أعلنت الجزائر معارضتها الصريحة لأي تدخل عسكري أجنبي في النيجر، رغم رفضها للانقلاب الذي أطاح بالرئيس محمد بازوم، وذلك بعد أن لوحت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” وفرنسا بإمكانية التدخل بنيامي، في حال رفضَ المجلس العسكري الحاكم حاليًّا العودة إلى النظام الدستوري، فما هي أسباب هذا الرفض الصريح؟ وهل توحي الأوضاع في الجارة الجنوبية للجزائر بإمكانية حدوث ما وقع في ليبيا قبل أكثر من عقد؟
تتابع الجزائر تطورات الوضع بالنيجر باهتمام كبير، بالنظر إلى انعكاس هذا الوضع عليها على جميع المستويات، جرّاء طول الحدود الرابطة بين البلدَين، إضافة إلى أن أي تردٍّ للوضع بالنيجر ستكون تبعاته وخيمة على البلد المغاربي المحاذي له.
تحذير من التدخلات الأجنبية
لم تتردد الجزائر منذ البداية في إعلان موقفها الرافض لأي تدخل عسكري أجنبي لحلّ الأزمة الدائرة في النيجر، معلنة يوم الثلاثاء في بيان لوزارة الخارجية أنها “تدعو إلى الحذر وضبط النفس أمام نوايا التدخل العسكري الأجنبي، التي تعتبر للأسف خيارات غير مستبعدة ويمكن اللجوء إليها، غير أنها لا تمثّل سوى عوامل تعقّد وتزيد من خطورة الأزمة الحالية”.
وأكّدت الجزائر أنها “تجدد تمسُّكها العميق بالعودة إلى النظام الدستوري بالنيجر واحترام متطلبات دولة القانون، وتؤكد الحكومة الجزائرية في هذا الصدد مجددًا دعمها لمحمد بازوم كرئيس شرعي لجمهورية النيجر”.
كما جاء في بيان الخارجية الجزائرية أنه “ينبغي أن تتحقق هذه العودة إلى النظام الدستوري بواسطة وسائل سلمية، من شأنها أن تجنّب النيجر الشقيق والمنطقة ككل تصاعد وتيرة انعدام الأمن والاستقرار، وتجنّب شعوبنا المزيد من المحن والمآسي”.
بنَت الجزائر على الدوام سياستها الخارجية على رفض التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول، رغم أن هذا القرار أصبح من الصعب الالتزام والتقيُّد به في ظلّ الفوضى التي تحكم اليوم العلاقات الدولية.
تراهن الجزائر على إمكانية حل الخلاف بين القادة في النيجر سلميًّا، من خلال الوصول إلى تسوية بين السلطة العسكرية الانتقالية الحاكمة والرئيس المنقلب عليه، وذلك لتجنيب البلاد أزمات الدخول في عنف، وتدخُّل قوات أجنبية مع طرف على حساب طرف آخر، بما أن البلاد تستضيف على ترابها قوات أمريكية وأوروبية وبالتحديد فرنسية.
وتحاول الجزائر أن يكون موقفها وسطيًّا، فهي لا تدعم الانقلاب امتثالًا لقرارات الاتحاد الأفريقي الرافضة لأي وصول إلى السلطة خارج الأطر الدستورية، كما أنها لا تدعم في الوقت ذاته أي تدخل عسكري أجنبي، سواء تقوم به دول مجموعة “إيكواس” أو فرنسا.
الجزائر ترفض أي تدخل عسكري أجنبي في النيجر مهما كانت الصياغة على اعتبار أن المسألة تظل في الأخير شأنًا داخليًّا
وأجرت الجزائر اتصالات بدول في مجموعة “إيكواس”، كما أجرى الرئيس عبد المجيد تبون محادثات هاتفية مع رئيس بنين، باتريس تالون، عشية الاجتماع الاستثنائي لمجموعة “إيكواس”، الذي جرى يوم الأحد 30 يوليو/ تموز بأبوجا حول الوضع في النيجر. وأضاف البيان أن “الرئيسَين أكّدا تمسكهما الصارم بضرورة العودة إلى النظام الدستوري في النيجر، وإعادة الرئيس محمد بازوم إلى منصبه كرئيس دولة منتخب شرعيًّا”.
يحظى الموقف الجزائري بدعم دولي من حليفَيها البارزَين، إيطاليا التي لا تؤيد مواقف الاتحاد الأوروبي بشأن الحل في النيجر، وكذا روسيا، إضافة إلى مواقف أخرى لدول أفريقية مثل مالي وبوركينا فاسو وغينيا.
إذ قال وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني، يوم الأربعاء، في مقابلة مع قناة Rainews24 الإيطالية الحكومية، إنه “يجب استبعاد أي تدخل عسكري غربي في النيجر لأنه سيعتبر “استعمارًا جديدًا””، مبيّنًا أنه “يجب أن نعمل لضمان أن تسود الدبلوماسية في النيجر واستعادة الديمقراطية”.
التدخل العسكري الذي يتخوف منه المتابعون هو ذلك الذي يمكن أن تنفّذه فرنسا التي يقيم بين 1000 و1500 عنصر من جنودها في النيجر
ويوم الجمعة أبلغت الجزائر، عبر وزير الخارجية أحمد عطاف، باباغانا كينجيبي، المبعوث الخاص للرئيس النيجيري الذي حمل رسالة خطية إلى الرئيس تبون من نظيره النيجيري بولا أحمد تينوبو، الرئيس الحالي لمجموعة “إيكواس”، أنها “تشدد على ضرورة تفعيل كافة الطرق والسبل الدبلوماسية، وتجنّب خيار اللجوء إلى القوة الذي لا يمكن إلا أن يزيد الأوضاع تعقيدًا وتأزمًا وخطورة على النيجر وعلى المنطقة برمّتها”.
ويتضح من التصريحات المتتالية للخارجية، أن الجزائر ترفض أي تدخل عسكري أجنبي في النيجر مهما كانت الصياغة، بالنظر إلى أن المسألة تظل في الأخير شأنًا داخليًّا، وشعب النيجر هو الوحيد الذي يقرير الطريقة التي يحل بها أزماته الداخلية.
من الدول التي ستتدخل عسكريًا في النيجر؟
على عكس الرفض الصريح للجزائر لأي تدخل أجنبي في نيامي، تتعالى في المقابل أصوات أخرى تلوح بالتدخل عسكريًّا، في حال لم يُرجع المجلس العسكري الحالي السلطة إلى الرئيس المنقلَب عليه محمد بازوم.
في اجتماع الجمعة الذي عُقد في أبوجا، قالت “إيكواس” إن مسؤولي الدفاع فيها وضعوا خطة لعمل عسكري، إذا لم يتم إسقاط انقلاب النيجر بحلول يوم الأحد، الذي تنتهي فيه المهلة الممنوحة لقادة الانقلاب لإعادة الرئيس محمد بازوم إلى السلطة.
يظهر حتى الآن أن الحماس للقيام بتدخل عسكري يأتي بالخصوص من الدول المرتمية في أحضان باريس، والمتمثلة في السنغال التي أيّد رئيسها هذا التدخل العسكري
وقال عبد الفتاح موسى، مفوض الشؤون السياسية والسلام والأمن في “إيكواس”، إن المجموعة لن تكشف لمدبّري الانقلاب متى وأين ستكون الضربة، مضيفًا أن هذا القرار سيتخذه رؤساء الدول، وأضاف في ختام الاجتماع، الذي استمرَّ 3 أيام: “جرى العمل هنا على جميع العناصر التي ستكون مشاركة في أي تدخل نهائي، بما في ذلك الموارد المطلوبة وكيف ومتى سننشر القوات”.
فرضت “إيكواس”، المؤلفة من 15 عضوًا، عقوبات على النيجر، وأرسلت وفدًا إلى نيامي سعيًا للتوصل إلى “حل ودّي”، لكنّ مصدرًا في الوفد قال إنهم قوبلوا بالرفض ولم يبقوا كثيرًا.
طلب الرئيس النيجيري، بولا تينوبو، من حكومته الاستعداد لخيارات تشمل نشر جنود، في رسالة تُليت على مجلس الشيوخ الجمعة، غير أن طلب تينوبو قد لا يلقى قبولًا، بالنظر إلى أن عدة نواب بالبرلمان، منهم أعضاء منطقة الشمال، دعوا إلى تجنب التدخل العسكري في النيجر، والأمر ذاته بالنسبة إلى رابطة علماء نيجيريا التي صنّفت أي تحرك عسكري لأبوجا باتجاه نيامي ضمن القرارات المتهورة، بالنظر إلى أنها ستكون بمثابة حرب بالوكالة عن قوى غربية، وفي مقدمتها فرنسا.
التدخل العسكري الذي يتخوف منه المتابعون هو ذلك الذي يمكن أن تنفّذه فرنسا التي يقيم بين 1000 و1500 عنصر من جنودها في النيجر، وتدعمهم طائرات مسيَّرة وأخرى حربية.
يظهر حتى الآن أن الحماس للقيام بتدخل عسكري يأتي بالخصوص من الدول المرتمية في أحضان باريس، والمتمثلة في السنغال التي أيّد رئيسها هذا التدخل العسكري، في محاولة للتغطية على الأزمة السياسية التي تعيشها بلاده، والتضييق الذي تتعرض له المعارضة قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة، لكن تشاد المجاورة للنيجر أكّدت عبر وزير دفاعها، في تصريحات نقلها التلفزيون الرسمي، أن نجامينا لن تتدخل في الأزمة الداخلية التي تشهدها النيجر.
أرسلت مجموعة “إيكواس” قوات إلى بؤر متوترة من قبل، مثل ليبيريا عام 1990 وسيراليون عام 1998 ومالي عام 2013، لكنها لم ترسل قوات إلى النيجر، ونادرًا ما تشهد المنطقة انقسامًا شديدًا، ولم تكشف “إيكواس” حتى الآن عن حجم القوة العسكرية التي ستدخل بها في النيجر أو الغطاء الذي ستحتمي به، فليس من الواضح حجم قوة “إيكواس” أو الشكل الذي ستتخذه.
نقلت وكالة “رويترز” عن محللين أمنيين قولهم إن تفاصيل العملية الكبيرة قد تستغرق أسابيع ليتمَّ تجميعها، وأن الغزو ينطوي على مخاطر كبيرة، بما في ذلك الوقوع في صراع طويل الأمد، وزعزعة استقرار النيجر والمنطقة بشكل أكبر.
وشغل قائد الانقلاب، الجنرال عبد الرحمن تياني، منصب قائد كتيبة لقوات حفظ السلام التابعة لمجموعة “إيكواس” في ساحل العاج، بعد وقف إطلاق النار بين الحكومة وقوات المتمردين عام 2003، لذلك هو يعرف ما تنطوي عليه مهام التدخل.
غير أن التدخل العسكري الذي يتخوف منه المتابعون هو ذلك الذي يمكن أن تنفّذه فرنسا التي يقيم بين 1000 و1500 عنصر من جنودها في النيجر، وتدعمهم طائرات مسيَّرة وأخرى حربية.
لم تفصح باريس حتى الآن عن خطتها للتدخل العسكري في النيجر، إلا أن كل المؤشرات توحي بأن احتمالات الإقدام عليه ممكنة بالنظر إلى الخسائر الاقتصادية والجيوسياسية التي تكبّدتها.
وللولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا أيضًا قوات متمركزة في النيجر، لكن هذه الدول لم تعلن حتى اليوم صراحة نيتها في التدخل عسكريًّا بالنيجر، بل أن روما صرّحت برفض هذه الخطوة ومعارضتها، لكن باريس تبدو أكثر تحمسًا للقيام بخطوة عسكرية لإعادة محمد بازوم إلى السلطة، فقد أعلنت وزارة الخارجية، كاترين كولونا، أن بلادها “ستدعم بقوة جهود “إيكواس” لإحباط الانقلاب العسكري في النيجر”.
وقالت كولونا في وقت سابق، إن أمام المجلس العسكري في نيامي مهلة حتى يوم الأحد لتسليم السلطة، وإلا فأن تهديد الدول الأعضاء في “إيكواس” بالتدخل العسكري يجب أن يؤخذ “على محمل الجد”، مضيفة أن “التهديد منطقي“.
وألغى المجلس العسكري اتفاقيات التعاون العسكري مع فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، كما فعلت مالي وبوركينا فاسو المجاورتان بعد انقلابات فيهما، ولم تلقِ باريس بالًا لهذا، وقالت إنها رغم اطّلاعها على تصريح “بعض رجال الجيش في النيجر، لا تعترف إلا بالسلطات الشرعية”.
ولم تفصح باريس حتى الآن عن خطتها للتدخل العسكري في النيجر، إلا أن كل المؤشرات توحي بأن احتمالات الإقدام عليه ممكنة، بالنظر إلى الخسائر الاقتصادية والجيوسياسية التي تكبّدتها جراء هذا الانقلاب، إلا أن عدم الحماس الغربي من الولايات المتحدة وألمانيا لعملية عسكرية في نيامي، قد يكبح جماح إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون في تعكير الوضع أكثر بالمنطقة.
تجارب مأساوية
لا يتعلق الرفض الجزائري للتدخل العسكري في النيجر بتمسُّكها بمبدأ رفض التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية فقط، إنما أيضًا بسبب التجارب المأساوية التي حدثت بالمنطقة جراء التدخل العسكري الخارجي.
تشكّل ليبيا أهم هذه التجارب المأساوية، إذ ما زالت البلاد تعيش حالة من الاضطرابات السياسية والأمنية جراء القرار الذي اتخذه الناتو عام 2011، باللجوء إلى القوة العسكرية للإطاحة بنظام الزعيم الليبي الراحل العقيد معمّر القذافي.
وبعد مرور أكثر من عقد على التدخل العسكري في ليبيا، لم تستطع القوى الدولية التي استباحت البلاد أن تضع حدًّا لأحداث القتل وانتهاكات حقوق الإنسان، بل فشلت إلى اليوم في تنظيم انتخابات تُرجع البلاد إلى الوضع الدستوري، وتنهي فترة الحكم بالمجالس والحكومات الانتقالية والمؤقتة.
الجزائر ترى أن الحل السلمي هو الأساس للخروج من الأزمة في النيجر، وأي تدخل عسكري معناه إعادة الأزمة الليبية من جديد.
حسب تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش لعام 2023، تعيش ليبيا اليوم تحت خطر المقاتلين الأجانب والشركات العسكرية الخاصة، لأن حظر الأسلحة يُنتهك دون عقاب، فـ”منذ إنشاء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لنظام العقوبات على ليبيا عام 2011 بموجب القرار 1970، لم يحاسَب أي شخص على انتهاكات حظر الأسلحة”.
وإذا كان هذا هو الوضع في الجارة الشرقية للجزائر، فإن الحال لا يقلّ مأساوية بجنوبها في مالي، إذ لم يساعد التدخل العسكري الفرنسي الذي تمَّ عام 2013 في تحسُّن الوضع الأمني، بل كان سببًا في عدم تنفيذ اتفاق الجزائر لعام 2015 وفي حدوث الانقلابات المتوالية، الأمر الذي شكّل قناعة لدى الماليين أن الوجود الفرنسي جزء من المشكلة لا الحل، وهو ما سرّع في طرد العساكر الفرنسيين من البلاد العام الماضي.
في خلاصة القول، الجزائر ترى أن الحل السلمي هو الأساس للخروج من الأزمة في النيجر، وأي تدخل عسكري يعني إعادة الأزمة الليبية من جديد، حتى لو كان بسيناريو آخر في ظاهره، لكنه هو نفسه في غاياته الغربية.