من المقرر أن تجتمع في نهاية هذا الأسبوع أكثر من 12 دولة في المملكة العربية السعودية في قمة تستمر يومين لإجراء محادثات سلام بشأن الحرب في أوكرانيا. ومع أنها لن تكون من المشاركين، قالت روسيا إنها ستراقب من بعيد هذه المحادثات التي تُجرى في مدينة جدّة المطلّة على البحر الأحمر. وستكون البرازيل والهند وتركيا واليابان بالإضافة إلى عدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة من بين المشاركين، بينما لم تؤكد الصين بعد حضورها.
بالنسبة للرياض، وتحديدًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – الحاكم الفعلي للمملكة – تعتبر هذه القمة إلى حد ما بمثابة انقلاب دبلوماسي أو بالأحرى أهم إنجازاته بعد نبذه دوليًا في سنة 2018 على خلفيّة مقتل الصحفي جمال خاشقجي على يد عملاء سعوديين في إسطنبول.
كان صبر محمد بن سلمان ومرحه مربكًا بالنسبة لمنتقديه. وقد مثّلت الحرب في أوكرانيا هديّة مرحبًا بها للسعوديين مما أجبر منتقديه على غرار الرئيس الأمريكي جو بايدن على السفر إلى المملكة الخليجية لإصلاح العلاقات، ذلك أنه لا يمكن فرض عقوبات على قطاع الطاقة في روسيا – أحد أكبر موردي الطاقة في العالم – والاستمرار في معاداة السعودية التي تعتبر الملاذ الأخير من المنتجين المتأرجحين في العالم.
تجمع هذه القمة الدولية التي تعقد في نهاية هذا الأسبوع في جدة بين قضايا مترابطة ألا وهي: إعادة تأهيل وليّ العهد والخطوط العريضة لرؤية بلاده السياسية الناشئة للمنطقة ومكانتها في العالم.
حسب جوليان بارنز داسي، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن “دول مجلس التعاون الخليجي الرئيسية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تعمل الآن بحزم على وضع جداول أعمالها الخاصة والموازنة بين اللاعبين العالميين لتحقيق أقصى قدر من المكاسب، وذلك بدلاً من ربط نفسها بمعسكرات عالميّة معينة”.
مع صعود الصين والانحدار النسبي للوجود الأمريكي في المنطقة، يساهم ظهور قوى إقليمية متوسطة الحجم مثل تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية في تغيير ديناميكيات السياسة العالمية ببطء.
وفي تصريح له لموقع “ميدل إيست آي”، أوضح بارنز داسي أن “المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تتبنى التعددية القطبية الناشئة. ففي ظل السعي العالمي لتشكيل التحالفات وتوفير الموارد الطاقية، يرى كلاهما أنه يلعب نفس دور الجهات الفاعلة الرئيسية التي لم تعد تخضع لإملاءات الجهات الخارجية”.
زعيم إقليمي، لاعب عالمي
زادت ثقة السعودية في سعيها لتحقيق ما تعتبره أولوياتها الخاصة. فقد تجاهل وليّ العهد مناشدات الولايات المتحدة لزيادة إنتاج النفط وتحدّى غضب إدارة بايدن بالعمل مع روسيا لإبقاء أسعار النفط عند المستوى المطلوب لتمويل ميزانية الرياض ومشاريع البنية التحتية الضخمة. وفي وقت سابق من هذه السنة، فاجأ محمد بن سلمان الإدارة الأمريكية عندما قام بتطبيع العلاقات مع إيران في مفاوضات توسّطت فيها الصين.
وإدراكًا منه لمحاولات إدارة بايدن تحقيق إنجاز دبلوماسي كبير في المنطقة من خلال دفع السعودية إلى تطبيع العلاقات مع “إسرائيل“، أظهر ولي العهد بكل وضوح أنه لن يُقدِم على هذه الخطوة دون تلقي بعض التنازلات الرئيسية. ووفقًا للتقارير، فإنه من بين الشروط الرئيسية للرياض لتطبيع العلاقات مع “إسرائيل” تلقي المساعدة الأمريكية في إنشاء برنامج نووي مدني.
وزيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان إلى جدة في نهاية هذا الأسبوع دليل على حرص إدارة بايدن على تكريم القمة بمسؤول رفيع المستوى وربما تملّق المملكة بمستوى من الاحترام لطالما شعرت أنها تستحقه.
وحسب عبد الله باعبود، وهو باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، فإن قمة السلام بشأن أوكرانيا تدور أيضًا حول جمع المملكة العربية السعودية بين الدول الغربية والجنوب العالمي الذي لم يدعم العقوبات المفروضة على روسيا. وأضاف باعبود “يتماشى هذا مع رؤية محمد بن سلمان الجديدة وهدفه الاستراتيجي وطموحاته لجعل المملكة رائدة إقليميًا ولاعبًا عالميًا مهمًا”.
وعلى حد تعبير باعبود، تجنّبت السعودية على غرار العديد من دول الجنوب “الحد من مواقفها المتوازنة [بشأن الحرب في أوكرانيا] واستقلاليتها الاستراتيجية” نتيجة الضغط الغربي. وأوضح الباحث أن “محمد بن سلمان يرى أن المملكة يمكن أن تستفيد من الديناميكيات المتغيرة في النظام العالمي وصعود الصين والقوى العالمية الأخرى لإعادة ضبط علاقاتها مع الولايات المتحدة وتحقيق التوازن الاستراتيجي واكتساب مساحة أكبر للمناورة”.
بالنسبة لوزير الاستثمار السعودي خالد الفالح، ظهر عالم جديد متعدد الأقطاب لم يعد يهيمن عليه الغرب. وقال الفالح في مقابلة أجريت معه مؤخرًا “نحن نؤمن، وأعتقد أنه قد ثبت، أن المملكة جزء مهم من هذا العالم الناشئ متعدد الأقطاب. سنلعب دورنا في تطوير اقتصادنا وأيضًا تنمية المنطقة”.
السعودية أولًا
يحرص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على دعم مبادرة السلام السعودية في محاولة لإلزام الحلفاء بأي تسوية نهائية مستقبلية. وقد تجلّت الرؤية السياسية الجديدة للرياض في أبهى صورها عندما ألقى زيلينسكي في شهر حزيران/ يونيو خطابًا مفاجئًا في قمة جامعة الدول العربية بدعوة من محمد بن سلمان، التي شارك فيها أيضًا الرئيس السوري بشار الأسد – الحليف القوي لروسيا – الذي رحّبت المملكة بعودته إلى الحظيرة الإقليمية بعد ما يقارب عقدًا من العزلة.
من السهل تفسير ما يحدث، إذ يسرّ المملكة توفير منصة للرؤى المختلفة للقوة العالمية بينما ستختار في نهاية المطاف من بينها. وبينما فشلت محادثات السلام المماثلة في كوبنهاغن في تحقيق أي نتائج ملحوظة، يمكن للسعودية التظاهر بأنها تحافظ على الزخم الدبلوماسي للتوصل إلى حلّ سلمي للصراع في حين أنها تحمي نفسها من الانتقادات بشأن تحالفها الوثيق مع روسيا.
حسب يوناتان توفال، المحلل في المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية (ميتفيم)، “يبدو أن المحادثات تتمحور أكثر حول تنسيق إجماع عالمي حول المعايير العامة لحل محتمل يكون مقبولاً لأوكرانيا. وبالنسبة لمحمد بن سلمان، فإن فحوى المحادثات أقلّ أهمية من راعيها – أي موقفه الدبلوماسي كميسّر للنوايا الحسنة لمحادثات السلام التي تنطوي على صراع أبرز أدى إلى حدوث شرخ عالمي كبير”.
تشير الدلائل إلى أن ولي العهد البالغ من العمر 37 عامًا يدرك تمامًا أن النزاعات الإقليمية، كما هو الحال في اليمن، والخلافات الدبلوماسية مع اللاعبين الإقليميين المهمين لم تخدم مصالح المملكة جيدًا. وذكر توفال أنه تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن “الرياض تعمل على إصلاح علاقتها مع كل من الدوحة وأنقرة حتى في الوقت الذي سعت فيه إلى تقليدهما والتفوق عليهما في النهاية. وهذا أيضا أدى إلى ذوبان الجليد في العلاقات مع طهران”.
لاشك أن محادثات السلام حول أوكرانيا في جدة ستساهم في تحقيق بعض هذه الأهداف، إلا أنه – حسب آنا جاكوبز، محللة شؤون الخليج في مجموعة الأزمات الدولية – “من غير الواضح في هذه المرحلة مدى فعالية هذه الجهود”. وأضافت جاكوبز أن المملكة العربية السعودية تعمل على تنويع علاقاتها السياسية والاقتصادية مع القوى العالمية بما يتماشى مع وقائع النظام العالمي متعدد الأقطاب. ولكن حتى مع توطيد السعودية علاقاتها مع الصين وروسيا، ستظل الولايات المتحدة شريكها الأمني الأساسي في المستقبل المنظور”.
المصدر: موقع ميدل إيست آي