امتلك الشيشانيون إثباتًا ماديًا وتراثًا غنيًا يدل على تأثيرهم الثقافي والمادي وتفاعلهم مع الثقافات المختلفة عبر التاريخ، ولطالما كان هذا التراث الملحمي شاهدًا على ذاكرة الأمة وعائقًا أمام الدعاوى الروسية المزيفة، لذا وقع ضمن أهم الأهداف العسكرية التي خططت الأنظمة الروسية لمحوها، بدءًا من الإمبراطورية الروسية ثم السوفيتية وصولًا إلى الخلفاء الحاليّين.
على مر تاريخ الصراع الشيشاني الروسي، لم يكن احتلال الأرض الهدف الوحيد، فبشكل دؤوب، صاحب احتلال الروس الأرض وإخضاع السكان، إبادة الموروث الثقافي والذاكرة التاريخية للشيشانيين وتدمير أي مؤسسات ثقافية أو فكرية تساند ذاكرتهم أو تضفي شرعية على المقاومة، فقد كان الروس على وعي تام بأن التراث الشيشاني لا يرمز فقط إلى أعدائهم، لكنه شكل أصيل من أشكال الحياة، لذا أرادوا طمسه ومنعه من التكوّن من جديد، ليسهل عليهم إخضاع الشيشان.
ونتيجة لذلك، لم يعان الشعب الشيشاني سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وديموغرافيًا فقط، بل فقد كذلك أحد أهم أشكال الوجود الجمعي، لذا ينظر الشيشانيون إلى فترة الهيمنة الروسية على أنها محاولة لتدمير شخصيتهم من خلال إبادة تراثهم القومي وقطع روابطهم الدينية والمادية مع ماضيهم.
وقبل أن استفيض في هذا الموضوع، أود الإشارة إلى أن العالم لم يغمض عينيه فقط عن قتل الأمة الشيشانية، بل تغاضى عن إبادة التراث الشيشاني التي ارتكبتها روسيا بشكل منهجي، ولم تنل هذه القضية حتى اليوم اهتمام الباحثين مثلما نالت على سبيل المثال البوسنة وكوسوفو والتبت وغيرهما، رغم أن التدمير الروسي للتراث الشيشاني أشد بشاعة من أخويه الصربي والصيني.
وبفضل سفاراتها ومواردها الإعلامية ودخولها العديد من المنتديات الدولية والثقافية، لم تتحكم موسكو في رواية الصراع و في أن تجعل أكاذيبها بديلًا عن الإبادة الثقافية والمعاناة الحقيقية التي عاشتها الشيشان، بل استطاعت كذلك أن ترسخ رؤيتها للصراع، وإعادة تأطيره كحرب داخلية ضد الإرهاب ومسرحية أخلاقية بين الخير والشر، أصبحت مقبولة الآن دون نقد!
تحدي القرون
إن حكاية إبادة الروس للتراث الشيشاني لها تاريخ طويل دامٍ، بدأت أولًا مع إمبراطورية رومانوف، ففي القرن السادس عشر تحت حكم “إيفان الرهيب” بدأ التوحش الروسي الذي احتل أجزاءً من الأراضي المنخفضة في الشيشان، لكنه لم يكتف باحتلال الأرض، بل جلب أعدادًا كبيرةً من الروس لتوطينهم في الشيشان، هذا التعدي أدى إلى زعزعة التوازن الديموغرافي في المنطقة.
واجه الشعب الشيشاني أوقاتًا عصيبةً، واستمر الصراع ما بين القرن السادس عشر والتاسع عشر، وخلال تلك الفترة الطويلة، استخدم الروس تكتيكات الإبادة والإرهاب لتدمير ثقافة وتراث الشعب الشيشاني، لكن هذا الوضع خلق روحًا قتاليةً عظيمةً للشيشانيين، إذا جعلهم يحاربون بعناد جيوش القيصر القوية ويحتضنون هويتهم الثقافية بكل قوة.
وبحلول عام 1826، وبعد صعوبات كثيرة، عززت روسيا قبضتها على منطقة القوقاز بأكملها وضمت الشيشان إليها، ومن المفارقات أن مدينة غروزني التي سيدافع عنها الشيشانيون في الحربين الأخيرتين، أنشأها القياصرة الروس عام 1818 لهدف وحيد، وهو تدمير الأمة الشيشانية وإنشاء مستوطنات للجنود الروس.
كان لدى الروس نهج وحشي في التعامل مع كل ما يمت بصلة للشيشان، فارتكبوا مذابح وعمليات إبادة وتهجيرًا قسريًا، ما أدى إلى تدمير السكان ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا، واضطرت أعداد كثيرة للهروب إلى تركيا، وكشفوا عن القصص المروعة التي تعرضوا لها، لكن ظل جزء كبير من الشيشانيين يحارب ببسالة كل أشكال الهيمنة الروسية من أجل الحفاظ على حريتهم وثقافتهم.
ثم حين قامت ثورة البلاشفة عام 1917، سارع الشيشانيون وشعوب شمال القوقاز الأخرى إلى اغتنام الارتباك الذي تلا هذه الثورة كفرصة للخروج من الجحيم الروسي، أعاد الشيشانيون إحياء مشروع “الإمام شامل” على يد حفيده “سعيد بك” وكان الهدف إقامة دولة مستقلة في شمال القوقاز تتمركز في الشيشان وداغستان.
تحالف البلاشفة مع الشيشانيين وأعطوهم وعدًا بتقرير مصيرهم مقابل أن يقفوا بجانبهم، وبالفعل صدق الشيشانيون وعود البلاشفة وساعدوهم في هزيمة أعدائهم، لكن في عام 1920 وفي حركة غادرة، وجه الروس أسلحتهم نحو حركة شمال القوقاز الإسلامية، ثم في غضون خمس سنوات، سحق البلاشفة الروس هذه المحاولة الأخيرة لإنشاء دولة تجمع الشيشان وداغستان في كيان واحد، ودون أي رحمة، عززت القوات السوفيتية وجودها في شمال القوقاز، إلى أن أعلنوا في العام 1936 الشيشان جمهورية اشتراكية سوفيتية.
إنكار الماضي
جلبت الحقبة السوفيتية للشيشانيين معاناة ومآسي لا توصف، فقد أطلق العنان لعملية تدمير التراث الثقافي للشيشان، أُنكر الماضي تمامًا، وتم إضفاء الطابع السوفيتي على شكل البلد، كان الشيشانيون تحت ضغط كبير بسبب محاولة الروس إدماجهم بشكل قاسٍ في الثقافة الروسية، لذا كانت اللغة والثقافة الشيشانية من أوائل الأشياء التي شهدت تدميرًا واسعًا.
لم ينظر الروس إلى اللغة الشيشانية باعتبارها لغة مواطني الدرجة الثانية، بل منعوا الشيشانيين من استخدام لغتهم الخاصة التي فرضوا تحويلها أولًا إلى الأبجدية السيريلية، ثم استخدموا أساليب قاسية في تحجيم وقمع اللغة الشيشانية، فإذا رغب الشيشانيون مثلًا في الحصول على وظيفة أو الحصول على تعليم، كان عليهم أن يتقنوا الروسية، اللغة المعتمدة في مناطق الشيشانيين! هذا إضافة إلى أن جميع أوامر السلطة كانت تصدر باللغة الروسية فقط.
وحين أراد الروس محو أي ذكرى تدل على وجود الناس الذين عاشوا هنا لقرون، دمروا جميع المواقع التراثية الدينية، حتى شواهد القبور أخذ الروس أحجارها واستخدموها في مشاريع البناء، أما المؤسسات الإسلامية بما فيها مساجد ومدارس الشيشانيين التقليدية ومحاكمهم الشرعية، فقد سويت بالأرض، وبعض المساجد حولها الروس إلى إسطبلات.
مُنع الشيشانيون من ممارسة عاداتهم وشعائر دينهم، حتى الحج إلى مكة ودراسة اللغة العربية، كانوا من المحرمات، وأيضًا حظر الروس عطلات الاحتفال بالأعياد الدينية أو الأعياد الشيشانية، وفرضوا الاحتفال بالذكرى السنوية للأحداث السوفيتية، مثل يوم الثورة 7 أكتوبر/تشرين الأول وعيد ميلاد الجيش الأحمر 23 فبراير/شباط ويوم النصر 9 مايو/أيار ويوم الاشتراكية الدولية 1 مايو/أيار ويوم رأس السنة.
كذلك استبدلت بالأسماء الشيشانية للمواقع والأماكن والنصوص التاريخية الأسماء الروسية الجديدة، وفي روايته “التوأم لا ينفصلان” وصف أناتولي بريستافكين الشيشان بأنها لم تعد موجودة، بسبب تقسيم أراضيها بين الجمهوريات المجاورة، وتغيير أسماء وهوية الأماكن الشيشانية بمرسوم صادر من مجلس السوفيت الأعلى.
لكن الخسارة الكبرى كانت في حرق الوثائق والمخطوطات الشيشانية القديمة والأعمال العلمية والأدبية المكتوبة بالأبجدية العربية – خصوصًا في عهد ستالين -، بحسب شهادة سكان مدينة غروزني في تلك الفترة، فقد جمعت أكوام الكتب والمخطوطات من المكتبات الخاصة ودور المحفوظات من جميع أنحاء الشيشان إلى ميدان غروزني المركزي، ولعدة أيام، أحرق الروس كل هذه الكتب والوثائق في وسط المدينة بنفس طريقة الفاشيين.
كذلك طال القمع إعدام العديد من القادة السياسيين والمثقفين الشيشان من الجيل الأقدم، وبشكل خاص، ركز الروس على قتل الزعماء الدينيين بسبب مقاومتهم السلطة، وبالأخص اصطياد أعضاء الجماعات الصوفية الذين صنفهم علماء الاجتماع السوفييت على أنهم “متعصبون متطرفون”.
وفي الواقع، كل هذه الوحشية الروسية، أدت إلى المقاومة والثورات المستمرة، فقد واجه السوفيت عدة انتفاضات خلال الثلاثينيات والأربعينيات، ومن اللافت أن الشيشانيين كانوا يعادون الحكم الروسي بشكل علني، وحتى مع قمع كل انتفاضتهم بشكل قاسٍ، استمروا في تحدي القوة السوفيتية، خصوصًا أئمة مساجد القرى الثائرين.
الأمر الذي جعل الروس يصنفون الشيشان كـ”أكثر الأمم جرأة وعنادًا”، وفي الواقع، كانت الشيشان بالفعل التحدي الأكبر للسوفيت في شمال القوقاز، لذا رأى الروس أن الحل الوحيد هو اقتلاع الشيشانيين من أراضيهم ومحوهم من الخريطة بعد أن فشلت كل المحاولات السابقة.
فجاء مخاض آخر حين كرر ستالين سياسة أسلافه، وهجر جميع الشيشانيين قسرًا إلى سيبيريا في شتاء عام 1944 بحجة أنهم تعاونوا مع الألمان – لا يوجد دليل ملموس على هذا التعاون -، أما الذين رفضوا التهجير، فقد قُتلوا وأحرقوا أحياء.
وعقب تهجير الشيشانيين مباشرة من أرضهم، سرق الروس كل الممتلكات المادية والثقافية من ديارهم، كان هناك تدفق مستمر من المركبات العسكرية لسرقة كل الممتلكات من منازل المُهجرين، وكانت العناصر الأكثر قيمة (في رأي الجنود) المجوهرات والسجاد والمعاطف والأحزمة القوقازية التقليدية والمنحوتات الخشبية والسيوف والخناجر العتيقة المرصعة بالذهب والفضة (صنعها يدويًا الحرفيون الشيشان في القرن الماضي).
الروس نجحوا نسبيًا في السيطرة على بقية شعوب القوقاز، فيما فشلوا في الشيشان، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى طبيعة الهوية الشيشانية الرافضة لكل أشكال الاندماج الروسي
جرت سرقة كل هذه الأشياء في الشاحنات العسكرية ونقلت إلى موسكو، أما المخطوطات القديمة والأطروحات اللاهوتية والفلسفية والسجلات التاريخية والأساطير القديمة ومؤلفات الأدب الوطني التي وجدوها في البيوت، فأُلقيت كلها في غروزني في الثلج، بجوار المراحيض العامة خارج قصر الرواد.
لكن حتى بعد سماح خروتشوف عام 1957 لمن تبقى حيًا من الشيشانيين بالعودة إلى ديارهم، تعرضوا لاضهاد منهجي لا هوادة فيه، كان الروس قد نهبوا واستولوا بالفعل على أراضيهم وبيوتهم عقب تهجيرهم، والأهم من ذلك، أن الشيشانيين مُنعوا من التحدث عن التهجير القسري أو حتى كتابة شهادات بشأن تجربتهم المؤلمة، وحظرت ذكرى الترحيل تمامًا حتى التسعينيات.
ورغم أن البيئة الثقافية الشيشانية دُمرت بشكل كامل نتيجة لسياسات الإبادة الروسية التي حاولت اقتلاع السكان من جذورهم، فإنها مع ذلك لم تكن قادرة على تدمير الذاكرة الجماعية بالكامل، إذ ظل الشيشانيون متمسكين بشخصيتهم، ودائمًا ما أظهروا على مر تاريخهم أن جاذبيتهم للإسلام والحرية لا يمكن قطعهما بسهولة.
وفي روايته “أرخبيل غولاغ” يؤكد المؤلف الروسي الشهير ألكسندر سولجنيتسين أن الشيشان هي الأمة الوحيدة التي رفضت قبول سيكولوجية الخضوع، كما يذكر أنهم لم يخفوا كرههم للروس وحاولوا كلما أمكن أن يجدوا لأنفسهم وظائف خارج نطاق الدولة السوفيتية التي نظروا لها بازدراء.
من اللافت حقيقة، أن الروس نجحوا نسبيًا في السيطرة على بقية شعوب القوقاز، فيما فشلوا في الشيشان، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى طبيعة الهوية الشيشانية الرافضة لكل أشكال الاندماج الروسي، بجانب الحركة الصوفية – النقشبندية والقادرية – حيث كانت قوة عنيدة ومتحدة، بنت “مساجد سرية مؤقتة” من أجل استمرار الكفاح، وظلت تعمل في السر مع العشائر الذين كانوا يحكمون الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية.
العودة: تأكيد الهوية
لم يكن الشيشانيون دميةً في يد الروس، لقد سعوا للاستقلال في كل فرصة متاحة، ودائمًا ما نظروا إلى أنفسهم كأمة حرة، لذا لم يكن من المستغرب حين بدأ الاتحاد السوفيتي في التفكك، أن يبدأ الشيشانيون في الثورة مرة أخرى.
لطالما كانوا مدفوعين بقصص وقيم الأئمة المجاهدين في القرون الماضية، ويبدو أن هذا الأمر ساعدهم على تحمل ضغط الأيديولوجية السوفيتية، وأيضًا كان الدين في غالب الأحيان مصدرًا للوحدة والإلهام في الصراع بكل أشكاله ضد روسيا، ومن الواضح كذلك أن الدين قدم لهم إطارًا أخلاقيًا لمقاومة الروس.
ومثلما اختفت المؤسسات التراثية والإسلامية سريعًا أيام حكم الروس، فقد عادت للظهور سريعًا في السنوات الأولى لحكم الرئيس الشيشاني جوهر دوداييف، وهذه المرة لم يكن على الشيشانيين العمل في السر.
كان من أوائل الأشياء التي أزالها الشيشانيون، هي النصب التذكارية والتماثيل التي نصبها الروس في أرضهم، كتماثيل ستالين ولينين والنصب التذكاري للجنرال القيصري الدموي “إرمولوف” وقد نوقشت بالحجر أسفل هذا النصب إحدى مقولات إرمولوف العنصرية عن الشيشانيين، لذا فجر الشيشانيون هذا التمثال الذي كان يرمز إلى إذلالهم.
“تمثال لينين” أطاح به الشيشانيون عام 1991 وجروه في شوارع غروزني ثم ألقوه في نهر سونزا
في الحقيقة، انخرطت الشيشان بشكل كبير في استعادة ماضيها، بنت عليه هويتها، وأعادت الاتصال بالعالم الإسلامي، كما تهافتوا بأعداد كبيرة على الحج والعمرة حيث حرموا منهما زمنًا، ونلاحظ أنه في هذه الفترة، تسارعت أسلمة الشيشان بشكل لافت، فظهرت الشعارات الإسلامية في تفاصيل الحياة، وضغط قسم كبير من السياسيين من أجل أسلمة المجال السياسي، بل وحتى المناهج الدراسية سرعان ما غيرها الشيشانيون.
في الواقع، اتخذت الحكومة الشيشانية خطوات مهمة لنزع الطابع الروسي من البلد واستعادة الهوية والتقاليد الأصلية، فأعادت تسمية المدن والشوارع والساحات، وبنت المساجد والمدارس الإسلامية بشكل واسع، من المهم جدًا ملاحظة أنه في إحصاء عام 1999 كان في الشيشان نحو 500 مسجد نشط، تم بناء أو إعادة بناء معظم هذه المساجد بعد عام 1991.
وفي لافتة غاية في الأهمية والأصالة، شكل الرئيس داوديف لجنة للبحث عن وجمع شواهد القبور التي استخدمها الروس لبناء ممرات المشاة ومزارع الخنازير، وجمعوا بالفعل كل الشواهد التي وجدوها وأنشأوا منها نصبًا تذكاريًا كبيرًا لذكرى وشهداء التهجير، ونوقشت عليه كلمات الرئيس الشيشاني: “لن نبكي.. لن ننسى.. لن نسامح”! فقد كانت هذه الكلمات تُتلى بشكل شائع، وأيضًا في فبراير/شباط 1994 قام الشيشانيون بإحياء الذكرى الخمسين للتهجير بصلوات وتجمعات وهتافات “لن يُنسى شيء.. لن يُنسى شيء”.
كذلك أصدرت الحكومة الشيشانية مرسومًا يقضي بأن توفر جميع المباني الحكومية غرفة للصلاة وأن ترتدي موظفات الحكومة الحجاب، بجانب إلغاء العطلات التي فرضها الروس واستعادة العطلات الدينية، وأيضًا اهتم الشيشانيون بإحياء بعض المناسبات القومية والدينية، فتم إعلان يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني عطلة وطنية احتفالًا باستقلال الشيشان، وكذلك تم الاحتفال بالذكرى المئوية لميلاد الإمام شامل في 21 يوليو/تموز 1997، إضافة لذكرى يوم التهجير.
هذا بجانب بناء المراكز الثقافية الجديدة والمعاهد الدينية والعلمية والهيئات الإدارية المستقلة عن روسيا، وترميم المعالم التاريخية القديمة، وفتح أنشطة المؤسسات المتحفية والمسارح والفرق الموسيقية، وخاصة دور الثقافة الريفية.
وفي الواقع، نجح المثقفون الشيشانيون في إنشاء منظمات لتعزيز الهوية وإعادة كتابة التاريخ، ونقد الكتابات الروسية المضللة، بجانب التواصل مع الشعوب الأخرى التي حاول الروس إبادتها، حيث شكلوا منظمة عرفت باسم “اتحاد الشعوب المقموعة” من أجل تسليط الضوء على أهوال التهجير وإبادة الروس لشعوب بأكملها، وعقدت مؤتمرات، ونشرت كتب باللغتين الروسية والشيشانية عن هذا الموضوع الذي لم يكن من الممكن التحدث عنه قبل عام 1989.
والأهم من كل ذلك، العودة القوية لأنشطة الطباعة والنشر في الأدب والثقافة الشيشانية، وعودة اللغة الشيشانية نفسها إلى الصدارة، والتحول إلى الأبجدية الشيشانية، حيث شهدت الساحة في هذه الفترة نشاطًا كبيرًا للكتب والروايات والمسرحيات التي دار غالبيتها عن التهجير والتقاليد الوطنية وواقع المجتمع الشيشاني، هذا مع تعليم اللغة العربية في المدارس بدلًا من الروسية، إذا تم إعلان الأخيرة كلغة أجنبية في الشيشان.
في المجمل، بعد العام 1991، حدثت تغيرات كبيرة على مستوى الهوية والثقافة الشيشانية، استقر الإسلام باعتباره الشكل الرئيسي لتحديد الهوية، ورأى الشيشانيون حاضرهم عبر شاشة الماضي، وأعادوا تنظيم المناهج الدراسية والمتاحف والمكتبات وأقاموا مؤسسات ثقافية جديدة، وهذه العودة السريعة جدًا إلى الجذور، ليست مفاجئة، إنما هي نتيجة منطقية واتصال طبيعي بتراث وتاريخ لم ينقطع.
المحرقة الروسية: استئصال الذاكرة
حين شكل الشيشانيون في نوفمبر/تشرين الثاني 1991 أول حكومة تحت قيادة الرئيس جوهر دوداييف وأعلنوا الشيشان دولة مستقلة، رفضت روسيا هذا الاستقلال، وحاولت لأكثر من ثلاث سنوات إعادة الأوضاع إلى السابق، ثم حين فشلت كل العمليات السرية للإطاحة بدوداييف، أصبح الغزو العسكري الشامل أمرًا لا مفر منه، ومن ثم بدأت روسيا حربها الأولى على الشيشان في أواخر 1994.
هذه الحرب اتخذت شكلًا أبشع من حروب الصرب ضد البوشناق والألبان، على حد وصف الصحفي أسعد طه حين ذهب إلى الشيشان في حربها الأولى ثم عاد إلى البوسنة، فاعتبر أن البوسنة بكل مآسيها الجارية كانت “باريس” بالنسبة لما يحدث في الشيشان!
غروزني، أوائل عام 1995
ما يلفت الانتباه في هذا الصراع خلال فترة الحرب الأولى، إصرار روسيا على عدم الاكتفاء بسحق الشيشانيين وإعادة الأوضاع إلى السباق فقط، بل أرادت تدمير كل المؤسسات الثقافية والدينية التي بناها الشيشانيون في السنوات الأخيرة.
فخلال فترة الحرب 1994-1996 لم يدمر الروس البنية التحتية الصناعية والاقتصادية فقط، بل دمروا بشكل متعمد معظم مؤسسات الثقافة والتراث والتعليم في الشيشان، في الحقيقة، أكثر المؤسسات التي عانت خلال الحرب، هي المؤسسات الثقافية والتعليمية والدينية، وهذا بالتأكيد أكبر خراب للشيشان من بين الكوارث العديدة الأخرى التي خلفها الروس.
مدينة غروزني، كانت مزدهرة، وبها مكتبات أكاديمية ومتاحف ومراكز ثقافية، إضافة للجامعات والمعاهد العلمية، فعلى سبيل المثال، كانت جامعة الشيشان واحدة من أهم مؤسسات التعليم العالي في شمال القوقاز، يعمل بها أكثر من 60 أستاذًا وأكثر من 300 أستاذ مشارك، وبها معامل تقنية ومكتبة ضخمة ضمت أكثر من مليون كتاب، أحرق الروس كل مباني الجامعة بما فيها المكتبة والحدائق النباتية ومركز الكمبيوتر ومطبعة الجامعة.
أما المعهد التربوي، أحدث كليات الشيشان الذي افتتح عام 1981 وضم 17 تخصصًا مختلفًا، أحرقه الروس بالكامل، وكانت أكبر خسارة للمعهد هي مكتبته التي ضمت أكثر من 170 ألف كتاب، إضافة إلى الصحف والدوريات.
في عام 1996 صور الصحفي أسعد طه “معهد غروزني للبترول” وهو جثة هامدة لم يتبق منه حجر واحد في مكانه، بعد أن كان من أهم المؤسسات العلمية في القوقاز، كان يعمل به أكثر من 500 أستاذ، وضم 16 قسمًا في صناعة وتكنولوجيا البترول، ومختبرات ومعامل كمبيوتر ومكتبة علمية وتقنية، وقد نشر بالفعل أبحاثًا علمية ونظم مؤتمرات دولية، كل شيء فيه تحول إلى رماد!
أما معهد البحث العلمي للعلوم الإنسانية، الذي تأسس عام 1907، وضم مكتبة غنية بها مخطوطات من العصور الوسطى ومؤلفات نادرة، دمرته القوات الروسية بالكامل عام 1995، وفقد كل المؤلفات التي لا يمكن تعويضها.
ولم تكن الآثار بمنأى عن الاستهداف الروسي المتعمد، ففي أعالي جبال الشيشان، كانت هناك آثار فريدة يعود تاريخ بعضها إلى القرنين الخامس عشر والسابع عشر الميلاديين، من أهمها 150 منشأة برجية أثرية، إضافة إلى اثنين من المزارات القديمة و15 خلوة بناها المتصوفة للعبادة، ونحو 150 سردابًا فوق الأرض ومقبرتين كبيرتين تعدان من بين الأكبر في العالم، كل هذا الكنز الذي لا يقدر بثمن دمرته القنابل والقذائف الروسية، واختفت النقوش العربية والشيشانية من على شواهد هذه القبور.
بحسرة شديدة علق القائم بأعمال وزير الثقافة الشيشاني ماكال سعدلاييف Makkal Sabdullayev قائلًا: “دمر الروس بشكل متعمد ومنهجي أي مكان مرتبط بتاريخنا، لقد استهدفوا كل مراكزنا الثقافية”.
وبحسب عالم الإثنوغرافيا الشيشاني سعيد خاسييف فإن هذه الأبراج الحجرية والمقابر أكثر بكثير من مجرد نصب تذكارية تركها الأسلاف على مر العصور، إذ يرى خاسييف أنها ترمز إلى وحدة وكفاح الشيشان، لذا امتدت نيران الحقد والكراهية الروسية إليهما، وقبل عام 1944 كان هناك بالفعل الآلاف من هذه الأبراج في الشيشان، لكن الحكومة السوفيتية دمرت معظمهم بالديناميت بشكل منهجي في الخمسينيات.
الأبراج الشيشانية
إلا أن الكارثة التي لا يمكن تعويضها بأي حال، هي تدمير الجيش الروسي الأرشيف الوطني الشيشاني في فبراير/شباط 1995، فقد جمع الشيشانيون في هذا المكان كل وثائقهم وأزيائهم الشعبية والمواد الأثرية التي استطاعوا الحفاظ عليها، بجانب مجموعاتهم الأرشيفية ومخطوطاتهم وآثارهم، لم يكن للمكان أي قيمة عسكرية، واتصل الرئيس دوداييف بعلماء الآثار الروس من أجل الضغط على روسيا لتجنب استهداف الأرشيف الوطني، لكن الروس أحرقوا كل شيء فيه، وخسر الشيشانيون ما يزيد على 90.000 وثيقة شديدة الندرة توثق قرونًا من تاريخ الشيشان.
كذلك استهدفت قذائف المدفعية الروسية، المتحف الإقليمي ومتحف الفنون الجميلة ومتحف التاريخ المحلي، بجانب الآثار الموجودة في مدينة شاتوي، التي من بينها آثار أعاد الشيشانيون ترميمها قبل الحرب، سويت كلها بالأرض، وقال سعيد ساراتوف مدير محمية أرغون التاريخية، إنه قدم التماسات متكررة إلى البرلمان ووزارة الدفاع الروسية بشأن التدمير المتعمد للتراث الشيشاني، لكن لم يتغير شيء، وقال له المسؤولون الروس أن ينسى الأمر.
وفي أوائل التسعينيات، كان في الشيشان عشرات النوادي الثقافية ومسرحان للدراما ومسرح عرائس ومسرح للرقص الشعبي، بجانب 11 مدرسة مخصصة للفن والموسيقى للأطفال، كل هذا أباده الروس بالكامل، بل وحتى طلاب الجامعات والمدرسين وأئمة الصوفية، كانوا أهدافًا عسكرية للروس.
معظم المعالم والمؤسسات التي بناها الشيشانيون قبل فترة الحرب، تم تدمير معظمها، وبشكل خاص، دنس الجنود الروس المقابر الشيشانية وحولوها إلى مراحيض! ويشير الرئيس الشيشاني سليم خان يندرباييف حسب إحصاء أجراه الشيشانيون للمساجد بعد الحرب الأولى، إلى أن الجيش الروسي دمر بشكل متعمد أكثر من نصف مساجد الشيشان.
أحد المساجد التي قصفها الروس بشكل متعمد في الحرب الأولى
لكن مسلسل المحرقة الروسية لم يتوقف عند هذا الحد، فعندما أعلن الشيشانيون استقلال بلادهم في نهاية عام 1991، شهدت المكتبات تطورًا كبيرًا، إذ كان هناك أكثر من 1000 مكتبة، وبلغ إجمالي مجموعها ما يقرب من 11 مليون كتاب، أشرفت وزارة الثقافة وحدها على 362 مكتبة، من أهمها المكتبة الوطنية الشيشانية – كانت تسمى سابقًا مكتبة تشيخوف -، ومكتبة الأطفال الوطنية، ومكتبة المكفوفين، بجانب المكتبات الجامعية.
“المكتبة الوطنية الشيشانية” التي كانت ذات يوم من أكبر المكتبات في شمال القوقاز، بسبب احتوائها على 2.5 مليون كتاب، مؤلفات ومخطوطات نادرة باللغتين الشيشانية والإنغوشية، احتفظ أمناء المكتبة بالعديد من هذه المؤلفات في أثناء التهجير القسري للشعب الشيشاني عام 1944، رغم أن “الشرطة السوفيتية NKVD” أمرت بحرق جميع هذه الكتب، فإن أمناء المكتبة استطاعوا إخفاء أهم المؤلفات، لكن كحال المكتبات الشيشانية الأخرى، لم تنج المكتبة الوطنية من الهمجية الروسية، ولم يتبق منها بعد الحرب الأولى أكثر من ألفي كتاب وفقدت جميع محتوياتها النفيسة!
يقول أحد التقارير الشيشانية الميدانية عن واقع مكتبات غروزني في ذلك الوقت: “بحلول ربيع عام 1995، لم يتبق سوى ثماني مكتبات من أصل ثلاثين مكتبة في مدينة غروزني، دُمرت جميع المكتبات الرئيسية، بما في ذلك المكتبة الوطنية ومكتبة الأطفال والمكتبة الطبية والمكتبة العلمية، وجميع مكتبات الجامعات الثلاثة، وجميع مكتبات البحث العلمي”.
في الواقع فقدت الشيشان في الحرب الأولى أكثر ما فقدته مكتبات البوسنة وكوسوفو في حروب الصرب! وبحلول عام 1997، لم يتبق في الشيشان إلا بضعة عشرات من المكتبات، وانخفض عدد أمناء المكتبات بنسبة 60%.
لكن المصيبة أيضًا لم تقف عند هذا الحد، فغالبية مؤسسات التعليم المدرسي لم تنج كذلك من الاستهداف الروسي المتعمد، فقبل الحرب، كان في الشيشان 450 مدرسة و11 مدرسة ثانوية مهنية، وغروزني كان فيها أكثر من 60 مدرسة بها مرافق سكنية مخصصة للأيتام والمعاقين، كل هذا تعرض للتدمير المتعمد، أما المدارس الموجودة في الجبال، فقد سويت كلها بالأرض، وفي الحقيقة لا توجد مؤسسة ثقافية أو تعليمة واحدة في مدن الجبال نجت من الإبادة الروسية.
ومع الأسف، الكثير من المدارس لم يتم إعادة بنائها بعد الحرب نتيجة نقص المال، وبالتالي لم يعان الأطفال الشيشانيون فقط من انقطاع الدراسة طيلة ثلاث سنوات من الحرب، بل إن أكثر من جيل بعد الحرب بلغوا سن الرشد دون الحصول على تعليم من أي نوع، لا التقليدي ولا الحديث! بسبب تدمير مؤسساتهم التعليمية والثقافية، ولا بد من ملاحظة أن هذا الأمر سيكون له عواقب سيئة على الشيشان بعد ذلك.
رقاد الموت: الألم والتحدي
في الواقع، كانت خسائر هذه الحرب قاسية جدًا على الشيشانيين، ورغم نجاحهم في هزيمة الروس وطردهم في أغسطس/آب 1996، فإن بلادهم كانت في حالة خراب تام، انخفض عدد السكان، فقتل ما يقرب من 15% من المدنيين خلال الحرب الأولى، ودمر كل شيء في القرى والبلدات، البنية التحتية والخدمات الصناعية والطبية والاجتماعية ومراكز الثقافة والتراث، كل هذا تحول إلى رماد بفعل الهمج الروس.
السكان المدنيون أصيبوا بصدمات نفسية، وازدادت الأمراض المزمنة في صفوفهم بشكل كبير بسبب الأسلحة التي استخدمها الروس، فقد أدى القصف المنهجي وحرق الغابات وتدمير البنية التحتية النفطية إلى زيادة مستويات التلوث الإشعاعي، بجانب مئات الألغام الروسية المزروعة في الشيشان.
علاوة على آلاف الأيتام والأرامل والمصابين والمفقودين والكثيرين الذين عاشوا بلا مأوى بسبب تدمير الروس لمنازلهم، أكثر من 300 ألف شيشاني أصبحوا لاجئين داخل الشيشان، فضلًا عن التقارير التي لا حصر لها عن معسكرات التصفية والاغتصاب والتعذيب والإعدامات الميدانية التي ارتكبتها القوات الروسية.
كل هذه الفظائع التي تقشعر لها الأبدان فرضت على سكان لا يتجاوز عددهم مليون نسمة! ووفقًا للأطباء الشيشان في ذلك الوقت، فإن جميع سكان الشيشان كانوا يحتاجون إلى إعادة تأهيل ما بعد الصدمة.
اكتشافات متكررة لمقابر جماعية لشيشانيين قتلتهم القوات الروسية دون محاكمة
وبالتالي ليس من السهل إعادة بناء ما حدث للمجتمع الشيشاني، لكن مع ذلك، كان لدى الشيشانيين الأمل في إعادة ميلاد وطنهم وبناء كل شبر فيه، وبذلوا قصارى جهدهم لتهيئة الحد الأدنى من الظروف اللازمة، فأعادوا بناء وترميم ما استطاعوا، ونصبوا الخيام في جميع أنحاء الشيشان لتعليم الأطفال، حتى عربات القطارات المدمرة كانوا يستخدمونها كفصول دراسية، كما نظموا المكتبات في أماكن مؤقتة، وبدأت الجامعات أعمال الترميم، لكن أصرت روسيا ألا تمنح الشيشانيين حق الحياة والاستقلال الذي حاربوا قرونًا من أجله.
مضاعفة الدمار: التطهير الكامل
“الشعب الشيشاني فخور بتراثه خاصة فيما يتعلق بمقاومته للسلطة الروسية، يجب استخدام القوة الدقيقة لهزيمة تلك العقلية”، من توصيات الجنرال الروسي كايموف لجنوده في الحرب الثانية.
استأنفت روسيا حربها الثانية على الشيشان عام 1999، وأصرت على أن تكون أكثر تدميرًا من الحرب التي سبقتها، فقد نظر القادة العسكريون الروس إلى الحرب الثانية كفرصة للانتقام من الهزيمة المذلة التي تعرضوا لها في الحرب الأولى.
“لكسب هذه الحرب، يجب القضاء على جميع الذكور الشيشان” الجنرال سيرجي ستيباشين: رئيس وكالة الاستخبارات الروسية في تصريح له أيام الحرب الثانية.
في الواقع، كان التأييد الشعبي الروسي للحرب الثانية هائلًا، وبالمقابل، كان التدمير الثقافي لما رممه وبناه الشيشانيون سريعًا وشاملًا، فعاشت الشيشان في الحرب الثانية أقسى فتراتها التاريخية، أمطرت القنابل والصواريخ الروسية معظم المؤسسات الإعلامية والثقافية والتراثية والمكتبات ومؤسسات التعليم العالي والمدارس والمستشفيات ودور الأيتام والمساجد، التي أصلًا استهدفها الروس في الحرب الأولى، فما أصلحه الشيشانيون وما تبقى من الحرب الأولى، تعرض للدمار الكامل في الحرب الثانية.
فعلى سبيل المثال، غالبية المنشآت التراثية والثقافية وحتى شواهد القبور في بلدة كومسومولسكوي أبادتها القوات الروسية بالكامل في فبراير/شباط 2000، محت المدينة من على وجه الأرض! وغالبية المباني الثقافية والتراثية الموجودة بالعاصمة غروزني، أبيدت أيضًا بالكامل، حتى المسرح الدرامي الشيشاني وقاعة الحفلات الموسيقية التي أعاد الشيشانيون بناءها في عام 1998 بعد أن دمرها الجيش الروسي في الحرب الأولى، أبادها ثانية.
الأماكن الأثرية ذات القيمة التاريخية والثقافية التي تعود للعصور الوسطى، خصوصًا الآثار الموجودة في القرى والجبال مثل مناطق شاتوي وإيتوم كالينسكي، وفي الطريق المؤدي إلى جورجيا، تعرضت للتدمير المتعمد بنيران المدفعية الروسية، وجدير بالذكر أن هذه المناطق تضم أقدم المباني التاريخية والمراكز الثقافية في البلد، وما زال مصير العديد منها غير معروف لأنها تقع في مناطق حدودية محظورة ويمنع المتخصصون والعلماء من زيارتها.
أيضًا كان هناك صرح كبير، نقش عليه باللغتين الشيشانية والعربية، حيث قام سكان مدينة تسينتوروي بتنصيبه تخليدًا لذكرى الشهداء القرويين الذين قُتلوا في قرية دادي يورت في سبتمبر/أيلول 1819، اعتاد الشيشانيون زيارة هذا الصرح الجنائزي والصلاة هناك، قصفته القوات الروسية واختفى إلى الأبد، ويقول أحد التقارير الشيشانية الميدانية في ذلك الوقت:
“تطلق القوات الروسية النار على الآثار المعمارية.. لقد دمرت البنية التحتية الثقافية والتعليمية بالكامل جنبًا إلى جنب مع المسارح وقاعات الحفلات الموسيقية والمكتبات والمتاحف والمراكز المجتمعية والملاعب والحدائق، كلها اختفت الآن”.
المتحف الإقليمي ومتحف الفنون الجميلة اللذان قبل أن يدمرهما الروس في الحرب الأولى، استطاع الشيشانيون إجلاء أهم الآثار المعروضة خوفًا من تدميرها، لكن في الحرب الهمجية الثانية، تحولت هذه المتاحف التي لا تقدر بثمن إلى غبار وأنقاض!
المتحف الوطني الشيشاني كان قبل الحرب يحتوي على 230 ألف قطعة، حاليًّا لم يتبق إلا 38.417 قطعة، وجدير بالذكر أن هذه المتاحف التي دمرها الروس، كانت من أكبر المتاحف في شمال القوقاز، وكان يعمل بها موظفون على خبرة كبيرة حصلوا على درجات أكاديمية عالية.
كل النصب التذكارية لذكرى الحرب الأولى التي شيدها الشيشانيون في الفترة من 1996- 1999 ومن بينها النصب التذكاري للرئيس الشيشاني الأول جوهر دوداييف الذي قتله الروس بوحشية في الحرب الأولى، دمرها الروس في الحرب الثانية.
كذلك لم تنج المساجد من الإبادة، وفي بعض الأحيان استخدم الجنود الروس المساجد كمراحيض، أما مكتبات العلماء والكتاب الشيشان المعروفين، فقد قصفت بشكل متعمد، مثل مكتبة البروفيسور كاتيا تشاكاييف ويوش عايديف وآخرين كثيرين.
وأيضًا مؤسسات التعليم لم تكن بمنأى عن الإبادة، دمر الروس معظم مباني المدارس والجامعات للمرة الثانية، أما أرشيف الدولة الشيشانية، فلم يكتف الروس بإحراق معظمه خلال الحرب الأولى، ورغم محاولة مدير الأرشيف الوطني الشيشاني إخفاء أهم الوثائق الأرشيفية التي نجت من الحرب الأولى، فإن الروس عثروا عليها وأحرقوها في الحرب الثانية. في الواقع، أحرق الروس بشكل خاص جميع الوثائق التاريخية!
لقد بدت الشيشان كأنها نهاية العالم، في الحقيقة، لم يتعرض بلد في العالم لهذا القصف الممنهج لتراثه وذاكرته مثلما تعرضت الشيشان، خصوصًا العاصمة غروزني التي أطلقت عليها الأمم المتحدة فيما بعد اسم “المدينة الأكثر تدميرًا على وجه الأرض”.
في الحقيقة، مارست روسيا كل أشكال الإبادة والإرهاب ضد التراث الشيشاني، وكانت التغطية الإعلامية شبه منعدمة، ومع الأسف، لم يلتفت أحد للجهود التي بذلها دعاة الحفاظ على التراث، والاستغاثات المتكررة لأمناء المكتبات والمؤسسات الثقافية الشيشانية، وبحسب الكاتب الشيشاني الشهير أبو ذر أيدميروف فقد تعامى العالم عن التدمير الثقافي والتراثي وإبادة ذاكرة الشعب الشيشاني التي قامت بها القوات الروسية في الحربين الأخيرتين.
يمر الوقت، وتتغير العهود، وتتغير الأنظمة الروسية، لكن الثابت هو استعباد وإبادة تراث الشعب الشيشاني، فالتاريخ يوضح لنا أن كل نظام سياسي روسي لم تتغير نظرته تجاه الشيشان، لقد حكم الروس المنطقة عبر إستراتيجية وأساليب “الإخضاع أو الإبادة” لإبقائها كجزء من الإمبراطورية.. فهل يصبح السلام والحرية حقيقة في ظل الاحتلال والقوة؟