قضت محكمة الأمور المستعجلة في مصر، في جلستها المنعقدة الثلاثاء 25 يوليو/تموز 2023، برفع التحفظ عن كل الأموال العقارية والسائلة والمنقولة وأيضًا كل الحسابات المصرفية والودائع والخزائن والأسهم والسندات الخاصة بـ146 شخصًا من أنصار جماعة الإخوان المسلمين، التي سبق التحفظ عليها بقرارين من “لجنة التحفظ على أموال جماعة الإخوان المسلمين والإرهابيين والكيانات الإرهابية” يحملان رقم 3 و4 لسنة 2018 الصادران من قاضي الأمور الوقتية بمحكمة جنوب القاهرة في 10 سبتمبر/أيلول و3 ديسمبر/كانون الأول 2018.
جاء في الخبر الذي نشرته بعض وسائل الإعلام المحلية المصرية أن الحكم صدر بناءً على دعوى قضائية أقامها رئيس لجنة “إجراءات التحفظ والإدارة والتصرف في أموال الجماعات الإرهابية والإرهابيين”، وطالب فيها برفع التحفظ عن كل الأموال والممتلكات الخاصة بعدد من المتحفظ على أموالهم بقرار من اللجنة وعددهم 146 مصريًا.
أصدرت اللجنة قرارين أوصت خلالهما برفع التحفظ عن أموال وممتلكات المتهمين، الأول بتاريخ 1 مارس/آذار 2023، والثاني بتاريخ 31 مايو/أيار 2023، حيث ارتأت المحكمة أن أسباب إصدار قرار التحفظ انتفت حاليًّا ولا داعي لاستمرار الإجراء، وعليه أوصت بإلغائه ورفع التحفظ عليها، ملزمة كل من وزير العدل ومحافظ البنك المركزي إضافة إلى رئيس مصلحة الشهر العقاري برفع التحفظ عن الأموال كافة، الصلبة والسائلة، عن قائمة المتهمين الـ146.
يأتي هذا الحكم بعد شهر واحد فقط من حكم آخر صادر عن محكمة الأمور المستعجلة مستأنف، برفع التحفظ عن أموال رجل الأعمال صفوان ثابت، وذلك بعدما رفضت المحكمة في البداية التظلم الذي أقامه ضد قرار قاضي محكمة جنوب القاهرة بالتحفظ على أمواله، حسبما أشار المحامي أبو العلا ماضي في تصريحاته لموقع “مدى مصر“.
رفع التحفظ عن أموال أنصار جماعة الإخوان قرار – بجانب أنه مفاجئ ونادر الحدوث منذ 2014 – أثار الكثير من التساؤلات حول بواعثه الحقيقية ودوافعه المقنعة، والرسائل التي يود إيصالها للداخل والخارج، في ظل الخناق المشدد الذي تمارسه السلطات الحاكمة في مصر حاليًّا ضد المعارضين بصفة عامة وأنصار الجماعة على وجه الخصوص.
لمحة عن التحفظ على أموال أعضاء الإخوان خلال العشر سنوات الماضية
بدأت إجراءات التحفظ على أموال أعضاء جماعة الإخوان المسلمين عقب قرار محكمة الأمور المستعجلة الصادر برقم 2315 لسنة 2013 باعتبار الجماعة منظمة إرهابية.
بعدها مباشرة شكلت وزارة العدل لجنة لتحديد الأشخاص والكيانات التي سيطبق عليهم هذا الحكم في ضوء عدد من المعايير التي لم يعلن عنها حتى اليوم.
كانت الأحكام الصادرة حينها من المحكمة قابلة للطعن عليها أمام القضاء الإداري، وكان كثير منها يُلغى لعدم ثبوت الجدية أو لعدم اكتفاء الأدلة، بصرف النظر عن تطبيق أحكام الإلغاء من عدمها، وظل الأمر على هذه الشاكلة من 2013 حتى 2018.
في أبريل/نيسان 2018 أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قانون تنظيم إجراءات التحفظ على الأموال الذي صادق عليه البرلمان، وينص على “إنشاء لجنة مستقلة ذات طبيعة قضائية، تختص دون غيرها باتخاذ الإجراءات المتعلقة بتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة باعتبار جماعة أو كيان أو شخص ينتمي إلى جماعة أو جماعات إرهابية”.
المادة الثالثة من القانون نصت على تشكيل لجنة مختصة لبحث ملفات الأفراد والكيانات المقرر التحفظ على أموالهم، وتكونت من 7 أعضاء من قضاة محكمة الاستئناف يصدر بندبهم قرار من رئيس الجمهورية بعد موافقة المجلس الأعلى للقضاء.
حلت تلك اللجنة محل اللجنة الحكومية التي تشكلت في 2013 تحت اسم “لجنة حصر وإدارة أموال جماعة الإخوان” التي كان مخول لها القيام بنفس الدور، لكنها تعرضت للكثير من الانتقادات والإدانات لافتقادها البنية التشريعية والدستورية لعملها.
يتلخص عمل تلك اللجنة في التقدم بطلب إلى رئيس محكمة جنوب القاهرة بأسماء الأشخاص المراد التحفظ على أموالهم، مرفقة به مستندات سرية، وعلى الفور تصدر المحكمة قرارها وقتيًا بالتحفظ، دون عقد جلسة أو الاستماع إلى المتهمين ودفاعهم، ليفاجأ المتحفظ على أموالهم بخطابات تصل إليهم من البنك المركزي تخطرهم بالتحفظ على ثرواتهم تنفيذًا لقرار المحكمة.
للضحية هنا الحق في التظلم على هذا القرار أمام محكمة القاهرة للأمور المستعجلة في مدة أقصاها 8 أيام من تاريخ إخطاره بالحكم، لتعقد بعدها المحكمة جلسة لنظر هذا التظلم، إلا أنه في الغالب يكون الحكم بالرفض وتأييد حكم التحفظ حسبما أشار المحامي المتخصص في تلك القضايا، خالد علي.
تجدر الإشارة إلى أنه منذ إنفاذ هذا القانون تحفظت الحكومة المصرية على أكثر من 350 شركة و1125 جمعية أهلية تابعة للجماعة، وأموال 2100 شخص، من بينهم 19 شركة صرافة، بإجمالي أموال بلغت 5 مليارات و556 مليون جنيه مصري، بحسب تقديرات وبيانات لجنة التحفظ.
رسائل الطمأنة الاقتصادية.. التفسير الأول
الأزمة الاقتصادية التي تواجهها مصر خلال السنوات الأخيرة في ظل العجز الكبير في الاحتياطي النقدي وتراكم الديون الخارجية والداخلية، فضلًا عن المستوى المعيشي المتدني وهروب المستثمرين ورؤوس الأموال من السوق المصري، كل ذلك أجبر السلطات الحاكمة على إعادة النظر في الكثير من التوجهات والسياسات، داخليًا وخارجيًا.
البعض قرأ خبر إلغاء قرار التحفظ على أموال الـ146 شخصًا من أنصار جماعة الإخوان المسلمين في سياقه الاقتصادي، إذ يسعى النظام إلى إيصال رسائل طمأنة للمستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال، والتأكيد على أن هناك تغيرًا في نهج الدولة في التعامل مع الأموال وأصحابها بعيدًا عن سياسة الانتقام والاستهداف الممنهج.
في 15 يونيو/حزيران 2023 وخلال كلمته في أثناء افتتاح محطة “تحيا مصر” متعددة الأغراض بميناء الإسكندرية كشف الرئيس عبد الفتاح السيسي عن أنه أمر باعتقال رجل أعمال مصري لإجباره على التنازل عن بعض ممتلكاته، وقال نصًا: “وجهت بالقبض على صاحب عقار منشأ في حرم أحد الموانئ، ولا يُخلى سبيله إلا بعد التنازل عن الأرض”.
هذا التصريح الكارثي تلقفته وسائل الإعلام الأجنبية وتعاملت معه بشكل معمق، كونه رسالة إنذار واضحة لكل من يفكر في الاستثمار في مصر، إذ إن البيئة هناك غير ملائمة بالمرة في ظل تدخل أعلى سلطة في الدولة لاعتقال رجال أعمال دون أي سند قانوني أو تشريعي، وهو ما ألقى بظلاله القاتمة على الاقتصاد المصري وحركة الاستثمارات الخارجية.
ويتناغم هذا التصريح مع ما أقدمت عليه السلطات المصرية خلال السنوات الماضية، إذ اعتقلت العديد من رجال الأعمال بتهم فضفاضة تتعلق بالإرهاب أبرزهم صاحب محلات “التوحيد والنور” سيد السويركي، ومؤسس شركة “جهينة” صفوان ثابت ونجله، ومؤسس صحيفة “المصري اليوم” صلاح دياب، ومن قبلهم رجل الأعمال حسن مالك.
كل ذلك أثر سلبًا على الاستثمار في مصر ودفع الكثير من رجال الأعمال إلى الهروب ونقل استثماراتهم للخارج، فضلًا عن التصريحات الصادمة الصادرة عن أباطرة الاقتصاد في مصر مثل سميح ساويرس أحد أغنى رجال الأعمال في العالم، الذي اتهم فيها البيئة المصرية بأنها طاردة للاستثمار وأنه نقل استثماراته للخارج، ثم تصريحات شقيقه نجيب ساويرس الذي اتهم الشركات التابعة للجيش بالاستحواذ على المشهد والقضاء على القطاع الخاص.
طالبت المؤسسات المالية الكبرى وعلى رأسها صندوق النقد الدولي أكثر من مرة بإعادة النظر في السياسات الاقتصادية المتبعة وتقديم رسائل طمأنة للمستثمرين وذلك عبر عدة إجراءات منها تخارج الجيش مرحليًا من الاقتصاد والإفراج عن رجال الأعمال المعتقلين ووقف تغول السلطات في السوق الاستثماري.
تلك الأجواء الضبابية تسببت في احتلال مصر مرتبة متأخرة جدًا في مؤشر سيادة القانون (يعتمد على ثماني نقاط أساسية: قياس القيود على سلطات الحكومة، وغياب الفساد، والحكومة المفتوحة، والحقوق الأساسية، والنظام والأمن، والإنفاذ التنظيمي، والعدالة المدنية، العدالة الجنائية) لعام 2022 الصادر عن منظمة مشروع العدالة العالمية، حيث احتلت المرتبة 135 من أصل 140 دولة، في أعقاب حصولها على تنقيط 0.35 في المؤشر، مقابل 0.26 لفنزويلا التي تذيلت الترتيب.
من هنا، قد يقرأ البعض حكم 25 يوليو/تموز الماضي بأنه في هذا السياق، حيث الطمأنة بإعادة النظر في السياسات السابقة، وعلاج بعض الأخطاء السابقة، ومنها التحفظ على أموال المواطنين ورجال الأعمال بزعم الانتماء لجماعات إرهابية دون وجود أدلة كافية، وذلك لحث المستثمرين على العودة مجددًا للسوق المصري وتشجيع الآخرين.
الجانب الحقوقي وتحسين صورة القضاء.. قراءة ثانية
تواجه مصر منذ تصنيف الإخوان كجماعة إرهابية في 2013، والتحفظ على مئات الشركات والجمعيات الأهلية والمدارس التابعة لقيادتها والصف الثاني والثالث بها، بل حتى الأنصار المتعاطفين غير التنظيميين، انتقادات حقوقية كبيرة من المنظمات الإقليمية والدولية التي طالبت بضرورة اتخاذ مواقف حاسمة ضد النظام المصري جراء تلك الانتهاكات.
كما أن طبيعة عمل لجنة التحفظ وافتقادها لأدنى معايير النزاهة في التقاضي والعدالة وإصدارها الأحكام الجزافية المنفردة في ظل غياب شبه تام لحقوق الضحايا في الدفاع عن أنفسهم، كان له تأثيره في زيادة تشويه صورة المنظومة القضائية في مصر التي تواجه تهم التسيسس على حساب القانون والعدالة منذ سنوات.
اللافت هنا، أنه منذ بداية عمل لجنة التحفظ على أموال أعضاء الإخوان صدر نحو 274 حكمًا من محكمة القضاء الإداري تقضي ببطلان قرارات التحفظ على أموال وممتلكات أفراد الجماعة، لكن لم يُنفذ أي منها، وهو ما وضع عمل اللجنة ومحكمة جنوب القاهرة في مأزق حقيقي.
ولذلك فإن إلغاء ورفع قرار التحفظ عن بعض الضحايا ربما يعيد بعض اعتبارات النزاهة للمنظومة القضائية ويحسن صورتها لدى الشارع المصري، حتى لو كانت القرارات أقل بكثير من طموحات المواطنين، وهي الرسالة المرسلة بطبيعة الحال للخارج لتقليل حجم وحدة الانتقادات الحقوقية الموجهة للقاهرة بسبب هذا الملف.
جانب سياسي مغلف بالبعد الأمني.. رؤية ثالثة
في مصر يتداخل السياسي بالأمني بالحقوقي، فالتشابكات بين المجالات الثلاث ربما تضعهم في بوتقة واحدة، وإن كان في الآونة الأخيرة انضم إليهم الاقتصاد ليكمل أضلاع المربع السلطوي للنظام الحاكم في البلاد طيلة السنوات العشرة الأخيرة.
تضييق الخناق على المعارضة وتعزيز سياسة الصوت الواحد زاد من إحراج السلطات الحاليّة التي حاولت أكثر من مرة الإيهام بوجود هامش من الحرية في البلاد، مستشهدة بخطوة الحوار الوطني التي تم الإعلان عنها مؤخرًا للاستماع إلى كل الرؤى السياسية للخروج بخريطة طريق للإصلاح في مصر، ورغم الانتقادات بشان تكوين اللجنة المخولة بإطلاق هذا الحوار وجدول أعمالها وسياسة الانتقائية المتبعة في تحديد المشاركين والمستبعدين، فإن العزف الإعلامي عليها بكثافة قد يلمح إلى وجود نية في الإصلاح والاستماع والتخلي عن إستراتيجية الصوت الواحد.
وبالتالي، قد يكون من صالح النظام تقديم أوراق يثبت من خلالها حسن نيته في هذا التوجه الإصلاحي المزعوم، من بينها الإفراج عن عدد من المعتقلين كما حدث خلال العامين الماضيين، وتخفيف قبضة الهيمنة على المشهد عبر قرارت على شاكلة إلغاء التحفظ على أموال أعضاء الجماعة.
هذا الرأي يميل إلى حد ما مع تصريحات المصدر القضائي الذي أكد لموقع “مدى مصر” وطلب عدم ذكر اسمه، أن حكم إلغاء قرار التحفظ على أموال الإخوان “سبقه توصيات أمنية ببدء حلحلة ملف ممتلكات الإخوان التي بدأت السلطة في نقل تبعيتها إلى الخزانة العامة للبلاد في يناير/كانون الثاني 2021”.
حملة اعتقالات بالتزامن.. ازدواجية تثير الجدل
بالتناقض مع ما يحمله حكم إلغاء قرارات التحفظ على أموال الجماعة من رسائل ودلالات، شهدت العديد من المحافظات المصرية، خاصة السويس والشرقية والقليوبية والجيزة، حملات اعتقال مكثفة، استهدفت قواعد لجماعة الإخوان المسلمين والمتعاطفين معها، حيث صدر بحق بعضهم قرارت حبس فوري تمهيدًا لإحالتهم إلى نيابة أمن الدولة العليا.
بعض المصادر القانونية والحقوقية رجحت أن تكون تلك الحملة بسبب قرب الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها بداية العام القادم وتوجيه رسائل إنذار وتحذير للإخوان بعدم دعم أي مرشح آخر في مواجهة السيسي، والابتعاد عن المشهد السياسي الانتخابي القادم خاصة في ظل المطالبة بمرشح جديد والاكتفاء بالمدتين الرئاسيتين للسيسي.
آخرون ذهبوا إلى أن الانتقادات اللاذعة التي وجهها البعض لأداء الحكومة والنظام بصفة عامة إزاء بعض الملفات، الداخلية والخارجية، أبرزها الكهرباء والملف المالي والأمن المائي والثقل الإقليمي والدولي، كانت وراء تلك الحملة التي تستهدف ترهيب المصريين من أي تجاوز للخطوط الحمراء في مستوى وحجم الانتقادات التي يمكن للإخوان والمعارضة بصفة عامة توظيفها والعزف عليها للإطاحة بالنظام الحاليّ.
البعض قد يرى فيما يحدث ازدواجية تعكس صراع أجنحة داخل النظام، لكن آخرين يعتبرونها في السياق ذاته، فإلغاء قرار التحفظ يستهدف في الغالب الصف الثاني والثالث من الجماعة وليس الصف الأول الذي يمثل الخطورة الأبرز وفق سردية السلطات الحاكمة، مع الإبقاء على سياسة الترهيب ذاتها من خلال الاعتقالات المستمرة وإن توقفت بين الحين والآخر.
هناك رأي آخر يميل إلى أن إلغاء التحفظ على أموال الإخوان قرار اقتصادي حقوقي في المقام الأول، يهدف به النظام تقديم رسائل طمأنة لرؤوس الأموال في الداخل والخارج، بما يخفف حدة الأزمة الحاليّة التي تواجهها البلاد جراء السياسات الاقتصادية والمالية الخاطئة، لكن حملة الاعتقالات المتزامنة قرار سياسي يهدف به السيسي ونظامه الحفاظ على كرسيه ووأد أي محاولات تعرقل طموحه نحو ولاية رئاسية جديدة، وفي هذه الحالة فإن القرارين يكملان بعضهما البعض ولا تعارض بينهما، كونهما لنفس الهدف وإن كان بأساليب مختلفة.