ألقى موسم الأمطار الذي بدأ في يوليو/تموز الماضي، وتصاحبه سيول وفيضانات في أواخر أغسطس/آب وأوائل سبتمبر/أيلول، بمخاوف إضافية من توسع نطاق الأضرار البيئية التي رافقت الحرب المندلعة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وبينما يحاول المجتمع المحلي والإقليمي والدولي ممارسة ضغوط على طرفي النزاع لإنهائه بطرق سلمية، لا أحد يهتم بالآثار المدمرة التي خلفتها وتخلفها الحرب على البيئة ربما لأنها لا تشتكي رغم أن أضرارها قد تمتد لسنوات.
كارثة صحية وشيكة
يتحدث الفارون من العاصمة الخرطوم، عن تكدس شوارع مدنها الثلاثة: الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان، بالجثث المتحللة والأشلاء والسيارات والآليات العسكرية المحترقة، عدا عن مشاهد الدخان المنبعث من حرائق غارات الطيران الحربي والمدفعية الثقيلة على المنازل والمنشآت ومستودعات المواد البترولية والمصانع.
بعد أسبوع واحد من اندلاع الحرب، حذر المتخصص في الأمراض الجرثومية سفيان عبود من أزمة صحية حال لم تتخذ السلطات خطوات عملية عاجلة لحل أزمة الجثث، ويقول إن استمرار هذا الوضع يؤدي إلى خطر انتشار الأمراض المعدية والجرثومية وتكاثر الحشرات والذباب وانبعاث الروائح الكريهة، ولا يمكن تسمية مرض واحد يمكن أن تنقله الجثث المتحللة في البيئات المفتوحة حال وجود أمراض مستوطنة، وربما يكون بعض الضحايا مصابين بأمراض مزمنة ينقلها الدم.
مع النظام الصحي الذي يُكافح عدم الانهيار جراء الحرب وعدم حدوث أدنى استجابة لتأثيرات البيئة، يُرجح انتشار الأمراض الوبائية مثل الطاعون والكوليرا
لم يكترث طرفا النزاع لتحذيرات انتشار الجثث في الشوارع العامة، إذ ينصب اهتمامهما على تحقيق نصر عسكري، بينما يقود وجود الجثامين لفترات طويلة دون دفنها إلى كارثة صحية، خاصة أن الأمطار والرطوبة العالية تُشكلان حاضنة مثالية لتكاثر نواقل الأمراض، وفقًا للطبيبة مثاني بشير.
تقول مثاني لـ”نون بوست”، إنه مع النظام الصحي الذي يكافح عدم الانهيار جراء الحرب وعدم حدوث أدنى استجابة لتأثيرات البيئة، يرجح انتشار الأمراض الوبائية مثل الطاعون والكوليرا، خلال الأشهر المقبلة، وتشدد على أن الوضع في غاية الخطورة.
تضيف أيضًا أن طول أمد النزاع وانعدام الأمن سيفاقم الوضع البيئي، إذ إن بقاء الجثث دون دفن لفترات طويلة يجعلها عرضة لنهش الكلاب والقطط والقوارض، وهي حيوانات ناقلة للأمراض، ما يتطلب من الجيش وقوات الدعم السريع توقيع اتفاق وقف عدائيات فعال ـ ولو مؤقتًا ـ لدفن الجثث قبل حدوث الكارثة.
وقبل اندلاع الحرب في 15 أبريل/نيسان هذا العام، كانت مشارح العاصمة الخرطوم تتكدس فيها 3 آلاف جثة متحللة، لا تخضع حاليًّا لأي رقابة طبية لوقوعها في مناطق الاشتباكات.
وكانت هيئة الطب العدلي تخشى من انتشار الأمراض والأوبئة بين المواطنين، لأن القوارض تدخل المشارح وتتغذى على الجثامين، دون وجود وسائل مكافحة فعالة، ما اضطرها لاستخدام مبيدات الحشرات للقضاء على القوارض والحشرات، لكنها الآن لا تستطيع فعل شيء في ظل انعدام الأمن.
تلوث شامل
إن الخطر البيئي الثاني الذي سببته الحرب هو تراكم النفايات في شوارع العاصمة الخرطوم، بعد توقف أعمال جمعها نتيجة تعطل عمل مؤسسات الدولة، حيث يتوقع أن تجرفها الأمطار والسيول إلى نهر النيل، ما يهدد بتلوث مياه الشرب والري والأسماك.
انتشار الجثث في الطرق واحتمال جرفها إلى مصادر المياه وتلوث الهواء، تؤكد استحالة تقليل المخاطر في الوقت الراهن، ما يعني في خاتمة المطاف أنه لا نجاة من الكارثة
يقول الخبير البيئي صلاح النور إن لجوء بعض السكان إلى حرق النفايات والدخان المنبعث منها ومن الحرائق الأخرى، إلى جانب الغازات المنبعثة من حرائق المصانع والمواد الكيميائية الموجودة فيها ومخازن الأسلحة والمبيدات، أدت إلى تلوث الهواء.
ويضيف خلال حديثه لـ”نون بوست”، أن الأسلحة المحترقة قد تحتوي على غازات سامة، وفي هذه الحالة ومع عدم وجود نظام طبي متطور، فإن السودان مقبل على كارثة شاملة قد تكون أشد فتكًا بسكانه من الحرب.
ورافق حرب جنرالات السودان، نمطًا غير مبرر إطلاقًا، يتمثل في تدمير المصانع التي تضم مخازنها مواد بلاستيكية وكيميائية، ما ضاعف تلوث الهواء، وأثر حتى على الأجنة داخل بطون أمهاتهم.
ورغم غياب التقييمات الحقيقية لمخاطر النزاع على البيئة حتى الآن، فإن المعطيات المتوافرة ومنها انتشار الجثث في الطرق واحتمال جرفها إلى مصادر المياه وتلوث الهواء، تؤكد استحالة تقليل المخاطر في الوقت الراهن، ما يعني في خاتمة المطاف أنه لا نجاة من الكارثة.
يحتم الوضع، وفقًا لصلاح النور، استجابة سريعة قبل أن تنتشر أمراض من قبيل سرطانات الرئة والدم وأمراض الجهازين الهضمي والتنفسي وأوبئة الكوليرا والطاعون، وسط السودانيين كانتشار النار وسط الهشيم، لا سيما أن بعضها معدٍ.
نزاعات محتملة أشد فتكًا
ثمة خطر ثالث، وهو أشد ضراوة من انتشار الجثث في الشوارع وتحللها في المشارح ومن حرائق النفايات والمصانع، يتعلق بإزالة الغطاء النباتي لاستخدامه وقودًا لطهي الطعام في ظل الشح الشديد في غاز الطبخ في بعض المناطق وعدم توافره في المناطق الأخرى.
خطر إزالة الغطاء النباتي الأكبر يكمن في خلق وضع ملائم لمزيد من النزاعات بين الرعُاة والمزارعين، في ظل التغيرات المناخية القاسية، وهذه النزاعات المحتملة قد تكون طويلة الأمد ودموية لأنها لا تتعلق بالسعى إلى السلطة وإنما الحفاظ على الحياة
ظلت مساحة الغابات تتناقص سنويًا بسبب القطع الجائر للأخشاب، وهي تمثل حاليًّا نحو 12% من مساحة السودان، وتساهم بـ3.3% من إجمالي الناتج القومي بحسب وزارة المالية، بينما تقول تقديرات أخرى إنها تساهم بأكثر من 12%.
تقول الهيئة القومية للغابات إن الغابات توفر نحو 69% من ميزان الطاقة في السودان، و70% من الأعلاف للماشية في فصل الصيف و30% في فصل الخريف، علاوة على توفيرها 15% من فرص العمل لمواطني الريف.
وتضيف “خلال السنوات القليلة ونسبة لعدد من التغيرات المناخية التي اجتاحت العالم، أصبح للغابات دور رئيسي في امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي وتخزينه في شكل كربون بالكتلة الحية أو داخل الأرض ومن ثم تقليل مخاطر الاحتباس الحراري الذي بات يؤثر في درجة حرارة الأرض والمحيطات وحركة الرياح والأمطار”.
ويتوقع أن يُشكل النازحون داخليًا البالغ عددهم 3 ملايين نازح من جملة 3.9 مليون شخص فروا من القتال، ضغطًا كبيرًا على الغطاء النباتي، حيث لا يقتصر الأمر على استخدامهم له كوقود للطهي في مخيمات النزوح المؤقتة، وإنما يمتد إلى قطع الأشجار لبناء مساكن تأويهم، بعد أن فقدوا كل شيء.
تتمثل مخاطر إزالة الغطاء الغابي في تصحر التربة وجعلها غير صالحة للزراعة وزيادة انبعاث غازات الاحتباس الحراري وارتفاع درجات الحرارة، إضافة إلى إبادة حياة الحيوانات البرية والطيور والزواحف والحشرات، وهي جميعها تلعب دورًا مهمًا في حفظ التوازن الحياتي والبيئي.
لكن خطر إزالة الغطاء النباتي الأكبر يكمن في خلق وضع ملائم لمزيد من النزاعات بين الرعاة والمزارعين، في ظل التغيرات المناخية القاسية، وهذه النزاعات المحتملة قد تكون طويلة الأمد ودموية لأنها لا تتعلق بالسعى إلى السلطة وإنما الحفاظ على الحياة.
لا شك أن الجندي الذي يحمل السلاح، سواء كان يقاتل لصالح الجيش أم الدعم السريع، لا يدرك مخاطر استمرار النزاع على البيئة وتلوثها وما يمكن أن يسبب ذلك من أمراض وأوبئة غير محتملة، وإلا تخلى عنه.