ترجمة وتحرير: نون بوست
لم يكتفِ فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي، بغزو أوكرانيا لاستعادة جزء من ساحل البحر الأسود، بل كان أكثر طموحًا من ذلك: إذ أراد تغيير النظام العالمي؛ ليظهر أن الغرب لم يعد في موقع السيطرة والتحكم.
لكن عالمه متعدد الأقطاب شهد الظهور الأول الأسوأ؛ فقد أصبحت أوكرانيا كارثة عسكرية، وخسرت روسيا في 17 شهرًا من القتال ما لا يقل عن ضعف، أو ربما حتى ثلاثة أضعاف، عدد الرجال الذي خسره الجيش السوفييتي في ما يقرب من عقد من الحرب في أفغانستان.
وفشل بوتين في الحفاظ على حلفائه؛ سواء كانت الصين أو إيران، فمهما كانت الكلمات التي استخدمها بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ لتلطيف علاقتهما، فإن الحقيقة الجامدة هي أن الصين على بعد عقد على الأقل عسكريًا من دور المنافس العالمي لواشنطن، ولقد دفع غزو بوتين الصين إلى دور ليست مستعدة بعد للعبه؛ حيث يتمثل الهدف الإستراتيجي الرئيسي للصين في زيادة تجارتها مع ألمانيا، وليس تهديدها بانتظام بمعركة كونية نووية تنهي البشرية، كما تفعل الدائرة المقربة لبوتين.
إضافة إلى أن الحليف الرئيسي الآخر لروسيا في هذا المشروع ليس سعيدًا أيضًا، حيث إن النظر إلى الشمال ليس جذابًا لطهران كما بدا قبل عام. ففي ذلك الوقت؛ كان وفد من رؤساء شركات السيارات الحكومية الإيرانية قد عادوا من موسكو حاملين آمالًا كبيرة في الحصول على كميات كبيرة من الدولار؛ فقد ضربت العقوبات الغربية للتو صناعة السيارات الروسية، وأرادت روسيا الاستفادة من خبرة إيران في خرق العقوبات، وكانت روسيا تشتري كل ما تنتجه إيران: كتل المحركات، والمحاور، والطائرات المسيرة، وأي شيء قد تتخيله.
قارن ذلك بالمزاج السائد في طهران اليوم؛ حيث يدور الخلاف الحالي حول قرار روسيا المتفجر بدعم مطالبة الإمارات بثلاث جزر تدعي طهران أنها إيرانية بالقرب من مضيق هرمز، فيقول محسن رضائي، القائد البارز في الحرس الثوري الإيراني، إن على روسيا “تصحيح موقفها”، كما يتهم المحافظون البارزون، مثل محمد جواد لاريجاني ومحمد باقر غاليباف، موسكو بـ “لعب اللعبة الأمريكية” في الخليج.
التعامل مع الفوضى
هناك تصدعات أخرى في العلاقة الروسية الإيرانية، مثل الاتفاقية الأخيرة “غير الرسمية وغير المكتوبة” بين الولايات المتحدة وإيران، والتي بموجبها تعهدت إيران أنه مقابل تخفيف بعض العقوبات ستقوم بتوسيع تعاونها مع المفتشين النوويين الدوليين، ووقف بيع الصواريخ الباليستية إلى روسيا، ووقف الهجمات على المتعاقدين الأمريكيين في سوريا والعراق. وبصفتها طرفًا في الاتفاق النووي لعام 2015؛ تنظر روسيا بعين الريبة إلى اتفاق مؤقت.
وتكتشف إيران أن الإبحار في النظام العالمي الجديد أصعب من مشاهدة النظام القديم ينهار، لكن ليست كل القوى في الشرق الأوسط تتبع إيران في هذا الطريق، فهناك دولة واحدة، وهي تركيا، تتعامل مع الفوضى التي تدور حولها، على الرغم من أنها، أيضًا، قد اختلفت بانتظام مع روسيا والناتو في الماضي.
وهناك تعيين واحد أجراه الرئيس رجب طيب أردوغان مؤخرًا قد يكون حاسمًا في هذا الصدد، فبينما كان الجميع يستعدون إلى التحول في سياسته النقدية من خلال تعيين فريق جديد من المستشارين الاقتصاديين والماليين برئاسة محمد شيمشك، حدد أردوغان منصبًا آخر كان بنفس الأهمية بالنسبة لولاية إدارته الثالثة والأخيرة.
“أعاد فيدان بناء الاستخبارات الوطنية التركية خلال رئاسته لها على مدى السنوات الـ 13 الماضية، وأعاد تأسيسها كمنظمة تتطور وتتكيف مع التهديدات الجديدة”
كانت تلك هي ترقية هاكان فيدان، المدير السابق للمخابرات الوطنية التركي، إلى منصب وزير الخارجية.
كقاعدة عامة في جميع أنحاء العالم، فإن وظيفة إدارة وكالة المخابرات الوطنية محجوزة للصقور، فمثل هذه المناصب حساسة جدًا للحكام المطلقين في الشرق الأوسط لدرجة أنها تُمنح فقط للعائلة أو الأخ الأكبر أو الابن.
غير فيدان يخالف هذه القواعد، فهو عالم سياسي تدرب على يد المؤرخ والأكاديمي الأسكتلندي نورمان ستون، وهو ليس صقرًا عسكريًا، رغم أنه خدم في الجيش، كما أنه مفكر وليس سفاحًا، ويقرأ الكتب، وهو أكثر مما يمكن أن يقال عن اثنين من رؤساء الولايات المتحدة الجدد، فهو يتحدث الإنجليزية بطلاقة توازي فضوله الفكري واسع النطاق، فهو قادر على مناقشة الاحتمالات الضعيفة لاستقلال أسكتلندا بنفس الأريحية والقوة التي يتناقش بها في علوم الدين الإسلامي.
لهذه الأسباب؛ قوبل تعيين فيدان كرئيس للمخابرات التركية في عام 2010 بشك كبير من المؤسسة الأمنية التركية، فلم يكن واحدًا منهم، وكان صغيرًا جدًّا، ولا يُتوقَّع أن يستمر. ولم يأتِ الانتقاد منهم فقط: فقد وصف إيهود باراك، وزير دفاع إسرائيل آنذاك، فيدان بأنه “صديق إيران“، قائلاً إن الأسرار المشتركة مع تركيا “يمكن أن تنفتح على إيران خلال الأشهر العديدة المقبلة”.
آخر معقل
قبل أن يتولى فيدان منصبه، كان المخابرات التركية تتحول إلى الاهتمام بالشأن الداخلي مثل جميع المؤسسات التركية الأخرى؛ لدرجة أنه اختُرِعَتْ نكتة تعبر عن ذلك تقول أن المخابرات تعرف أسماء عشيقات كل وزير ونائب، لكن لا تعرف اسم رئيس مخابرات الجيش السوري.
كان على فيدان أن يلقي بنفسه في النار مباشرة؛ فقبل انضمامه إلى المخابرات التركية، انضم فيدان، الذي كان آنذاك نائب وكيل الوزارة في مكتب رئيس الوزراء، إلى مفاوضات سرية مع حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) في النرويج؛ حيث سجل حزب العمال الكردستاني المحادثة، وظهر الشريط عندما ألقت الشرطة البلجيكية القبض على أحد أعضاء حزب العمال الكردستاني، ولقد نقلوها إلى نظرائهم في تركيا، الذين كانوا تحت سيطرة أتباع فتح الله غولن، الذين سربوا ذلك.
حاول أتباع غولن الإطاحة بفيدان، فقد كان مكتبه في المقر القديم للمخابرات التركية في أنقرة هو أول مكتب حكومي يتم قصفه بطائرة هليكوبتر في الانقلاب العسكري الفاشل في عام 2016
لقد تسلل أتباع غولن إلى أجزاء كبيرة من الدولة التركية: قوات الشرطة والقضاء وجزء كبير من وسائل الإعلام، وكان لديهم جامعاتهم الخاصة وشبكة من المدارس الخاصة، وكانت المخابرات التركية آخر معقل داخل المؤسسة الأمنية لم يسيطر عليه أتباع غولن بعد.
دفع أتباع غولن برمضان آكيورك، الذي تم تعيينه رئيسًا لمخابرات الشرطة قبل عدة سنوات، لمنصب رئيس المخابرات التركية في عام 2010، فيما كرر النقاد والمنشورات من أتباع غولن موقف إيهود باراك بأن فيدان كان “مؤيدًا لإيران”.
كان إردوغان متشبثًا برؤيته، على الرغم من أن الانقسام مع أتباع غولن لم يحدث بعد، حيث اتُهم أكيورك فيما بعد بتجاهل اغتيال الصحفي والمفكر الأرمني التركي هرانت دينك، والتنصت غير القانوني على المثقفين والسياسيين. وحُكم على أكيورك في قضية دينك بالسجن المؤبد.
وحاول أتباع غولن الإطاحة بفيدان، فقد كان مكتبه في المقر القديم للمخابرات التركية في أنقرة هو أول مكتب حكومي يتم قصفه بطائرة هليكوبتر في الانقلاب العسكري الفاشل في عام 2016. ولساعات؛ اعتقد الجميع أن فيدان قد مات.
ليست المرة الأولى التي قلل فيها أقرانه من قدرات الناجي الهادئ، فلطالما كان فيدان مفتونًا بالعلاقة بين الذكاء والسياسة الخارجية، والتي كانت موضوع أطروحته للماجستير. ورغم أنه انتهى منه في عام 1999، فإنها تُقرأ اليوم بشكل ساخر إلى حد ما، لأن فيدان كان يستخدم المخابرات الأمريكية والبريطانية كنماذج يجب أن تقتدي المخابرات التركية بها، وكان هذا عندما كانت القوة الأمريكية في ذروتها؛ حيث تم الترحيب بالفائز في الحرب الباردة باعتباره الزعيم بلا منازع عسكريًا واقتصاديًا للعالم.
بناء المؤسسات
أفرز العقدان اللاحقان لهذه الأطروحة “الحرب على الإرهاب” في أفغانستان والعراق واليمن وسوريا وليبيا، والآن أوكرانيا، ولكنهما شهدا إخفاقات استخباراتية وسياسة خارجية كبرى في الغرب. لكن في عام 1999؛ كان ذلك في علم الغيب، ففي ذلك الوقت؛ اعتقدت الولايات المتحدة حقًا أنها يمكن أن تكسر وتعيد تشكيل البلدان كما تشاء.
لكن ما جذب فيدان إلى أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية هو كيفية تنظيمها ودمجها كمؤسسات، وكان هذا مصدر قلق تركي للغاية؛ لأن البلاد ابتليت بغياب بناء المؤسسات. وأراد فيدان تغيير ذلك وشرع في إعادة تشكيل المخابرات التركية وتحويلها إلى مؤسسة مهنية يمكن الاعتماد عليها.
ولقد فعل الشيء نفسه مع وكالة المعونة التركية “تيكا“؛ حيث استخدمها فيدان كأداة لتوسيع النفوذ التركي في البلقان في وقت كان فيه مرجل الحرب العرقية لا يزال ساخنًا.
أعاد فيدان بناء المخابرات التركية خلال رئاسته لها على مدى السنوات الـ13 الماضية؛ حيث أعاد تأسيسها كمنظمة تتطور وتتكيف مع التهديدات الجديدة، فقد أنشأ قسمًا مخصصًا للتحليل الإستراتيجي وقسمًا مخصصًا للحرب الإلكترونية، كما حولها لمنظمة غير سياسية – على غير العادة بالنسبة لتركيا – فقد كانت الترقيات فيها من خلال الكفاءة والجدارة فقط.
إن خدمة المخابرات غير الحزبية لها أهمية خاصة، فلو فاز كمال كيليجدار أوغلو، المرشح المفضل لجو بايدن، بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، لكان من الممكن أن تُمنح المخابرات التركية للزعيم اليميني المتطرف أوميت أوزداغ، إلى جانب ثلاث وزارات أخرى، وكان هذا هو جوهر البروتوكول السري الذي كشفه الخاسر كيليجدار أوغلو للتو الآن.
فيدان ليس سياسيًا، رغم أن علاقته بأردوغان وثيقة، فقد كان أردوغان يحمي ظهره في أكثر من مناسبة، وظل فيدان مخلصًا لأردوغان بشكل ملحوظ عندما انشق آخرون من حوله – مثل رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو – للانضمام إلى المعارضة.
“إن أصعب مهمة تنتظر فيدام. فالنظام العالمي القديم في طريقه إلى النهاية… لكن النظام العالمي الجديد لا يزال بعيدًا عن التكون”
مفتاح فيدان هو أنه لا يعتبر نفسه خادمًا للدولة فحسب، بل وصيًا عليها.، فحتى قبل أن ينتقل إلى وزارة الخارجية، كان لدى المخابرات التركية بعض الملفات المهمة من مناطق الصراع؛ حيث كانت الوكالة التي ضمنت انتصار أذربيجان في جولة القتال الأخيرة مع أرمينيا، كانت الوكالة التي أشرفت على الهجوم التركي ضد مجموعة فاغنر والجنرال المنشق خليفة حفتر في ليبيا، وهي التي تفاوضت على صفقة الحبوب – البائدة الآن – بين أوكرانيا وروسيا، ونظمت تبادل عدد لا يحصى من الأسرى بين الطرفين.
وخلال فترة ولايته؛ خلقت المخابرات التركية العديد من الأعداء، فوكالات الاستخبارات المتنافسة لا تحب المنافسة، خاصة من مدير فعال.
وشكل تعيين فيدان وزيرًا للخارجية، انقسامًا في الرأي في إيران، فبينما قامت قناة “أفساران-إر Afsaran-ir” على منصة “تيليغرام”، والمقربة من الحرس الثوري الإيراني، بالإشادة بفيدان لعلاقاته معهم بعد أن داهمت القوات الإسرائيلية أسطول الحرية في غزة عام 2010؛ ذهب موقع الدبلوماسية الإيرانية في الاتجاه الآخر، حيث كتب إسلام ذو القادربور: “بين عامي 2010 و 2020، تحت قيادة فيدان، نشرت تركيا إستراتيجيات أمنية واستخباراتية كانت جميعها ضد مصالح إيران في المنطقة. فجهاز المخابرات الوطني التركي هو الراعي الرئيسي للمنظمات الإرهابية ودعاة الحرب في شمال سوريا، وفيدان هو الشخصية الرئيسية التي تنظم سياساتها”.
إن الخط المتعلق بالعمل ضد مصالح إيران صحيح جزئيًّا، لكن ذلك يعتمد على كيفية تعريفك للمصالح.
خبير الحلقات
لقد أحبطت المخابرات التركية عمليات لـ10 فرق اغتيال إيرانية مختلفة من وكالات المخابرات الإيرانية الثلاثة، والتي لم تكن تستهدف الإسرائيليين واليهود على الأراضي التركية فحسب، بل كانت تستهدف أيضًا في حالة واحدة تركيا كنقطة انطلاق لعملية في القوقاز، وتم الكشف عن بعض هذه العمليات فقط.
وقامت إسرائيل أيضًا بتغيير موقفها من فيدان، فعندما تم تعيينه مديرًا للمخابرات التركية في عام 2010، ذكرت صحيفة هآرتس أن هناك مخاوف لمؤسسة الدفاع الإسرائيلية من هذا التعيين. والآن؛ يُنسب إليه الفضل في إعادة بناء العلاقات مع قيادة المخابرات الإسرائيلية، ولكن ما فشلت وسائل الإعلام الإسرائيلية في توضيحه هو لماذا يستمر اعتراض عمليات الموساد في تركيا.
خلال فترة ولايته، أصبح فيدان خبيرًا في الصف الأول في السياسة الخليجية، ولكن هذا كان يفرض عليه أعباء كبيرة أيضًا، فقد كان أول من تلقى اتصالات سعودية تتوسل إليه لدفن قضية قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، والتي كانت عملية خرقاء بامتياز.
وكان فيدان أول من تأكد من نشر شرائط القتل على الملأ، وأول من أطلع مديرة وكالة المخابرات المركزية جينا هاسبل على أهميتها. وبالمقابل؛ كان أول من أعاد العلاقات التركية مع الرجل الذي أمر بقتل خاشقجي، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
الآن، هناك خلاف بين محمد بن سلمان والزعيم الإماراتي محمد بن زايد، لكن كلا المعسكرين تربطهما علاقات دافئة ومتنامية مع تركيا، وكل هذا من شأنه أن يكون موضوع محاضرة مثيرة للاهتمام في العلوم السياسية بعد تقاعد فيدان، ويمكن أن يكون عنوان إحدى الجلسات: “كيف تصادق الرجلين اللذين بذلا قصارى جهدهما لقتلي”.
إن أصعب مهمة فيدان تنتظره، فالنظام العالمي القديم في طريقه إلى الزوال، على الرغم من أن الناتو لا يبدو أنه يعرف ذلك. لكن النظام العالمي الجديد لا يزال بعيدًا عن التكون، فما لديك بدلًا من ذلك هو حقل ألغام دبلوماسي كثيف ومفخخ مثل ذلك الذي يواجه القوات الأوكرانية التي تحاول استعادة الأراضي المفقودة.
يتم الآن تقسيم العالم إلى كتل متضادة – بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية – كنموذج مفاهيمي عند العقبة الأولى. ولحماية أسلوب حياتهم؛ تتخلص الديمقراطيات الليبرالية من ليبراليتها، لا سيما تجاه الأقليات العرقية، وتصبح أكثر نزعةً إلى النزعة التجارية في الخارج، ويكافأ أفظع منتهكي حقوق الإنسان بعمليات الإنقاذ ومبيعات الأسلحة.
يتطلب هذا الموقف إدراك الفروق الدقيقة والذكاء والقدرة على الاستماع وتقييم المعلومات، كما أنها تتطلب شخصًا قضى وقتًا في إقامة علاقات شخصية ولديه الآن الوسائل اللازمة لسن السياسة الخارجية.
إنها تتطلب عقلًا قادرًا على إعطاء صوت وشكل للسياسة الخارجية، وهذا موجود بشدة في وزير الخارجية التركي الجديد، ومن الأفضل لوزراء الخارجية الآخرين أن يأخذوه وتركيا على محمل الجد.
المصدر: ميدل إيست آي