًّا على الأرزّ والعصيدة، وهو طعام سوداني يعدّ من الذرة الرفيعة، لنفاد السلع من المتاجر التي يتعامل مع أصحابها بالدفع لاحقًا.
يضيف لـ”نون بوست” أن “الوضع في المدن الآمنة وارتفاع أسعار إيجارات الشقق والمنازل التي تصل إلى مليون جنيه -نحو 1700 دولار-، اضطره إلى المكوث في الخرطوم رغم مخاطر فقدان حياته أو تعرُّض أسرته لاعتداءات نتيجة انعدام الأمن”.
ومع شحّ المواد الغذائية، أخذ موسى يفكّر في النزوح إلى ولاية نهر النيل شمال السودان، ليمكث مع النازحين في دُور الإيواء المؤقتة، حيث يُجري هذه الفترة اتصالات مع معارفه لأخذ فكرة عامة عن الأوضاع قبل الفرار من الخرطوم، لأنه في النهاية “لا مفر من النزوح”.
أصبحت أسرة أبو بكر قاسم المكونة من 3 أفراد، تعيش على وجبة واحدة في اليوم بغضّ النظر عن قيمتها الغذائية، بعد أن فقدَ عائلُها عمله في مجال صيانة الهواتف النقالة.
يقول قاسم لـ”نون بوست” إنه كان يستدين من أصدقائه لتسيير حياته، لكن في ظل الضغوط المستمرة باتوا لا يملكون شيئًا، ويشدد على أن خيار النزوح غير محبّذ له، لتكدّس منزل والده بمدينة ربك بولاية النيل الأبيض جنوب السودان بأسر أشقائه وشقيقاته الخمس.
لا خيار إلا الفرار
تدور اشتباكات عسكرية عنيفة بالقرب من أسواق الخضر والفاكهة الرئيسية، ما دفع الباعة إلى البحث عن أسواق داخل الأحياء السكنية التي لم يمتدّ إليها النزاع حتى الآن، لكنهم يواجهون صعوبة بالغة في توصيلها من المزارع إلى الأسواق.
هناك 20.3 مليون سوداني -يمثلون 42% من السكان- يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، منهم 6.3 ملايين شخص على حافة المجاعة.
تقول درية عباس لـ”نون بوست”، إن منطقة الموردة بأم درمان التي تقطن فيها لم تصلها الخضرة والفاكهة منذ مطلع يوليو/ تموز الفائت، بسبب صعوبة الحركة وانعدام الأمن، ما جعل أسرتها تعتمد على غذاء واحد في معظم الأيام وهو الأرزّ.
وتوضّح درية، وهي شابة تعمل في مجال التعليم وتقيم مع أسرتها، أن الموردة ظلت تعتمد على المخزون المتوفر في المحلات التجارية الصغيرة عند اندلاع الحرب، لكنه يتناقص يومًا عن الآخر، ما يجبرهم في نهاية المطاف إلى مغادرة منازلهم.
يتحدث محمد جبريل، الذي يسكن في سوبا شرق الخرطوم، عن نفاد البضائع من المحلات التجارية في المنطقة، التي غدت تعتمد على تاجر واحد يبيع السلع من داخل منزله بالبيع الآجل، ويقول لـ”نون بوست”: “إن نفدت السلع من هذا التاجر، فليس أمامنا غير الجوع، خاصة أن مدخراتنا انتهت تمامًا، وقد أصبح الفرار حلمًا بعيد المنال، إذ لا نملك ما يكفي من مال ندفعه للترحيل من سوبا إلى أقرب مدينة في ولاية الجزيرة”.
تؤكد الأمم المتحدة، في تقرير حديث عن توقعات التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، والذي أصدرته الأربعاء 2 أغسطس/ آب الحالي، الوضع الحرج الذي يعيشه السودانيون جراء تطاول أمد النزاع والتدهور الاقتصادي، ويقول التقرير إن هناك 20.3 مليون سوداني -يمثلون 42% من السكان- يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، منهم 6.3 ملايين شخص على حافة المجاعة.
يتوقع أن يرتفع هذا العدد في الأشهر المقبلة، مع بوادر فشل موسم الزراعة المطري الذي بدأ بالهطول في يوليو/ تموز، نتيجة شحّ الوقود وضعف التمويل وانعدام الأمن في مناطق الإنتاج، خاصة دارفور وكردفان، حيث يعتمد معظم المزارعين على هذا الموسم في الزراعة سواء الاكتفائية أو التجارية.
وحاليًّا، أدى النزاع إلى تدمير البنية التحتية والمصانع، والذي بدوره قاد إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات بطريقة جعلت السودان مكانًا غير لائق للعيش، ومع ذلك يكابد السودانيون في سبيل البقاء على قيد الحياة.
🚨تنبيه: أدى النزاع والتدهور الاقتصادي إلى رفع عدد من يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد في #السودان، إلى أكثر من 20 مليون شخص، ما يُمثل 42٪ من السكان.
6.3 مليون على حافة المجاعة⚠️
اقرأ المزيد من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي🔽 https://t.co/5R4MjNcKYn
@theIPCinfo pic.twitter.com/PZpUZWW7qS— UN OCHA Sudan (@UNOCHA_Sudan) August 2, 2023
تحقق ما يريده حميدتي
بعد أن كانت الخرطوم تمدّ مناطق السودان الأخرى بالمواد الغذائية لتمركُز الصناعات التي تساهم بـ 21% من إجمالي الناتج المحلي فيها، باتت بعد الحرب ونتيجة لتدمير القطاع الصناعي وتوقف الأنشطة التجارية، تجلب احتياجات ما تبقى من سكانها من مدينة عطبرة شمال السودان عبر منفذ واحد فقط.
لا تعيش الخرطوم حربًا بين قوتَين عسكريتَين بالنحو المألوف في العالم، إنما وجدت نفسها في خضمّ قتال خالٍ من الرحمة تجاه المدنيين، ما جعل معاناتهم فوق الاحتمال.
يقول طه عبد العزيز، وهو باحث يراقب الحرب داخل العاصمة الخرطوم، إن هذا المنفذ الواقع شمال الخرطوم بحري لن يلبّي احتياجات ما تبقى من سكان مدن العاصمة الثلاث، التي تصلها المواد الغذائية من مخازن الشركات والمصانع التي نُهبت.
ويشير، خلال حديثه لـ”نون بوست”، إلى أن السلع التي تصل عبر هذا المنفذ قد لا تصل إلى الخرطوم وأم درمان، في ظل قيود الحركة التي يفرضها الجيش وقوات الدعم السريع، خاصة في الجسور التي تربط مناطق العاصمة الخرطوم ببعضها.
وتوقع أن يدفع هذا الوضع السيّئ إلى فرار مزيد من سكان الخرطوم إلى المدن الآمنة، وبذلك يتحقق ما يريده قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، الذي قال في 13 يوليو/ تموز 2019، بعد 40 يومًا من فضّ اعتصام سلمي في محيط قيادة الجيش، إن عمارات الخرطوم ستصبح مأوى للقطط حال استمرت أحداث فضّ الاعتصام شهرًا واحدًا.
في النهاية، لا تعيش الخرطوم حربًا بين قوتَين عسكريتَين بالنحو المألوف في العالم، إنما وجدت نفسها في خضمّ قتال خالٍ من الرحمة تجاه المدنيين، ما جعل معاناتهم فوق الاحتمال.