الفرص والمخاوف
وقّع الرئيس الأمريكي بايدن في 9 مارس/ آذار 2022 الأمر التنفيذي رقم 14067، والذي يوجّه الوكالات الفيدرالية المعنية للعمل على تسريع إطلاق العملة الرقمية الأمريكية (الدولار الرقمي)، من ناحيته يدعم رئيس وزراء المملكة المتحدة، ريشي سوناك، بشدة الانتقال من النقود المادية إلى الرقمية، وبات مصطلح بريتكوين (Britcoin) أو الجنيه الرقمي متداولًا.
بينما نشرت المفوضية الأوروبية خطتها التشريعية الخاصة باليورو الرقمي (Digital Euro)، وبالنسبة إلى الصين صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فإنها تسبق كلًّا من أمريكا والاتحاد الأوروبي بخطوات في هذا الصدد، لأنها في مرحلة اليوان الرقمي التجريبي (Pilot Digital Yuan).
بشكل عامّ، يوجد أكثر من 120 دولة بلغت مراحل مختلفة في مشروع إطلاق عملتها الرقمية، فبعض الدول أطلقت بالفعل عملتها الرقمية، مثل الباهاما ونيجيريا وجمايكا، ودول أخرى إما في مرحلة تجريبية للعمل الرقمية مثل الصين، وإما تدرس وتعمل على مشروع إطلاق عملتها الرقمية من خلال البنك المركزي للدولة.
وعمومًا، هذا النوع من العملات يطلَق عليه من قبل جميع المؤسسات الدولية CBDC، وذلك اختصارًا لـ Central Bank Digital Currency أو العملة الرقمية للبنك المركزي.
ما هي عملة البنوك المركزية الرقمية (CBDC)؟
بدايةً، يجب التفريق بين العملات الرقمية (CBDC) والعملات المشفّرة (Cryptocurrencies)، فهما على طرفَي نقيض، وسنبيّن ذلك لاحقًا في هذا التقرير.
العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDC) تعني باختصار العملة الوطنية الرقمية القابلة للبرمجة، والتي يصدرها البنك المركزي في البلاد، حيث حسب هذا المشروع، سيتم مع الوقت إلغاء العملة الورقية كمرحلة نهائية، بمعنى آخر سيكون هناك دولار رقمي ويورو رقمي وجنيه رقمي ويوان رقمي وريال رقمي وهكذا.
فهي بالأساس شكل رقمي للعملة الورقية التي نعرفها اليوم، وعلى غرار الأوراق النقدية الحالية، سيتم إصدار عملات البنوك المركزية لكن بشكل جديد هو الشكل الرقمي، وليتمَّ هذا التحوّل سيكون لدى جميع المواطنين حساباتهم الخاصة لدى البنك المركزي، وسيتم تنفيذ معاملات الدفع والقبض الخاصة بحساباتهم عبر هواتفهم المحمولة.
المدافعون عن فكرة العملات الرقمية يرون أنه سيكون هناك الكثير من المزايا، من خلال التحول من الشكل المادي أو التقليدي إلى الشكل الرقمي للعملات، من حيث:
• إنها وسيلة آمنة للدفع والتحويلات الرقمية.
• ستساعد وتدعم الاستقرار المالي.
• ستنخفض تكلفة المدفوعات عبر الحدود.
• ستؤدي إلى الشمول المالي، بحيث تساعد العملة الرقمية أولئك الذين لا يستطيعون الوصول إلى الخدمات المصرفية على الوصول إلى المدفوعات عبر هواتفهم المحمولة.
• كذلك ستقلّ الأنشطة المتعلقة بغسيل الأموال وتجفيف مصادر تمويل الإرهاب.
المخاوف من التحوّل إلى العملات الرقمية
من جهتهم، يرى المعارضون لهذا التحوّل الكبير أنه بذلك سيتم القضاء على الخصوصية المالية وحتى الشخصية، نظرًا إلى أن البنك المركزي سيتمكّن من مراقبة أين/ ومتى/ ولصالح من ينفق الفرد أمواله الخاصة، وهذا يعني أنه يمكن للحكومات أيضًا التحكم بطريقة الإنفاق.
بعبارة أخرى، النظام الجديد سيمكّن الحكومات من حظر أو عرقلة المدفوعات ذات الصلة بمعارضة السلطة المركزية وسياساتها، ولعلّ الجميع يذكر الإجراء الذي اتّخذته الحكومة الكندية في العام الماضي، حين جمّدت الحسابات المصرفية الشخصية لسائقي الشاحنات المضربين، الأمر الذي حرمهم من دفع أثمان الطعام.
وذلك طبعًا مثال صغير مقارنة بما يمكن أن يحصل عندما تكون النقود رقمية ومركزية بالوقت نفسه، حيث سيتحكمون بإنفاقنا على التبرعات وحجز التذاكر والترفيه والاستثمار، وغيرها الكثير.
يمكن للحكومات من خلال البنك المركزي أن تعرقل المدفوعات والمقبوضات الخاصة بالمعارضين، وهذا بالنسبة إلى الدول الديمقراطية، أمّا عندما يتعلق الأمر بالأنظمة غير الديمقراطية، فهناك مجال واسع للسيطرة على مواطنيهم
بمعنى آخر، يمكن أن يرقى دور البنك المركزي إلى الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة والدول الغربية، بفرض عقوبات بحقّ الدول الفقيرة والصغيرة، بسبب تحكمها بنظام الحوالات الدولي “سويفت”.
فبالمثل يمكن للحكومات من خلال البنك المركزي أن تعرقل المدفوعات والمقبوضات الخاصة بالمعارضين، وهذا بالنسبة إلى الدول الديمقراطية، أمّا عندما يتعلق الأمر بالأنظمة غير الديمقراطية، فهناك مجال واسع للسيطرة على مواطنيهم من خلال حظر المدفوعات المتعلقة بأي أنشطة تعتبر ضد النظام.
ومثال على ذلك عرقلة التبرعات لأنشطة تعتبرها هذه الأنظمة معارضة أو معادية، أو دفع الأموال للمشاركة في الاعتصامات والتظاهرات، وحتى تعطيل الدفع لوسائل النقل التي تخدم التنقل من أجل أنشطة متعلقة بالتجمهُر والتعبير عن الرأي.
ثمّة دور آخر مهم ستلعبه الحكومة بعد التحوّل إلى النقود الرقمية، وهو السيطرة على الاقتصاد من خلال استخدام أدوات السياسة المالية والنقدية، إما لتحفيز الاقتصاد وإما لإبطائه في حالات التضخُّم، كما هو الحال الآن.
فمن خلال البنك المركزي، تستطيع الحكومة ببساطة دفع الأفراد إلى زيادة الإنفاق عن طريق إيداع الأموال الرقمية في محافظهم لدى البنك المركزي، وهناك أحاديث أن الأموال في حالات معيّنة ستكون خاضعة لفترة صلاحية، بحيث تصبح بلا قيمة عند انتهاء صلاحيتها، وذلك لدفع الجمهور إلى زيادة الإنفاق لتحفيز الاقتصاد في أوقات الركود، وما دامت أموال الأفراد في محافظ رقمية لدى البنك المركزي، فيمكنه فرض فائدة سلبية على الودائع.
سوف يتحوّل دور البنوك المركزية في العصر الجديد للنقود الرقمية إلى صندوق استثماري تابع للحكومة، وليس كمنظمة مستقلة، وعليه ستمنح النقود الرقمية الحكومات أدوات لا حصر لها للسيطرة على حياة الناس، بحيث يعود العالم إلى عصر الشيوعية.
مواجهة العملات الرقمية والبيتكوين (Bitcoin)
ليس سرًّا أن أحد أهم الأهداف للعملات الرقمية هو مقاومة ومحاربة نجاح العملات المشفرة، وعلى وجه الخصوص عملة البيتكوين لأنها تعتبَر دولار أو ذهب العملات المشفرة.
فبعد أن وصل حجم سوق العملات المشفرة إلى أكثر من 3 تريليونات دولار أمريكي في أواخر عام 2021، بدأت الحكومات المركزية تشعر بالقلق من أن البيتكوين سيحلّ محل عملاتها التقليدية، ولو على المدى الزمني المتوسط أو البعيد، لذلك شاهدنا العديد من الإجراءات التي اتخذتها الحكومات المختلفة ضد صناعة التشفير خلال السنوات القليلة الماضية.
لكن هل يمكن أن تكون العملات الرقمية الحكومية بديلًا مقبولًا للعملات المشفرة وعلى رأسها البيتكوين؟ الجواب المباشر: لا، فرغم أن كليهما يعتمد على تقنية Blockchain أو سلسلة الكُتل، لكنهما في الواقع متناقضان تمامًا من حيث الأهداف، والطريقة التي يعمل بها كل منهما.
إذ تمتاز البيتكوين بأنها عملة لا مركزية، بمعنى أنه لا توجد سلطة مركزية للتحكم في إصدار العملة، بل يمكن لأي شخص أن يعمل كمدقّق للمعاملات المالية عبر شبكة البيتكوين، طالما أنه يتبع البروتوكول الخاص بالشبكة.
حيث يقوم هؤلاء المدققون أو المراجعون بتنفيذ الآلاف من معاملات البيتكوين بطريقة عمياء، لأنهم يتعاملون مع أرقام محافظ، على عكس العملات الرقمية الحكومية، فهي مركزية بالكامل وتسيطر عليها الحكومة من خلال بنكها المركزي.
وهناك ميزة أخرى لعملة البيتكوين هي ندرتها، إذ إن عدد وحدات البيتكوين محدود في المجموع بمقدار 21 مليون وحدة، وهو ما يُعدّ علاجًا رائعًا للتضخم الذي ينجم في كثير من الحالات عن سياسات قصيرة النظر، تتبعها البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم كما رأينا خلال العامَين الماضيَين، على وجه الخصوص في الدول الغربية المتقدمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة باعتبارها تسيطر على ربع اقتصاد العالم.