ألغى قادة الانقلاب في النيجر اتفاقيات عسكرية عدة مبرمة مع فرنسا تتعلّق بـ”تمركز” الكتيبة الفرنسية، وقال أحد أعضاء المجلس العسكري إنه في “مواجهة موقف فرنسا اللامبالي وردّ فعلها تجاه الوضع في النيجر، قرر المجلس الوطني لحماية الوطن إبطال اتفاقيات التعاون مع هذه الدولة في مجال الأمن والدفاع”.
فضلًا عن ذلك، برزت مؤخرًا تقارير إعلامية تتحدث عن قرار سلطات البلاد الجديدة ووقف تصدير اليورانيوم إلى فرنسا انطلاقًا من بعد غد الأحد، ما من شأنه أن ينعكس سلبًا على اقتصاد فرنسا وقدرتها على توفير الطاقة المطلوبة في البلاد.
في الأثناء، تعالت الأصوات المنددة بالوجود العسكري الفرنسي في البلاد -المقدر بنحو 1500 جندي-، إذ خرجت مظاهرات في العاصمة نيامي تطالب بطرد الفرنسيين، وتمَّ اقتحام السفارة الفرنسية وتحطيم لافتتها العملاقة والتنكيل بالعلم الفرنسي.
نفهم من هنا وجود إرادة شعبية ورسمية قوية لوضع حدّ للتدخل الفرنسي في شؤون البلاد الخارجية، ووقف استباحتها للقرار السيادي لهذا البلد الأفريقي الذي تحصّل على استقلاله عام 1960، ومع ذلك ما زال تابعًا للمستعمر القديم.
ترحيب بالروس
في الوقت الذي انتزع فيه بعض المتظاهرين اللوحة التي تحمل عبارة “سفارة فرنسا بالنيجر”، وداسوا عليها، تعمّد البعض منهم وضع العلم الروسي مكانها، فيما صاح آخرون: “تحيا روسيا، فلتسقط فرنسا”، وقد تمَّ تداول هذه اللقطات كثيرًا.
بعدها بأيام قليلة، عاد داعمو الانقلاب للتظاهرة مجددًا بمناسبة ذكرى الاستقلال عن المستعمر الفرنسي، ورفع البعض منهم مجددًا أعلام روسيا وشعارات معادية لفرنسا، في تعبير عن موجة متنامية من الاستياء تجاه باريس، القوة الاستعمارية السابقة، ونفوذها في منطقة الساحل.
نفهم من هنا وجود ترحيب داخل الشارع النيجري بالروس، رغم محاولات الغرب المتكررة في الفترة الأخيرة للترويج بأن روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين منبوذان في جميع أنحاء العالم، نتيجة الحرب ضد أوكرانيا التي لم تضع أوزارها بعد.
ويرى سكان النيجر في روسيا القوة البديلة لفرنسا، ذلك أنها لم تلطّخ بدمائهم كما تلطّخت باريس طيلة عقود الاستعمار والسنوات التي تلت ذلك، فرغم خروج فرنسا الرسمي من البلاد قبل 63 عامًا، إلا أن وجودها الفعلي وجرائمها ما زالت متواصلة.
تعدّ الدعاية الإعلامية لروسيا في أفريقيا جزءًا من استراتيجية بوتين لتعزيز نفوذ بلاده في القارة السمراء وكسب المزيد من القوة على الساحة الدولية.
تصور روسيا نفسها للأفارقة أنها الحليف الموثوق للأفارقة والمنقذ لهم من الهيمنة الغربية، خاصة أنها لا تضع شروطًا مقابل التعاون معهم وتقديم المساعدات لهم، وقبل أيام أقرّت موسكو مساعدات غذائية لـ 6 دول أفريقية، وكان ذلك في القمة التي جمعت الروس بالأفارقة الشهر الماضي في سان بطرسبرغ.
كما سبق أن وعدت موسكو بشطب ديون الدول الأفريقية لديها، والمقدرة بـ 20 مليار دولار، في مسعى منها للتقرُّب أكثر من الدول الأفريقية وشعوبها التي ضاقت ذرعًا بالوجود الغربي، خاصة الفرنسي، فوق أراضيها.
وتتَّهم فرنسا بالسيطرة على القرار السيادي لأغلب الدول الأفريقية، ونهب ثرواتها ووضع حلفاء لها على رأس تلك الدول، للحفاظ على مصالحها وإن تعارضت مع مصالح الشعوب الأفريقية، إذ لا همّ لباريس سوى الحفاظ على مصالحها فقط.
تمتلك روسيا حقّ الفيتو في مجلس الأمن، فهي عضو قارّ فيه، وقد أفلحت في الترويج لهذه النقطة، فالأفارقة سئموا العقوبات الصادرة عن مجلس الأمن ضدهم، وسئموا التقارير السلبية التي تُكتب عنهم، ويظنون أن الروس سيضعون حدًّا لهذا الأمر.
وجود قديم
لا تعتبر روسيا وافدًا جديدًا على أفريقيا، فالوجود الروسي في أفريقيا ليس جديدًا، إذ تنتشر في غانا وغينيا ومالي وبوركينا فاسو وليبيا أيضًا، دون أن ننسى الجزائر، ففي هذه الدول ينشط الروس بحرّية كبيرة، بعد أن تراجع الدور الغربي فيها.
صحيح أن الوجود الروسي في أفريقيا أصبح ظاهرًا للعيان في السنوات الأخيرة، لكن لنا أن نستذكر وجودهم في هذه القارة خلال العهد السوفيتي، فبعد موجة استقلال الأفارقة، أقام السوفيت علاقات قوية مع عدة دول أفريقية مثل أنغولا وأثيوبيا.
ففي الحرب الأهلية التي شهدتها أنغولا، والتي تضمّنت تدخلات خارجية، تمَّ توجيه المساعدات العسكرية السوفيتية إلى الحركة الشعبية لتحرير أنغولا، وبحلول عام 1976 كان الميدان العسكري يشكّل محور العلاقات السوفيتية الأنغولية.
سكان النيجر يهتفون بأنهم يريدون روسيا.. pic.twitter.com/aFEUvpc9CP
— الموجز الروسي | Russia news 🇷🇺 (@mog_Russ) July 28, 2023
كما أقام السوفيت علاقات قوية مع المؤتمر الوطني الأفريقي في تنزانيا، وحكومات جنوب أفريقيا، وحكومات ناميبيا وأنغولا والجزائر ومصر وليبيا والسودان، وذلك لمواجهة تزايُد التأثير الأمريكي في النظام الدولي.
مساندة قوى وحركات التحرر من الاستعمار، ومدّها بالسلاح والعتاد والدعم المادي والإعلامي والمعنوي، فضلًا عن الدعم الأيديولوجي، مكّن السوفيت من الحصول على مكانة مهمّة لدى الشعوب الأفريقية.
وخلال حقبة الاستعمار، منح السوفيت -في إطار بحثه عن حلفاء محتملين في أفريقيا- مساعدات مالية وعسكرية لقوى التحرر هناك، وفتح لها اعتمادات للقيام بعمليات الشراء من الكتلة السوفيتية، كما دعم الأفارقة داخل أروقة الأمم المتحدة.
ماذا لو كانت بروباغندا؟
في الوقت الذي يوطّد فيه قادة الانقلاب سلطتهم، حذّر رئيس النيجر المعزول والمحتجز لديهم، محمد بازوم، من أن منطقة الساحل الأفريقي بأكملها يمكن أن تسقط تحت تأثير النفوذ الروسي عبر مجموعة فاغنر العسكرية، وذلك في مسعى منه للحصول على دعم غربي أقوى لعودته إلى السلطة.
ضعف التدخل الغربي في أزمة النيجر الأخيرة، يؤكد تراجع نفوذ الغرب في المنطقة، لكن ماذا عن التمدُّد الروسي؟ فالعديد من وسائل الإعلام تتحدث عن تمدد روسي قوي في أفريقيا، مستغلة التململ الشعبي من الوجود الغربي في القارة.
لا يمكن أن ننكر وجود الروس في أفريقيا وتدخلهم المباشر وغير المباشر في العديد من الدول هناك، لكن ليس بتلك الصورة التي يتم الترويج لها بين العديد من الوسائل الإعلامية، فالوسائل المحسوبة على الغرب تبتغي من وراء الحديث عن انقضاض الدب الروسي على أفريقيا، إثارة مخاوف الأفارقة من مستعمر جديد قادم لنهب ثرواتهم.
يحاول الغرب تضخيم وجود الروس في أفريقيا، في مسعى منهم لضرب صورة موسكو وتقديمها على أنها ضيف ثقيل قادم إلى القارة السمراء، ويراوح الغرب بين تضخيم صورة روسيا ونشر جرائمها في أوكرانيا وسوريا وليبيا ودول أخرى.
يبدو أن الروس نجحوا في إظهار تنامي نفوذهم في القارة الأفريقية بفضل الدعاية وأساليب التضليل التي يعتمدونها.
أما الروس فهم يحاولون التسويق لصورة مغايرة عن الغرب لدى الأفارقة، وقد أفلحوا في ذلك إلى حدّ ما، ففي بعض المظاهرات التي يشارك فيها الآلاف يقوم أحد المتظاهرين برفع علم روسيا، فيتم التركيز عليه وإغفال الباقي، ويصبح رفع العلم الروسي محور المظاهرة.
حتى في اللافتات والشعارات المرفوعة، ترفع عديد الشعارات خلال المظاهرات المنددة بالوجود الغربي في أفريقيا، لكن الروس يحسنون اقتناص الفرص واستغلال بعض الشعارات المرحّبة بهم فقط، ويتم الترويج لها عن طريق مراكز التضليل التابعة لهم.
وتعتمد روسيا لتبييض صورتها عند الأفارقة سياسة التضليل والدعاية، وتعدّ الدعاية الإعلامية لروسيا في أفريقيا جزءًا من استراتيجية الرئيس فلاديمير بوتين، لتعزيز نفوذ بلاده في القارة السمراء وكسب المزيد من القوة على الساحة الدولية.
تقوم شبكة الدعاية الروسية بالأساس على مؤسسات “سبوتنيك” و”روسيا اليوم”، والتي تعدّ أحد أكبر مكبّرات الصوت للرئيس فلاديمير بوتين في جميع أنحاء العالم، وعملت هاتان المؤسستان على تدعيم وجود روسيا في البلدان الأفريقية، إذ قامت بفتح مكاتب لها في عديد العواصم الأفريقية.
فضلًا عن القنوات التلفزيونية، بعثت موسكو عديد المواقع الإلكترونية لبثّ الدعاية الخاصة بها في الدول الأفريقية، تديرها وكالة أبحاث الإنترنت، وهي مؤسسة روسية مقرّها سان بطرسبرغ، تعمل في عمليات التأثير عبر الإنترنت من أجل المصالح التجارية والسياسية الروسية.
مظاهرات في #النيجر بمناسبة ذكرى الاستقلال عن #فرنسا في مثل هذا اليوم من عام 1960..
المتظاهرون رفعوا علم #روسيا ورددوا شعارات مناهضة للفرنسيين..#النيجر 🇳🇪 pic.twitter.com/w2z10SGHBy
— د. محمد دخوش (@MuhDakhouche) August 3, 2023
استخدمت وكالة أبحاث الإنترنت حسابات مزيفة مسجّلة على مواقع التواصل الاجتماعي الرئيسية، ومواقع الصحف الرقمية على الإنترنت، وخدمات استضافة الفيديو لتعزيز مصالح الكرملين الداخلية والخارجية.
وقامت هذه الوكالة باستهداف عديد الصحفيين ومؤثري الرأي العام للعمل معها، إذ تقدّم لهم أموالًا كثيرة لنشر وبثّ أخبار تخدم مصالح الكرملين في القارة الأفريقية، خاصة في مناطق النزاع والدول التي تدخّلت فيها روسيا عسكريًّا، كالسودان وليبيا وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو.
يبدو أن الروس نجحوا في إظهار تنامي نفوذهم في القارة الأفريقية بفضل الدعاية وأساليب التضليل التي يعتمدونها، لكن على أرض الواقع الوضع مختلف، فالتجارة البينية بين الطرفَين ما زالت ضعيفة إذ لم تتعدَّ 18 مليار دولار، عكس الاقتصاد الصيني الذي سجّل 282 مليار من التبادلات مع أفريقيا، والاتحاد الأوروبي الذي سجّل 254 مليار دولار.