ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي يوم الاثنين الماضي، بمقطع مصور يظهر اعتداء 50 شابًّا تركيًّا على مراهق يمني يبلغ من العمر 15 عامًا، ما خلق حالة من الغضب لدى الأوساط العربية في تركيا، باعتباره انتهاكًا جديدًا يُظهر مدى تفاقم ظاهرة العنصرية ضد العرب المقيمين في تركيا.
اختلفت هذه الحادثة عن غيرها من الحوادث المتكررة في الآونة الأخيرة، بتدخل السفارة العربية الممثلة للجهة المعتدى عليها، إذ نشرت السفارة اليمنية في أنقرة بيانًا توضيحيًّا بشأن الحادثة، مبدية استعدادها لتقديم الدعم القانوني اللازم.
كما أجرى السفير اليمني، محمد صالح طريق، زيارة لعائلة الطفل الذي نُقل إلى المستشفى متأثرًا بجروح جرّاء الضرب الذي تعرض له، وأكّد أن السلطات التركية ألقت القبض على المعتدي وبدأت التحقيق في الحادث.
من جهتها، عقدت الجالية اليمنية في تركيا لقاءً مع مديرية دائرة العلاقات الخارجية في إدارة الهجرة بإسطنبول لمتابعة الحادث، بعدما تلقّى رئيس الجالية اتصالَين من والي إسطنبول ومدير إدارة الهجرة في الولاية.
رغم أن حوادث العنصرية بحقّ العرب ليست جديدة في تركيا، إلا أنها المرة الأولى التي تنتهي بدخول الدبلوماسية على الخط لضمان حقوق العائلة التي وقعت ضحية للعنصرية، وربما استدعت هذه الحادثة إلى الأذهان سؤالًا ملحًّا حول دور الجاليات العربية في تركيا بالتصدي لموجة العنصرية وحماية أبنائها من انتهاك حقوقهم، خاصة وسط الفوضى الأمنية التي جاءت بالتزامن مع حملة محاربة الهجرة غير النظامية التي أطلقتها الحكومة التركية قبل نحو شهر.
العرب في مرمى العنصرية
تعالت الأصوات العنصرية المعادية لوجود اللاجئين في تركيا مع بداية الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التركية الأخيرة، بعدما أضحوا الورقة الأساسية التي يتنافس عليها المرشّحان الرئاسيان، رجب طيب أردوغان وكمال كليتشدار أوغلو ممثلًا للمعارضة التركية، التي تبنّت خطاب الكراهية والتحريض بشكل صريح، ما شجّع بعض الأتراك على تجاوز الحدود الأخلاقية والإنسانية في التعامل مع اللاجئين العرب تحديدًا.
تنفّس العرب المقيمون في تركيا الصعداء بعد فوز أردوغان، لكن سرعان ما واجهوا مصيرًا كانوا يخشونه وهو من شأنه أن يزعزع أمنهم واستقرارهم، فهم الآن في مرمى العنصريين الأتراك، فتارة يُرمون بنظرات الكراهية وتارة أخرى يوصمون بعدم انتمائهم إلى فصيلة البشر، عدا عن إزالة اللافتات المكتوبة بلغتهم دونًا عن لغات أخرى.
لاقت موجة العنصرية استنكارًا واسعًا خارج وداخل تركيا، وحثت الحكومة على التصدي لها، إذ أكّد الصحفي اليمني بشير الحارثي عبر تويتر، “أن العنصرية في تركيا ضد العرب تتنامى بشكل مخيف ومفزع، وتزداد كل يوم بفعل الخطاب الإعلامي لبعض وسائل الإعلام التركية المعارضة”، مشيرًا إلى أن “وسائل الإعلام التركية الرسمية لا تولي اهتمامًا لخطاب يواجه هذه العنصرية”.
من جهة أخرى، زادت حملة “محاربة الهجرة غير الشرعية” التي أطلقتها الحكومة التركية من حدة الأصوات المعادية للعرب، كونها شملت انتهاكات بحقّ بعض أبناء الجاليات العربية اللاجئة إلى تركيا، فوثّق ناشطون بمجال حقوق اللاجئين احتجاز السلطات للاجئين عرب في مراكز الترحيل سيّئة السمعة بتهم ملفّقة، كما صدر قرار ترحيل بحقّ آخرين.
يرى الباحث والكاتب أسامة أبو رشيد أن “تصاعد العنصرية والإساءة بحق اللاجئين والأجانب في تركيا حقيقيان، والحكومة تتحمل مسؤوليتهما، سواء لعجزها عن التصدي لهما أم لمنحهما هامشًا للتعبير عن نفسيهما”، مستدركًا أنه لا يمكن تناسي ما قدمته تركيا للاجئين السوريين.
الوجود العربي في تركيا
بلاد الأناضول شكّلت الوجهة الأنسب للعديد من العرب الذين فرّوا من نيران الحرب وبطش الأنظمة الحاكمة، بسبب العوامل المشتركة التي تجمع بين الثقافتَين منذ القدم، ونظرًا إلى استقرار تركيا نسبيًّا مقارنة بدولهم، إذ تقدَّر أعداد العرب المقيمين فيها بـ 7 ملايين نسمة، أكثر من 3.5 ملايين منهم ينحدرون من الجنسية السورية ويندرجون تحت قانون الحماية المؤقتة.
ظهرت الحاجة لإنشاء جسم تجميعي يضمّ الجاليات العربية جميعها مع تزايد أعدادها، خاصة مع بروز تركيا كوجهة للاستثمار والتعليم الجامعي، إذ شكّلت الاستثمارات العربية قرابة 16% من حجم الاستثمارات الأجنبية البالغة 164.6 مليار دولار، حسب البيانات الصادرة عن البنك المركزي التركي (TCMB)، ووصل أعداد الطلاب العرب الذين يتلقون تعليمهم الجامعي في تركيا إلى عشرات الآلاف.
كانت هذه الحاجة منطلقًا لإنشاء عدة هيئات بهدف تشكيل قنوات فعّالة بين المجتمع العربي والتركي، منها المجلس الأعلى للجاليات العربية الذي أُعلن عن تأسيسه عام 2019، ويضم 12 جالية عربية هي الجالية الفلسطينية، والسورية، واللبنانية، والليبية، واليمنية، والمصرية، والتونسية، والجزائرية، والمغربية، والصومالية، والأردنية، والسودانية.
راجح نصار، رئيس الجالية الفلسطينية المنضوية ضمن المجلس الأعلى، أكّد لـ”نون بوست” أن مهامهم تقتصر على المستوى الثقافي والاجتماعي، إذ يقدمون منحًا مالية للطلاب الجامعيين ودورهم قناة تواصل مع السفارة يسهّلون التعاملات الحكومية، وعلى صعيد آخر ينظّمون دورات اندماج مع إدارة الهجرة، لفتح الطريق أمام تكيُّف أبناء الجالية مع الحياة في تركيا.
حضور غير كافٍ
ويفرض السؤال عن دور الجاليات العربية نفسه أمام التحديات الأخيرة التي يواجهها العرب في تركيا، والمتمثلة بتفاقم ظاهرة العنصرية تجاههم، إذ يرى الكاتب المهتم بالشأن التركي نور الدين العايدي، أن “حضور رئاسات الجاليات العربية في تركيا ليس كافيًا لتلبية احتياجات الجاليات، خاصة في ظل أعدادها الكبيرة وتنوع التحديات التي تواجهها اليوم”، معتبرًا أن ممثلي العرب ككل في تركيا لم يتمكنوا من مواكبة هذه التحديات، وبقوا عاجزين عن صياغة سياسات مناسبة تضمن دعم أبناء جالياتهم.
ويشير العايدي في حديثه لـ”نون بوست” إلى وجود عقبات تحول دون وصول أبناء الجاليات العربية السلس إلى ممثليها من جهة، والمسؤولين الأتراك من جهة أخرى، لعرض المشاكل التي تعرقل حركتهم اليومية.
ويبرز أمام العرب في تركيا، نظرًا إلى الوضع الحالي، تحدي القدرة على الاستفادة من إمكانات القانون التركي لضمان الحقوق في حال التعرض لحادث عنصري، خاصة في ظل حواجز مختلفة منها عدم المعرفة بالحقوق القانونية والإجراءات اللازمة، وفق ما ذكر العايدي.
كما يمكن الحديث عن “عجز نسبي في التواصل الجمعي كعرب مع المجتمع التركي بشكل مباشر، لمواجهة الدعاية العنصرية”، ما يزيد من حملات الترويج لهذه الدعاية، خصوصًا في ظل الاستفادة من ضعف فرص التواصل الإعلامية.
ردًّا على سؤال حول كيفية تعامل ممثلي الجاليات مع ازدياد حالات العنصرية، قال نصار إنهم يسعون إلى توعية أبناء الجالية بالابتعاد عن المشاكل والتعامل كضيوف في البلاد، تجنُّبًا لردات فعل العنصريين.
من جهة أخرى، يقول نصار إن رئاسة الجاليات العربية تعقد اجتماعات دورية مع إدارة الهجرة في إسطنبول، لمواكبة مشاكل أبناء الجاليات وحلّها والمطالبة بحقوقهم، وحثّ السلطات التركية على الأخذ بعين الاعتبار خصوصية إقامة بعض الجنسيات العربية كالفلسطينية والسورية، كونهم يعانون من الحرب في بلادهم.
كما يؤكد نصار أن مطالبهم بشأن محاسبة المسؤولين عن تأجيج العداء تجاه العرب تتكرر في جميع الاجتماعات التي تجمعهم مع الأتراك، مشيرًا إلى أن السلطات التركية تظهر تجاوبًا في مساءلة مرتكبي حوادث العنصرية، لكن وسائل الإعلام لا تعكس هذا التجاوب.
وتقدم رئاسات الجاليات العربية خدمة المساعدة القانونية لأبنائها الذين يواجهون حوادث عنصرية، أو للأشخاص الذين يقعون ضحية الاحتجاز التعسفي، خصوصًا ضمن حملة محاربة الهجرة غير النظامية التي تعمل على ترحيل أكبر قدر ممكن من اللاجئين.
وردًّا على سؤال حول كيفية تعامل ممثلي الجاليات مع ازدياد حالات العنصرية، قال نصار إنهم يسعون إلى توعية أبناء الجالية بالابتعاد عن المشاكل والتعامل كضيوف في البلاد، تجنُّبًا لردات فعل العنصريين.
المأمول من الجاليات العربية
يشدد العايدي على أن الظروف الحالية تفرض على رئاسات الجاليات العربية اتّباع سياسات جديدة تعزز من فعاليتها في خدمة المقيمين العرب وضمان حقوقهم، فيرى أن التصرف اللاحق للأحداث غير كافٍ، إنما على رئاسات الجاليات تبنّي مقاربة استباقية تمهّد لتجاوز التحديات المختلفة، كاستحداث أو تفعيل وحدات قانونية تساهم في مكافحة التحريض ضد الجاليات العربية في إطار القوانين التركية، بالإضافة إلى توعية الجاليات بحقوقها.
وعلى صعيد آخر، يمكن بناء “مقاربة استباقية مشتركة عبر تعميق التواصل مع المجتمع التركي بلغته، وتوعيته في إطار مواجهة التيار العنصري وتفنيد أطروحاته ضد العرب”، ويقترح العايدي بناء جبهة حلفاء للعرب داخل المجتمع التركي إعلاميًّا ورسميًّا، لتعزيز جهود العيش المشترك.
ونظرًا إلى الحالة الخاصة التي تعيشها الجاليات العربية في تركيا التي يرتبط وجودها بالغالب بأسباب سياسية واقتصادية سلبية، يرى العايدي أنه يجب تجاوز الشكل التنظيمي التقليدي والأساليب والسياسات المعتادة، نحو استراتيجيات أكثر تفاعلًا مع أبناء الجاليات العربية على المستوى التنظيمي، الأمر الذي يستوجب على رئاسات الجاليات تنويع حضورها، من خلال تأسيس هيئات ولجان مختلفة تخاطب المقيمين العرب وفق نوع إقاماتهم أو أسباب وجودهم، على اعتبار أن كل فئة لديها تحدياتها الخاصة.
لا يمكن إنكار أن الجهات الرسمية التي تعترف بها الحكومة التركية والفعّالة بالمجتمع قادرة على إحداث فرق في رحلة كبح جماح العنصرية وضمان حقوق من يقع ضحيتها، وعلينا ألا ننسى أن السبيل الوحيد للحدّ من تجرؤ العنصريين على التعدي هو تطبيق القانون ومحاسبة المتورطين في التحريض.