حين تسير في شارع الاستقلال الشهير وسط إسطنبول، تطالعك على يمين الشارع ويساره ممرات ضيقة مسقوفة، لكل منها اسم مكتوب أعلى الزقاق، ومن بين أبرز هذه المعابر “سوريا باساج” (Suriye Pasajı)، ويعني باللغة العربية “ممر سوريا”، يقع بالقرب من نهاية الشارع ناحية “التونيل القديم”.
“الباساج” هي كلمة من بين 5 آلاف كلمة فرنسية تمَّ استيعابها في اللغة التركية العثمانية، حيث بدأت تستخدَم في تركيا بعد نصف قرن من ظهورها في باريس، و”الباساج” عبارة عن ممر ضيق ازدهر مطلع القرن الـ 20، يمرّ عبر البنايات ويربط بين الشوارع والأزقة، وما زال يعجّ بالحياة حتى الآن، حيث يمتلئ بمحال الملابس والورود، وبالمطاعم والمقاهي والحانات.
يتميز “سوريا باساج” بواجهة كلاسيكية فريدة تحمل خصائص العمارة اليونانية والرومانية والفرنسية، تمَّ البدء ببنائه عام 1901 من قبل تاجر الأقمشة السوري حسن حلبوني باشا، وقريبه محمد عبود باشا، الذي كان رئيس غرفة تجارة إسطنبول في ذلك الوقت، وقد كلّفا المهندس المعماري اليوناني ديميتري باسيلاديس بتصميم المبنى، واستغرق ذلك 8 سنوات.
إذًا، سُمّي الممر الإسطنبولي بـ”سوريا باساج” تيمّنًا بالتجار السوريين الذين وجّهوا ببنائه، خاصة أنهم اشتهروا بنزاهتهم وكانوا محل تقدير في تركيا ودول البلقان، حيث اشتهرت عائلة الحلبوني بصناعة وتجارة الأنسجة الحريرية، ونقلوا تجارتهم بين بلاد الشام ومصر وإسطنبول، لتنشط تجارتهم فيما بعد في جميع أرجاء الممالك العثمانية.
يلفت “سوريا باساج” الانتباه بنسيجه التاريخي العريق، حيث يربط شارع الاستقلال بشارع تيموني “شارع غونول” سابقًا من جهة، وشارع الدراويش من جهة أخرى، تحيط بالمدخل أبواب رائعة من الحديد تزينها قنطرة مزخرفة تؤدي إلى رواق فسيح، يتكوّن “الباساج” بالعموم من 3 مبانٍ منفصلة، وبمرور الوقت تمَّ ربط المباني ببعضها عن طريق الجسور وأخذت شكلها الحالي.
يحوي “الباساج” ما يقرب من 38 متجرًا و42 شقة، ويتألّف من 6 طوابق باستثناء الطابق الأرضي، وتمَّ تصميم الطابق السفلي ليكون بمثابة بازار يعجّ بالمتاجر، والأجزاء العلوية كمساكن تزينها النوافذ ذات الأقواس المثلثية.
ربما يعرف القليل منا أن “سوريا باساج” رافق التطور الحضاري والتقني لمدينة إسطنبول على مرّ أجيال عديدة، لما كان يتمتّع به من موقع استراتيجي وأهمية خاصة، وبحسب الكاتب التركي كورتولوش تورغاي، كان أول مبنى بعد القصر الرئاسي تصله الكهرباء وكذلك الغاز، كما شهد تطبيق نظام المصعد المزدوج لأول مرة في إسطنبول، واستضاف على مرّ أكثر من قرن من الزمن شخصيات وعائلات مرموقة تنتمي إلى ثقافات مختلفة.
“سوريا باساج” له أيضًا تاريخ وثيق الصلة بعالم الفن، حيث شهد افتتاح أول سينما في تركيا، “سينما سنترال”، فضلًا عن احتوائه على مقرّ الجريدة اليونانية “أبويفماتيني” التي تأسّست عام 1925، كذلك يبرز فيه محل الثياب القديمة النادرة الأشهر في المدينة By Retro، حيث يجذب عشاق العصور القديمة، فضلًا عن صانعي السينما والدراما التاريخية، ويزوّدهم بالأزياء الكلاسيكية المميزة، إذ يعرض أزياء غريبة وأخرى تقليدية تعود لحقبة الثلاثينيات، ومن الممكن أن تجدَ لديه فساتين الزفاف الملكية، والملابس العسكرية القديمة، والبدلات الرسمية، وكذلك القبّعات والأوشحة وربطات العنق.
رغم مرور السنوات، بقيَ “سوريا باساج” يحافظ على هيبته ورونقه وسط زحام حي بيوغلو وشارع الاستقلال، حتى لو تمَّ نسيانه قليلًا، لا سيما أنه ترك بصمته عبر التاريخ، فعادة ما يتوقف أولئك الذين يرغبون في شراء السجلّات القديمة عند “سوريا باساج”، أو أولئك الذين يودون زيارة محلات الجلود والفراء والإكسسوارات.
كذلك تنتشر في “سوريا باساج” اليوم بعض مكاتب المحاماة ومحلات الحلويات التقليدية، فضلًا عن ورش العمل الفنية والمكتبات، ولا بدَّ لزائره الجلوس في المقهى التقليدي، والاستمتاع بتناول كأس من الشاي التركي على أنغام الموسيقى التراثية في رحلة خارج الزمن، بعيدًا عن عصر السرعة الذي بات يعدّ شارع الاستقلال خير مثال عليه.
وفي معرض الحديث عن ثقافة بناء “الباساج” في إسطنبول، يوجد ما لا يقلّ عن 14 ممرًّا اليوم في شارع استقلال، ومن الباساجات الشهيرة في الشارع “تشتشيك باساج” أو ممر الورود، الذي بُني على أنقاض أول مسرح تركي عام 1844، وكانت تقام فيه الاستعراضات بحضور السلاطين والأمراء.
وأخذ “تشتشيك باساج” تسميته الحديثة في عهد الجمهورية التركية، عندما أصبح شارعًا لبيع الزهور بكل أنواعها وأصنافها، حيث كانت النساء من طبقات النبلاء تأتي خصيصًا للحصول على الزهور من الممر.
أيضًا يعدّ “أصليهان باساج” من الممرات المميزة في شارع الاستقلال، يقصده غالبًا محبّو الكتب القديمة، حيث يعرَف باسم بازار الكتب المستعملة، وهو من أهم أسواق إسطنبول للكتب، ويتألّف “أصليهان باساج” من طابقَين، يحتوي كلاهما على الكتب والمجلات والرسوم الهزلية والملصقات المستعملة.
كذلك يحتوي العشرات من المحلات التجارية والمكتبات التي تغطّي كل شيء، عن أساطير الأناضول والروايات الخيالية وكتب الفن المعاصر.
وشارع الاستقلال من أشهر الشوارع التجارية في تركيا بشكل عام وإسطنبول بشكل خاص، يزوره يوميًّا ما يقارب 3 ملايين شخص بقصد التسوق والتنزُّه، ولا تهدأ فيه الحركة على مدار الساعة.
ويحتضن الشارع الذي يمتدّ إلى نحو 1.5 كيلومتر الكثير من المباني الأثرية ومحال الملابس والمكتبات ومتاجر الموسيقى والمعارض الفنية ودور السينما والمسارح والمقاهي، ويمرّ فيه مترو قديم يعود تاريخه إلى العهد العثماني.