أعلنت الحكومة الإثيوبية، الجمعة 4 أغسطس/آب 2023، فرض حالة الطوارئ في أعقاب الاشتباكات التي اندلعت بين قوات الدفاع الوطني (الجيش) الإثيوبية وميليشيا “فانو” المسلحة الخاصة، في إقليم أمهرة، ثاني أكبر إقليم في البلاد، دون تحديد ما إذا كانت حالة الطوارئ ستفرض على أمهرة فقط أم على جميع أنحاء الدولة.
ويشهد إقليم أمهرة منذ الأربعاء الماضي مواجهات عنيفة بين القوات النظامية وميليشا “فانو” التي كانت الذراع الأقوى للجيش الإثيوبي في حربه ضد جبهة التيغراي خلال العامين الماضيين، وسط تحذيرات من انفلات أمني قد يجر البلاد نحو حرب أهلية واسعة النطاق في ظل انتشار الجماعات المسلحة في معظم الأقاليم.
النزاع بين الحليفين السابقين أثار الكثير من التساؤلات عن السيولة التي تعاني منها خريطة التحالفات السياسية والأمنية في إثيوبيا التي تتغير بسرعة لافتة، وتداعياتها على الاستقرار والأمن الداخلي في بلد يعاني منظومته الأمنية من هشاشة كبيرة في ظل لا مركزية التسليح التي يشهدها منذ عقود طويلة، جعلت الدولة ساحة كبيرة للكثير من الجماعات المسلحة والأجندات المحلية والإقليمية.
خروج الوضع عن السيطرة دفع بسلطات الإقليم لطلب النجدة من أديس أبابا.. #إثيوبيا تعلن حالة الطوارئ في إقليم أمهرة الذي يشهد مواجهات عنيفة بين مسلحي “فانو” والقوات النظامية
| تقرير: مريم أوباييش #الأخبار pic.twitter.com/YfkS9KNSHK— قناة الجزيرة (@AJArabic) August 5, 2023
من الحليف إلى المتمرد
قبل 24 شهرًا من اليوم كانت ميليشا “فانو” إحدى الركائز الأساسية التي استندت إليها حكومة آبي أحمد وقوات الدفاع الوطني لإخماد تمرد التيغراي وتقليم أظافرهم، وذلك لما تتمتع به من قوة تسليحية كبيرة وخبرة واضحة في التعامل مع معارك الشوارع المفتوحة غير النظامية.
وساهمت تلك الميليشا في ترجيح كفة الحكومة الاتحادية الإثيوبية التي كانت مهددة بالإطاحة بها حال خسارتها تلك المعركة، وقتها كان الجميع يطلقون على “فانو” مسمى الحليف العسكري الموثوق به، فعلى مدار العامين الماضيين كانت العلاقة بين الجيش والحكومة من جانب وميليشا فانو من جانب آخر في أوج قمتها.
لكن في أبريل/نيسان الماضي، وبعد أن استتب الوضع أمنيًا في إقليم التيغراي، قررت الحكومة الإثيوبية تطبيق اتفاق السلام الشامل الذي وقعته مع جبهة تحرير تيغراي في بريتوريا بجنوب إفريقيا، نوفمبر/تشرين الثاني 2022، الذي ينص في أحد بنوده على “توحيد القوة العسكرية تحت لواء وزارة الدفاع الإثيوبية، ونزع سلاح الميليشيات المسلحة كافة، وإعادة دمج عناصرها داخل الجيش النظامي”.
ميليشا “فانو” ترى أنها ليست طرفًا في هذا الاتفاق المبرم في جنوب إفريقيا، فهي ليست فصيلًا مسلحًا مستقلًا، لكنها دشنت كجهة مسؤولة عن الأمن في إقليم الأمهرا، وهو ما يتوافق مع الدستور الفيدرالي للبلاد الذي يمنح كل إقليم مسؤولية حماية أراضيه بتكوين قوات تتبع إدارته، وهو التفسير الذي ترفضه الحكومة الإثيوبية.
ووفق التفسير الرسمي لأديس أبابا، فإن الاتفاق يعني تسليم جميع الميليشات ومن بينها “فانو” سلاحها لقوات الدفاع، وتخليها عن قاعدتها التسليحية والدفاعية، وهو ما رفضته الميليشيا بشكل كامل، وبعد مفاوضات بين الجانبين أفضت إلى الفشل المتوقع، دخل الطرفان في مناوشات خفيفة وصولًا إلى هذا الصدام الذي حول الحليفين إلى أعداء، جيش نظامي ومتمردين.
اغتيالات وفوضى أمنية
لم يتأخر رد الميليشا المسلحة كثيرًا على مطالب أديس أبابا لها بتسليم سلاحها وتجريدها من عتادها التسليحي، حيث بدأت في تنفيذ بعض الجرائم التي صنفت على أنها “اغتيالات سياسية” كرسالة مباشرة وصريحة للحكومة بأن أي محاولة للحصول على السلاح بالقوة ستقابل بعنف ورد فعل أقوى.
في 27 أبريل/نيسان 2023 أغتيل رئيس فرع “حزب الازدهار” الإثيوبي الحاكم في إقليم الأمهرا، جرما شيطلا، وخمس من مرافقيه، في حادثة أثارت الكثير من الجدل لما تحمله من دلالات ومؤشرات قاسية على الوضع الأمني في الإقليم، حيث وجهت الحكومة الفيدرالية تهمة الاغتيال السياسي إلى عناصر قيادية في ميليشيا “الفانو” المنتشرة في الأمهرا بصورة كبيرة.
الأمر تكرر بعدها بأسبوعين تقريبًا، ففي 13 مايو/أيار 2023 تعرض رئيس فرع الحزب الحاكم، في إقليم العفر، عمر لما، وعدد من أفراد عائلته للاغتيال في أثناء عودتهم من العاصمة أديس أبابا إلى الإقليم، ورغم عدم انتهاء التحقيقات بعد، فإن أصابع الاتهام وجهت إلى الميليشا المسلحة التي اعتبرها البعض تقوم بحملة اغتيالات سياسية ممنهجة لترهيب الحكومة والحزب لإثنائهم عن تطبيق اتفاق بريتوريا.
وردًا على تلك الجرائم التي وضعت الحكومة والنظام الأمني الإثيوبي في مأزق داخلي، اتخذت أديس أبابا إجراءات وتدابير أمنية واسعة استهدفت قياديين في الميليشا حيث اعتقلتهم وبعض أفراد أسرهم، وهو ما أجج الموقف المتوتر بينهما ودفع نحو المواجهات المباشرة المسلحة الدائرة منذ الأربعاء الماضي وحتى اليوم.
كابوس فاغنر والدعم
لا يمكن قراءة هذا الانقلاب على الحليف القديم، الميليشا المسلحة، بمعزل عن شبح النموذج الروسي السوداني، حين بدأت تشكل مجموعة “فاغنر” تهديدًا وجوديًا للنظام الروسي رغم كونها ذراع موسكو المسلحة خارجيًا لتوسيع نفوذها في إفريقيا، فضلًا عن دورها المحوري في المعركة داخل أوكرانيا.
الأمر ذاته مع قوات الدعم السريع التي تم تدشينها كقوة خاصة لتنفيذ مهام أمنية خاصة، لكن سرعان ما استفحلت وبدا لها أطماع سياسية كبيرة في الحكم وصلت إلى الصدام مع الجيش السوداني النظامي وتحويل البلاد إلى ساحة قتال كبيرة خلفت وراءها ملايين النازحين والمشردين في الداخل والخارج.
لا شك أن هذين النموذجين كانا بمخيلة الحكومة الاتحادية الإثيوبية وهي تطالب حليفها السابق في أبريل/نيسان الماضي، أي بعد أيام قليلة من حرب الجنرالات في السودان، بتسليم أسلحته للجيش والانضواء تحت لواء عسكري واحد، خاصة أنه ليس الوحيد الذي يتمتع بقدرات تسليحية قد تشكل تهديدًا مستقبليًا لأمن واستقرار البلاد.
وتعاملت الحكومة الإثيوبية مع “فانو” بمبدأ برغماتي بحت، فحين انتهت من أزمتها مع جبهة التيغراي بتوقيع اتفاق سلام معها وتحويلها من عدو إلى حليف لحكومة آبي أحمد، وذلك بعد تعيين حكومة انتقالية جديدة في الإقليم، يقودها رئيس وفد التفاوض جيتاشوا رضا، تحول موقف الحكومة الاتحادية من الميليشا بعدما وصفتها بأنها كيانات متمردة تستوجب المواجهة.
انفلات أمني وإرهاصات حرب أهلية
الانتقال من الصدام الأمني التقليدي إلى الاغتيالات السياسية ردًا على مساعي تسليم سلاح الميليشيات يعني باختصار انفلاتًا أمنيًا من المستوى المتقدم، بما يمهد نحو الولوج إلى حرب أهلية شاملة، وفق ما ذهب المحلل السياسي المختص في منطقة القرن الإفريقي، عبد الرحمن أبو هاشم، الذي يرى أن الاغتيالات الأخيرة “تحمل رسائل مزدوجة إلى الحكومة الفيدرالية وحكومات الأقاليم، مفادها بأن عدم الوصول إلى حلول سياسية شاملة ومرضية لجميع أطراف الصراع في البلد، قد يعيق عملية الانتقال إلى الديمقراطية وإدارة الدولة واستقرارها، ولن ينجو أحد من عواقبها حتى لو كان عضوًا بارزًا في الحزب الحاكم”.
واتهم أبو هاشم ما أسماه “أياد خفية” بالضلوع وراء عدم تنفيذ اتفاق بريتوريا على الأرض بشكل كامل، لافتًا أن هناك من يرغب في الإبقاء على حالة عدم الاستقرار لأطول فترة ممكنة بما يحقق أجندات وأهداف خاصة، خاصة أن “جبهة التيغراي لا تزال تتمسك باستعادة منطقة الولقايت إلى خريطة الإقليم الشمالي”، محذرًا من أن فشل الحكومة في تنفيذ الاتفاق قد يقود البلاد إلى جولات جديدة من الحرب، وفق تصريحاته لـ“إندبندنت“.
أما الصحفي الإثيوبي، شيمني بيهون، فيحمّل سياسات الحزب الحاكم في إثيوبيا مسؤولية تفاقم الأوضاع، لافتًا إلى أن إدارة أبي أحمد – عبر تشريع برلماني – كانت قد صنفت جبهة التيغراي قبل عامين كمجموعة إرهابية، واليوم تتعامل معها ككيان حليف تحت ضغوط دولية، وهو ما يتم الآن مع ميليشيا “الفانو” التي كانت بالأمس حليفًا واليوم صارت عدوًا.
وكشف أن الاتفاق الموقع في جنوب إفريقيا العام الماضي مع الجبهة لم يحظ بتأييد المجتمع المحلي ولا الحلفاء السابقين، وأن الالتزامات التي قطعتها أديس أبابا على نفسها جاءت دون العودة إلى المؤسسات التشريعية والشعبية، محذرًا من أن هذا المنحنى قد يقود “إلى حرب أهلية مريرة، لا سيما أن كل إقليم يحتفظ بقوات مسلحة تتمتع بالاستقلالية عن الجيش النظامي”.
وألمح بيهون أنه ليس هناك تأكيد على أن التيغراي قد ألقوا سلاحهم بشكل كامل، تنفيذًا للاتفاق، ما يعني أن الخطورة لا تزال قائمة، في ظل وجود وحدات كاملة مسلحة في الأمهرا حتى اليوم، “وبالتالي ليس من الإنصاف معاقبة الحلفاء الذين دفعوا كلفة الحرب من أجل كسب العدو السابق” على حد قوله.
خارطة مكتظة بالجماعات المسلحة
وعلى مدار أكثر من 47 عامًا تزخر الساحة الإثيوبية بعشرات الجماعات المسلحة، بعضها جرى توفيق أوضاعه مع الجيش والحكومات، والثاني أعلن تمرده، فيما دشن أخرون اتفاقيات وهدن وفق معايير وضوابط محددة تحكم نشاطها بما لا يهدد الأمن الداخلي.
ومن أبرز تلك الحركات “أونق شني” المنشقة عن جبهة تحرير أورومو المعارضة، ووقعت اتفاق سلام وقعته مع الحكومة الإثيوبية في أغسطس/آب 2018، بالعاصمة الإريترية أسمرا، لوقف جميع الأعمال العدائية بين الجانبين، كذلك حركة “غوموز الديمقراطية الشعبية” في إقليم بني شنقول جومز الذي يقع به سد النهضة الإثيوبي، وقد وقعت هي الأخرى اتفاق سلام مع حكومة الإقليم في أكتوبر/تشرين الأول 2022.
ومن بين الحركات المسلحة التي تنشط في هذا الإقليم ” حركة تحرير شعب بني شنقول” والتي كانت داعمة لجبهة التيغراي في مواجهة نظام منغستوهيلي ماريام العسكري، بإثيوبيا حتى إسقاطه، وهناك كذلك “جبهة تحرير السيداما” في منطقة السيداما، ودخلت في مواجهات عنيفة قبل ذلك مع الجيش الإثيوبي.
علاوة على ذلك فهناك “جبهة تحريرأوغادين” التي تأسست عام 1984 على يد أفراد كانوا يسعون للحصول على حكم ذاتي للمنطقة الحدودية مع الصومال، وهي من أكبر الجماعات المسلحة وأعظمها تأثيرًا، والتي تشكلت في الأساس إثر الخلاف مع زعيم جبهة تحرير أورومو داؤود ابسا، بقيادة كومسا دريبا المعروف بـ “جال ميرو”.
هذا بخلاف عشرات الجماعات المسلحة الأخرى، الأقل من حيث العدد وقدرات التسليح، والتي تنشط في بعض الأقاليم للقيام بأعمال النهب والسرقة في الأقاليم ذات المستوى المعيشي الأفضل نسبيًا مثل الأمهرة وبني شنقول جومز وجامبيلا وجنوب إثيوبيا.
في الأخير فإن حكومة آبي أحمد وضعت نفسها في مأزق جديد برقصها على كافة الأحبال بمبدأها البرغماتي البحت دون أي حساب لاعتبارات التحول والانتقام ورد الفعل المتوقع من قبل حلفاء الأمس وخصوم اليوم، وهو ما يعني أن كافة السيناريوهات متاحة، وعلى رأسها حرب أهلية مكتملة الأركان في ظل التمايز القبلي الطائفي الذي تتميز بها الخارطة الإثيوبية.