الزمن الذي كنا نباهي فيه أخوتنا العرب بحسنات الديمقراطية في تونس ولى وانقضى، لم نمت بعد وقد وجدنا وقتًا للذهاب إلى البحر وأكل كوز ذرة مشوي على الطريق، هذه نعم باقية وقد تمتعنا حتى إننا لم ننتبه إلى تغيير رئيس الوزراء.
لقد بكرنا لطوابير الخبز وهي من عادتنا الجديدة، فوجدنا رئيس وزراء لا نعرفه، ابتسم أغلبنا وقال ما ضر الشاة سلخها بعد ذبحها، لم نسمع صوت رئيس الوزراء بعد وما ضر، فسلفه قضت سنتين في المقر وقالت كلمة واحدة “ما شاء الله”.
ما شاء الله على تونس الجميلة فاتحة مغاليق الحرية المستحيلة، كل شيء في مكانه ونعم كل شيء في مكانه، هنا يحكم رجل واحد أوتي مغاليق الغيب والشهادة ولا يسأل عما يفعل، حتى إنه يرتب نشرة الأخبار على هواه.
طيب ليكن لن يقر الغالبون الآن بهزيمتهم أمام الديمقراطية وسيغالون لكنهم لن ينتبهوا إلى متعة السخرية من نصرهم المؤزر على أرض رخوة تميد، ولا ثورة في الأفق أيضًا، لذلك فزمن السخرية سيمتد طويلًا ما دام هناك من يود قتل الإسلاميين ليعيش سعيدًا.
قد يتوب الشيطان يومًا
في أول الخلق تكبر الشيطان على السجود لآدم الطيني واعتز بعنصره الناري، فنشأ العالم مقسومًا بين بني آدم والشيطان وتاريخ طويل من الغواية، حتى إن قصة الخلق قد تنهار إذا تاب الشيطان وتواضع للسجود وفي علم الله قد يحصل ذلك، لكن الأمر الذي لن يحصل أبدًا ولن تتغير الأشياء والأفعال على الأرض هو أن يتوب الاستئصاليون عن استئصال عدوهم الإسلامي في تونس، إن توبة الشيطان احتمال وارد لكن عودة الاستئصاليين في تونس عن حربهم التي تدمر البلد لن نعيش لنراها، لقد ودعنا الأمل.
كل ما أصاب تونس وما يصيبها من دمار سياسي واقتصادي ناتج عن هذه الحرب القذرة، بما في ذلك تغيير رئيس الوزراء الذي اكتشفناه ذات صباح قائظ ونحن في طوابير الخبز منذ الفجر والخبازون يعاملوننا كعبيد الحقل.
موظف كبير متقاعد من مركز لا يدخله أبناء الشعب العام (البنك المركزي)، لم يرد اسمه في أي نشاط سياسي منذ سبعين سنة، ولم يقرأ له الناس كتابًا ولا حتى مقال بصحيفة مما تستعمل لمسح البلور وهو الاستعمال الأمثل للصحافة التونسية، ولن نعثر على إجابة عن سؤال يطرحه كل الناس: ما أسس اختيار الرجل ليكون رئيس وزراء؟
لكن هناك عنصرًا وحيدًا واضحًا في الصورة: هذا رجل استئصالي متطرف في هواه الاستئصالي يرى أن أكبر خطر على البلد هو وجود الإسلام السياسي غير هذا لم يصرح بشيء، كيف سيعالج هذا الخطر؟ هل ناقش الرجل قضايا الإسلام السياسي؟ هل تجادل مع قياداته؟ هل قرأ لهم؟ هل رد عليهم؟ هذه أسئلة باقية من زمن الديمقراطية حين كانت الشخصيات العامة تتعرض للمساءلة ويضعها الإعلام على محك السؤال، إن أكبر امتياز يملكه أنه مستعد لمواصلة حرب الاستئصال لزمن آخر بما يؤبد مصيبة البلد ويجرها إلى المزيد من الدمار.. وقد يتوب الشيطان.
الشماتة تنفيس ممتع لكن
يقف الناس في الطوابير وتعن لهم مقارنات بزمن العشرية، لكنهم يلتفتون يمنة ويسرة ليطمئنوا فلا يطمئنون، فلا أحد يعرف من يقف خلفه في الطابور، يقول البعض همسًا لم نعش هذا زمن الديمقراطية، لكن هذه الجملة خطرة لأسباب أمنية وسياسية، فالإقرار للديمقراطية بفضل يعني التطاول على الانقلاب وقد يستفيد منها إسلاميون شاركوا في الحكم، إذن لنصمت في الصمت نشمت في المكابرين الجبناء.
يمكن التغني بعهد بن علي، لكن هذه أيضًا أغضبت الانقلاب، فقرع مديرة التلفزة التي لا تضع الانقلاب كخبر أول وتبث برامج فيها حنين إلى ماض جميل (سلفية حداثية تعيش من ماض ميت وتزايد على الإسلاميين الماضويين وهذا موضوع آخر).
يتملل إعلاميون تمتعوا بحريتهم زمن العشرية يرغبون في القول إنها كانت عشرية حريات لم يحاكم فيها إعلامي ولم تغلق إذاعة ولم تفلس صحيفة، لكن سبق منهم قول صريح بأنها كانت عشرية حكم النهضة وحدها، إذن لو ذكرت العشرية بخير سيغنم من حكم حينها، فيرون تناقضهم وورطتهم، فيصمتون على الضيم الحاليّ، فنسمح لأنفسنا بالشماتة ونحولهم إلى مساخر في مجالسنا بلا قهوة (القهوة عملة نادرة في تونس الآن)، لكن هل تحل الشماتة أزمتنا؟
نقف متفرجين على خيبتهم ونحن على يقين أن كِبرهم أشد من كبر الشيطان أمام آدم الطيني ولن يتوبوا، لذلك نرى أن التدمير الذي يسلطه الانقلاب على طغمة الإعلام الاستئصالي هو بمثابة كي بالنار لفئة بلا كرامة ولا أخلاق أفسدت زمن الحرية بالارتزاق الرخيص ضمن حروب الاستئصال الممولة من الخارج، والأجمل في كل المشهد أن لا أحد يحتاج هذه الفئة الآن، فقد انقطع رزقها وستموت قبل أن تعود الديمقراطية بجهد أجيال أخرى لم تقرأ لهم ولم تسمع أحاديثهم.
وفي الأثناء ماذا نفعل؟
نتابع بمتعة (من فوق ربوتنا) تمرد الأفارقة على فرنسا ونقول حتى لو حلت روسيا سيدًا جديدًا على الأفارقة فإنها لن تنحط إلى ما فعلت فرنسا بإفريقيا (إنها تقطع اليورانيوم عن مفاعلات فرنسا وهذا كاف) نرجع بلا يقين أن فرنسا ستعوض خسارتها هناك بمزيد من حلب ضرع شمال إفريقيا وتدميره (فليس لها أسلوب آخر أو أخلاق أخرى)، ولدينا يقين أنه كلما خسرت فرنسا في مكان ضعف صفها في أمكنة أخرى.
وحتى إذا كان رئيس وزراء تونس الجديد من صنائعها وقد أخفته في درج لمثل هذه الأيام، فإن طوابير الخبز سيكون لها رأي حاسم، لا نرى ثورة قادمة من تلك الطوابير، لكن نسمع غمغمة مكتومة تصدر في شكل جمل ساخرة تتظاهر باللامبالاة.
يقيننا بأن السيد الجديد سيدخل جولة جديدة من حرب استئصال، وهي الحرب التي لا تسمح له بتحريك بواخر القمح نحو موانئ تونس، وقد يكتفي مثل سلفه بجملة واحدة “ما شاء الله”، ونقول خلفه ما شاء الله على النخبة التونسية لا تشعر بعار العمل بأمر المنقلب.