قبل توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، خاضت منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي مفاوضات عدة، ولكنهما أجلا الحديث عن قضايا حساسة لمرحلة أطلقا عليها اسم “قضايا الحل النهائي”، والتي تمثلت بحق عودة اللاجئين والقدس والحدود والمياه والمستوطنات.
حتى يومنا الحاليّ، ظلت هذه القضايا الحساسة معلقة، دون أي حلول أو سبل للتغيير، ومن أهمها ملف المياه الذي يعد أبرز الملفات التي يتحكم بها الاحتلال الإسرائيلي، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية المحتلة بما في ذلك القدس الشرقية، إذ يحظر في الضفة حفر أية آبار دون موافقة مسبقة وبنسبة محددة خاضعة لضوابط يحددها هو، حتى إن كانت داخل المناطق التي توصف بأنها “أ”.
ويعدّ اتفاق غزة-أريحا المبرم في مايو/ أيار 1994 من الاتفاقيات التي أشارت إلى اعتراف الجانب الإسرائيلي بالحقوق المائية الفلسطينية، حيث جاء في نص الاتفاقية: “تعترف “إسرائيل” بالحقوق المائية للفلسطينيين في الضفة الغربية، وسيتم التفاوض حول تلك الحقوق للتوصُّل إلى تسوية بشأنها في اتفاقية الحل النهائي”.
كما تناولت المادة الثانية من الفقرة 31 في اتفاقية غزة أريحا مسألة المياه، ونُقِلت صلاحيات محددة حول المياه إلى السلطة الفلسطينية، دون أن تتطرّق الاتفاقية إلى قضية الحقوق المائية، وفي اتفاقية أوسلو الثانية تضمنت المادة 40 (اتفاقية المياه والمجاري) الأساس الذي ستُوضع عليه الخطط الخاصة بقطاع المياه وتنفيذ المشاريع أثناء المرحلة الانتقالية، إلى حين التوصُّل إلى تسوية نهائية في مفاوضات الحل النهائي.
أسّست السلطة الفلسطينية سلطة المياه الفلسطينية بموجب القانون رقم 2 للعام 1996، لتتولى هيكلة قطاع المياه، وإدارة المصادر المائية، وتنفيذ السياسات المائية، والإشراف والمراقبة على مشاريع المياه في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، ومتابعة تنفيذ ما ورد في المادة رقم 40، واستغلال ما تمَّ تخصيصه في الاتفاقية من كمّيات مائية للفلسطينيين.
كما أُوكل إليها الإعداد لمفاوضات الوضع النهائي، لضمان وصيانة الحقوق المائية الفلسطينية المنصوص عليها في اتفاقية المرحلة الانتقالية.
ازداد تحكُّم السلطات الإسرائيلية في كميات المياه المخصصة إلى المناطق الفلسطينية بعد الاحتلال، وأدّى ذلك إلى زيادة معدل استهلاك الفرد الإسرائيلي ليوازي ثلاثة أو أربعة أضعاف معدل استهلاك الفرد الفلسطيني.
يتضح من المعلومات والسجلّات المتوفرة أن نسب استهلاك الفرد الفلسطيني والمستوطن الإسرائيلي قبل عام 1948 من المياه للأغراض المنزلية والزراعية كانت متساوية، غير أن الوضع تغير بعد رسم خط الهدنة (Armistice Line) عام 1949، إذ بدأت “إسرائيل” تضع العقبات للحدّ من تطوير الآبار والينابيع الفلسطينية، وعملت على استغلال مصادر المياه الفلسطينية، فازدادت هوة الاستهلاك المائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين لصالح الإسرائيليين.
بدأ الاحتلال عام 1964 في استغلال مياه حوض نهر الأردن، دون أن يراعى حقوق الدول المشاركة في النهر، وبدأ في تجفيف بحيرة الحولة وتحويل مياه نهر الأردن عبر ما يسمّى بـ”الناقل الوطني للمياه”، وضخّ ما يزيد عن 450 مليون متر مكعب سنويًّا إلى صحراء النقب والمناطق الجنوبية من الساحل.
تطورت المأساة بعد هزيمة 1967 واحتلال “إسرائيل” للجولان والضفة الغربية وقطاع غزة، فتعاظمت السيطرة الإسرائيلية على مصادر المياه، خاصة الجزء السفلي من نهر الأردن، ودمّرت “إسرائيل” مضخات المياه، وألحقت أضرارًا كبيرة بالأراضي الزراعية على امتداد نهر الأردن.
ازداد تحكُّم السلطات الإسرائيلية في كميات المياه المخصصة إلى المناطق الفلسطينية بعد الاحتلال، وأدّى ذلك إلى زيادة معدل استهلاك المستوطن الإسرائيلي ليوازي ثلاثة أو أربعة أضعاف معدل استهلاك الفرد الفلسطيني، دون الأخذ بعين الاعتبار استهلاك المستوطنين الذي يعادل من خمسة إلى ستة أضعاف استهلاك الفرد الفلسطيني.
يستهلك الفلسطينيون في قطاع غزة والضفة الغربية نحو 220 مليون متر مكعب من المياه سنويًّا، أكثر من نصف كميتها يشترونها من شركة “ميكوروت” الإسرائيلية.
توجد في الضفة الغربية وحدها 3 أحواض ضخمة للمياه توفر أكثر من 650 مليون متر مكعب، إلا أن “إسرائيل” تسيطر عليها، وتتيح للفلسطينيين الاستفادة من 20% منها فقط، ويقع فوق الحوض الشرقي والحوض الغربي والحوض الشمالي الشرقي مئات الآبار لاستخراج المياه.
رغم أن الحوض الغربي للمياه يقع على جانبَي الخط الأخضر، إلا أن الحوض الشرقي يقع بالكامل في الضفة الغربية، ومع ذلك تسيطر “إسرائيل” عليهما إضافة إلى الحوض الشمال الشرقي.
يعد الحوض الغربي الذي يقع في طولكرم وقلقيلية وغربي جنين والخليل ورام الله هو الأضخم، لكن الفلسطينيين لا يسمح لهم إلا باستخراج 15% من قدرته، والحوض تعبير جيولوجي عن خزّان مياه جوفي في باطن الأرض، يحتوي على مخزون متجدد من المياه ترفده مياه الأمطار.
يستهلك الفلسطينيون في قطاع غزة والضفة الغربية نحو 220 مليون متر مكعب من المياه سنويًّا، أكثر من نصف كميتها يشترونها من شركة “ميكوروت” الإسرائيلية، إذ يسيطر الاحتلال على شبكات المياه الرئيسية بين المدن والقرى الفلسطينية وعلى معظم آبار المياه الجوفية، فيما تمتلك البقية سلطة المياه الفلسطينية والبلديات.
وبمعدل أقل من الموصى به عالميًّا، يستهلك الفرد الواحد في فلسطين المحتلة 80 ليترًا من المياه، فيما يستهلك المستوطن الإسرائيلي أكثر من 300 ليتر، وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
سرقة المياه: لا ماء لك
يقول شداد العتيلي رئيس سلطة المياه الفلسطينية الأسبق والخبير المائي الدولي، إن الاحتلال الإسرائيلي يدفع الفلسطينيين نحو شراء المياه، سواء عبر شركة المياه الإسرائيلية “ميكروت” أو من خلال المياه المتنقلة لتوفير الاحتياجات الدنيا من المياه.
ووفق حديث العتيلي لـ”نون بوست”، فإن إجمالي الديون المتراكم على الهيئات والمجالس المحلية والبلدية في الضفة الغربية يصل إلى مليار و400 مليون شيكل إسرائيلي، أي ما يقترب من 400 مليون دولار أمريكي، نتيجة عدم تمكّنها من سداد هذه الفواتير لصالح سلطة المياه الفلسطينية.
ويضيف أن الفلسطينيين يشترون من الجانب الإسرائيلي سنويًّا قرابة 100 مليون متر مكعب، منها 85 مليون متر مكعب لصالح الضفة الغربية و15 مليون متر مكعب لقطاع غزة، حيث يحظر الاحتلال الإسرائيلي حفر الآبار في الضفة الغربية ويضع اشتراطات قاسية.
ويسرق الاحتلال نحو 52% من مياه أراضي الضفة الغربية، بينما تذهب نسبة 32% لصالح المستوطنات، وتبقى أخرى صغيرة للفلسطينيين تقدّر بنسبة 16%، و”هذه الكمية منخفضة جدًّا مقارنة بحاجة الفلسطينيين إلى المياه للزراعة والاقتصاد والاستهلاك”.
يشير رئيس سلطة المياه الأسبق إلى أن الاحتلال، إلى جانب سرقة المياه، يعمل على فرض مبالغ مالية باهظة مقابل كل متر مكعب من المياه يتم شراؤه، حيث يبيع الاحتلال المتر المكعب الواحد بمبلغ مالي يصل إلى 1.3 دولار أمريكي، في المقابل تبيع الهيئات المحلية المتر المكعب من المياه بنصف دولار أمريكي تقريبًا، حيث يوجد دعم حكومي لهذا الملف.
يؤكد أيضًا على أن الكثير من المناطق الريفية الفلسطينية في الضفة الغربية لا يحصل فيها الفرد إلا على 20 ليترًا فقط من المياه، نظرًا إلى سرقة المياه من قبل الاحتلال وتحويلها نحو المستوطنات وتركيزها على المستوطنين فقط، وترك الفلسطينيين أمام خيارات صعبة.
جنوب الضفة ووسطها.. تقليص جديد للمياه
قبل أسابيع، اتخذت شركة المياه الإسرائيلية قرارًا بتخفيض كميات المياه التي تورّدها لمحافظتَي بيت لحم والخليل، الأمر الذي زاد من حدة أزمة المياه التي باتت تشكّل جانبًا أساسيًّا من حياة الفلسطينيين، في ظل ارتفاع الحرارة الشديد في الأسابيع الماضية.
ووفق إحصائيات فلسطينية وتقديرات، قدم الفلسطينيون حوالي 6 آلاف و732 طلبًا لبناء المساكن والآبار خلال عام 2007، وافق الاحتلال على 13 منها فقط، ما يدلّل على السلوك والمعاملة الرسمية تجاه الفلسطيني وحضوره في موطنه وممارسة حقه الطبيعي، مقابل التسهيلات الممنوحة للمستوطنين.
في السياق، يقول رئيس بلدية الخليل تيسير أبو سنينة، في حديثه لـ”نون بوست”، إن الشركة الإسرائيلية للمياه قلصت 6 آلاف كوب مياه من حصتَي الخليل وبيت لحم، في الوقت الذي تبلغ فيه الحصة التي يتم بيعها للفلسطينيين يوميًّا 20 ألف كوب من المياه.
ووفق أبو سنينة، فإن حاجة المدينة للمياه تبلغ أكثر من 40 ألف كوب، بينما تحصل على نصف الكمية التي تحتاجها، ما يعني أن دورة المياه في المدينة 20 يومًا تقريبًا، أي أن المنطقة تصلها المياه كل 20 يومًا، وبعد هذا الخصم ستزيد أيام دورة المياه.
ويتابع رئيس بلدية الخليل: “لا يملك أحد حلولًا طالما أن لا سيادة للفلسطينيين على المياه، ويعتمدون على الاحتلال في تغطية احتياجاتهم، والذي يستخرج بدوره الكمّيات من أراضي الفلسطينيين لتغطية احتياجات المستوطنين بشكل تعسفي، ويكرّس الفصل العنصري”.