تواصل العديد من الدول الغربية على رأسها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، دعواتها لإنهاء الانقلاب في النيجر وعودة الرئيس المعزول محمد بازوم للرئاسة، إلا أن قادة الانقلاب يواصلون خططهم وتوطيد انقلابهم.
كان القائد السابق للحرس الرئاسي عبد الرحمن تياني قد استولى على السلطة يوم 26 يوليو/تموز الماضي، وبرر الإطاحة بالرئيس بإخفاق الأخير على الأصعدة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، في بلد يعد من بين الأفقر في العالم رغم الثروات التي يمتلكها.
في الأثناء، حذّر قادة الانقلاب من أي تدخل أجنبي في بلادهم، خاصة مع بروز تقارير تفيد عزم باريس تنفيذ عملية عسكرية لإعادة حليفها بازوم للسلطة، في ظل خشيتها من خسارة امتيازاتها العديدة في هذا البلد الإفريقي الغني بالثروات، وأهمها اليورانيوم.
حرمان باريس من اليورانيوم
تبدو فرنسا أبرز المتضررين من الانقلاب الأخير في النيجر، لكن لم يقلقها الهجوم على سفارتها، ولا إضرام النار بأحد أجزائها، ولا حتى حرق أعلامها والمطالبة بخروجها من البلاد – غير مأسوف عليها -، وإنما أقلقها قرار السلطات الجديدة تعليق صادرات اليورانيوم إليها.
تقول تقارير إعلامية، إن قرار سلطات الانقلاب فيما يتعلق بوقف تصدير اليورانيوم إلى فرنسا، والصادر عن رئيس المجلس الوطني عبد الرحمن تياني، سيكون ساري المفعول انطلاقًا من الأحد القادم.
إن تحقق فعلًا وعيد سلطات الانقلاب في النيجر وقطعت إمدادات اليورانيوم عن فرنسا، فإن ذلك سيمثل ضربة قوية لمصالح باريس، ذلك أن بروز فرنسا كقوة نووية عالمية، لم يكن ليكون لولا الدول الإفريقية على رأسها النيجر، حيث يتم جلب اليورانيوم من صحاري النيجر إلى فرنسا حتى تزداد قوة ومناعة وازدهارًا.
نتيجة استنزافها ليورانيوم النيجر دون رقيب، طورت فرنسا استعمال الطاقة النووية حتى أصبحت جزءًا من الهوية الوطنية للبلاد، حيث تنتج محطات توليد الطاقة النووية ثلاثة أرباع كمية الكهرباء في فرنسا، رغم المخاطر الكبيرة التي تتسبب فيها المفاعلات النووية.
تنشر فرنسا نحو 1500 جندي في النيجر، وتمتلك قاعدة نيامي الجوية التي تعتبر ذات أهمية إستراتيجية كبرى
تنتشر المفاعلات النووية من شمال البلاد إلى جنوبها، وتستعمل لأغراض إنتاج الطاقة الكهربائية، عددها الإجمالي يصل إلى 58 مفاعلًا، ما يجعل فرنسا المنتج الثاني في العالم للطاقة النووية بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم استقلالها الرسمي في 3 أغسطس/آب 1960 عن المحتل الفرنسي، بقيت النيجر تابعة واقعيًا لباريس، فثرواتها ملك لفرنسا وشركاتها العاملة هناك، منها شركة “أريفا” التي تعمل في مجال الطاقة النووية واستخراج اليورانيوم وصنع المفاعلات النووية.
تسيطر هذه الشركة – عبر شركة تابعة لها تسمى “أريفا النيجر” – على استخراج يورانيوم النيجر الذي يمد فرنسا بـ40% من احتياجاتها من الطاقة النووية التي توفر 75% من الطاقة الكهربائية الفرنسية، دون أن يعود ذلك بالفائدة على أهل النيجر الذين يعانون من فقر مدقع.
تحتل النيجر المرتبة الثانية عالميًا من حيث إنتاج اليورانيوم بعد كزاخستان، وتبلغ حصيلة ما استخرجته الشركات الفرنسية من يورانيوم النيجر منذ العام 1971 إلى سنة 2012 ما مجموعه 110 آلاف طن تم استخراجها من منجمي سومايير وكوميناك، أما منجم إيمورارن الجديد الذي لا يزال قيد التجهيز فيفترض أن ينتج خمسة آلاف طن سنويًا على مدى 35 سنة قادمة.
أزمة طاقة في الأفق
خلال الحرب الروسية الأوكرانية، وفي أوج أزمة الطاقة التي عرفتها أوروبا حينها، كانت فرنسا الاستثناء، فتلك الأزمة لم تقلق سلطات الإليزيه كثيرًا، ذلك أنها لا تعتمد على الغاز الروسي لتوليد الكهرباء، وإنما على الطاقة النووية.
هذه الطاقة جزء كبير منها كما قلنا تأتي من النيجر، وفي حال أوقفت سلطات الانقلاب تصدير اليورانيوم، فإن فرنسا ستعرف أزمة طاقة في الأفق القريب، خاصة أنها ستضطر هذه المرة للجوء إلى روسيا التي تعد البلد الوحيد في العالم الذي يتمتع بإمكانية إعادة تخصيب نفايات اليورانيوم.
أنتجت النيجر السنة الماضية، 2020 طنًا متريًا من اليورانيوم، أي ما يعادل 5% من إنتاج التعدين العالمي، وفقًا لأرقام “الرابطة النووية العالمية”، علمًا بأن الإنتاج انخفض مقارنة بنظيره البالغ 2991 طنًا في عام 2020.
Urgent
Niger 🇳🇪 has just suspended export of uranium and gold to France this Sunday with immediate effect. pic.twitter.com/1HrAvW6SyL— Zagazola (@ZagazOlaMakama) July 30, 2023
صحيح أن فرنسا استبقت الأزمة وأمنت احتياطي اليورانيوم المخصب لبضع سنوات، كما عقدت اتفاقًا مع منغوليا لاستخراج اليورانيوم، منذ بضعة أسابيع، إلا أن المخاطر ما زالت موجودة، إذ تتوقع باريس اتخاذ السلطات الجديدة خطوات إضافية معادية لها.
وتأتي الاتفاقية الجديدة بين فرنسا ومانغوليا، ضمن سياسة باريس لتوزيع المخاطر من خلال عدم الاعتماد على بلد واحد، وتبلغ قيمة العقد الفرنسي المنغولي مليار دولار للاستثمارات لاستخراج اليورانيوم لمدة ثلاثين عامًا.
إمكانية التدخل العسكري
من الصعب أن تسكت فرنسا في حال تم تهديد مصالحها، وهو ما دفع قادة الانقلاب في النيجر إلى اتهام باريس بالرغبة في “التدخل عسكريًا” لإعادة الرئيس محمد بازوم إلى مهامه، ويعتبر بازوم من أبرز حلفاء فرنسا في القارة الإفريقية.
وجاء في بيان لقادة الانقلاب إن فرنسا “في إطار بحثها عن سبل ووسائل للتدخل عسكريًا في النيجر عقدت، بتواطؤ بعض أبناء النيجر، اجتماعًا مع هيئة أركان الحرس الوطني في النيجر للحصول على الأذونات السياسية والعسكرية اللازمة”.
يذكر أن فرنسا تنشر نحو 1500 جندي في النيجر، وتمتلك قاعدة نيامي الجوية التي تعتبر ذات أهمية إستراتيجية كبرى، إذ تستضيف طائرات دون طيار مسؤولة عن جمع المعلومات الاستخباراتية في جميع أنحاء منطقة الساحل والصحراء.
لم ترع فرنسا الانقلابات العسكرية فقط، وإنما استثمرت في ورقة الإرهاب أيضًا
بالحديث عن التدخل العسكري، حدد قادة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس)، للمجموعة العسكرية في النيجر مهلة أسبوع من أجل العودة الكاملة إلى النظام الدستوري، معلنين عدم استبعاد “اللجوء للقوة” في حال عدم التجاوب.
في الأثناء، حذرت الجزائر، من مغبة اللجوء إلى تدخل عسكري أجنبي لإعادة النظام الدستوري في النيجر، كما حذرت السلطات في بوركينا فاسو ومالي عبر بيان مشترك، من أن أي تدخل عسكري في النيجر لإعادة الرئيس محمد بازوم إلى الحكم، سيكون بمثابة “إعلان حرب على بوركينا فاسو ومالي”.
سجل تدخلات فرنسا العسكرية في النيجر
لفرنسا سجل حافل مع التدخلات العسكرية في القارة الإفريقية، وخصوصًا في النيجر، فخلال سنة 2013، أرادت النيجر التخلص من الهيمنة الفرنسية وفتح أبواب الاستثمار في اليورانيوم أمام دول أخرى نظرًا للزيادة التي شهدها الطلب العالمي لهذه المادة إضافة إلى توتر العلاقات مع “أريفا” الفرنسية.
لم يرق لفرنسا هذا الأمر، ما دفعها لإرسال عدد من المبعوثين إلى النيجر لتسوية الأزمة مع شركة “أريفا” المنتج الأول للمفاعلات النووية في العالم، لتنتهي المفاوضات بتوقيع الاتفاقية، لكنها اتهمت في ذلك الوقت بتمويل حركة تمرد الطوارق في شمال البلاد ضد السلطة المركزية.
قبل ذلك، تجرأ الرئيس السابق ممادو طانجا (1999-2010)، على إعادة التفاوض مع “أريفا النيجر” بشأن اليورانيوم، وفتح الاستثمار فيه أمام الشركات الأجنبية ومنح عدة تراخيص لشركات صينية وهندية وكندية، وهو ما أزعج الفرنسيين.
سارعت فرنسا للتدخل وتدبير انقلاب عسكري في فبراير/شباط 2010 أطاح بالرئيس طانجا وبطموحاته التحررية التي دفعته إلى تجاوز الخطوط الحمراء الفرنسية المتمثلة في المس بمصالح “أريفا” وفتح أبواب النيجر أمام الصين.
سنة 1974، طالب الرئيس النيجري آنذاك حماني ديوري بزيادة حصة دولة النيجر من عائدات اليورانيوم التي تستخرجها الشركات الفرنسية من بلاده، وذلك عقب قرار فرنسا الاعتماد على الطاقة النووية، لكن رد باريس كان مغايرًا، إذ كان عبر رعايتها انقلابًا عسكريًا في أبريل/نيسان 1974 قاده الجنرال سيني كونتشي.
لم ترع فرنسا الانقلابات العسكرية فقط، وإنما استثمرت في ورقة الإرهاب أيضًا، إذ وظفت باريس الهجوم الذي نفذته القاعدة في سبتمبر/أيلول 2010 على مقر “أريفا” في آرليت بالنيجر واختطاف 7 من عمالها، وممارسات الجماعات المسلحة في مالي، لشرعنة تدخلها العسكري في المنطقة ونشر الآلاف من جنودها هناك.
صحيح أن النيجر 2023 ليست نفسها النيجر 2010، إذ عرفت البلاد والمنطقة ككل تحولات كبيرة، جعلت النفوذ الفرنسي في تراجع وتقهقر، لكن ذلك لا يمنع إمكانية “تهور” فرنسا وشن هجوم عسكري على البلاد للحفاظ على مصالحها هناك.