يتوقع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يجري نظيره الروسي فلاديمير بوتين زيارة إلى تركيا في أغسطس/آب الحاليّ، بعد أن تأجلت زيارة بوتين لأنقرة أكثر من مرة دون توضيح الأسباب.
زيارة مهمة، ينتظرها المجتمع الدولي لما لها من تأثير كبير على السلم العالمي، إذ سيجري خلالها طرح العديد من الملفات للنقاش، أبرزها اتفاقية تصدير الحبوب والأسمدة عن طريق البحر من أوكرانيا، التي انسحب منها الكرملين مؤخرًا.
تأمل العديد من القوى الإقليمية، فضلًا عن الدول النامية، أن يقنع الرئيس التركي نظيره الروسي بالعودة إلى هذه الاتفاقية، واستثمار العلاقات الودية بينهما، حتى يتجنب العالم الآثار السلبية للخطوة الروسية الأحادية.
مساعي أردوغان لاستئناف الاتفاقية
في يوليو/تموز من العام الماضي، وقّعت تركيا والأمم المتحدة وروسيا وأوكرانيا في إسطنبول اتفاقًا لاستئناف صادرات الحبوب من الموانئ الأوكرانية (توقفت مؤقتًا بعد بدء الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير/شباط 2022)، شريطة إتاحة وصول الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية، وذلك للمساعدة في معالجة أزمة الغذاء العالمية.
لكن في 18 يوليو/تموز الماضي، أخطرت روسيا تركيا بحلّ مركز تنسيق الصادرات الأوكرانية في إسطنبول، وحذرت من أن انتهاء العمل باتفاق الحبوب يعني “سحب الضمانات الأمنية” في البحر الأسود، على أن يجري استئناف العمل بالاتفاقية حال الموافقة على شروط موسكو.
تقول موسكو إن الجزء الثاني من الاتفاقية المتعلق بوصول الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية لم ينفذ، إذ أعاقت القيود والعقوبات المفروضة عليها على خلفية الحرب الدائرة مع أوكرانيا صادراتها من المواد الغذائية والأسمدة، وهي منتجات تعتبرها روسيا مهمة أيضًا لسلسلة الغذاء العالمية.
يتلقى أردوغان في هذا الملف دعمًا كبيرًا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي
سيحاول أردوغان في الزيارة المرتقبة لبوتين، إقناع الأخير بضرورة العودة إلى اتفاقية الحبوب، خاصة أن توقف هذه الاتفاقية لأمد بعيد لن يكون في مصلحة أحد، وفق قول أردوغان في اتصال أجراه مطلع هذا الشهر مع بوتين.
سبق أن قال أردوغان إن بلاده سترفع من وتيرة مساعيها واتصالاتها الدبلوماسية في سبيل ضمان الاستمرار بمبادرة الحبوب التي وصفها بـ”جسر السلام”، كما شدد على ضرورة تجنب روسيا اتخاذ أي خطوات لها أن تصعد الحرب الروسية الأوكرانية.
وفي آخر تصريحاته عن هذا الملف، أكد أردوغان وجود تطابق بين موسكو وأنقرة في هذا الشأن، مشيرًا إلى أن تركيا ستحول الحبوب الواردة من روسيا عبر ممر البحر الأسود إلى دقيق، ومن ثم تنقلها إلى البلدان الإفريقية الفقيرة والنامية، وأشار إلى أن بلاده ستواصل في الوقت الحاليّ اتخاذ هذه الخطوات وتقديم دعمها ومساعدتها للدول الفقيرة.
دعم أمريكي أوروبي لجهود أردوغان
يتلقى أردوغان في هذا الملف دعمًا كبيرًا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، إذ سبق أن قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميللر، خلال مؤتمر صحفي إن بلاده تأمل في أن تسفر المحادثات المقبلة بين أنقرة وموسكو بشأن اتفاق الحبوب عن نتائج إيجابية.
معتبرًا أنه “لا يوجد حل مثالي من شأنه أن يسمح لأوكرانيا بشحن نفس الكمية من الحبوب كما فعلت في إطار مبادرة حبوب البحر الأسود ما لم يتم إعادة فتح الممرات البحرية”.
#أردوغان: زيارة بوتين لتركيا في أغسطس لكن لم يحدد توقيتها بعد https://t.co/70csVFS6Ex pic.twitter.com/7ztc4wxYiy
— Anadolu العربية (@aa_arabic) August 4, 2023
من جهته، أكد مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، أن الاتحاد الأوروبي سيواصل دعم “الجهود الدؤوب” لتركيا والأمم المتحدة لضمان استمرار اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، وشدد المسؤول الأوروبي على ضرورة إقناع روسيا بالعودة إلى اتفاقية شحن الحبوب من الموانئ الأوكرانية المطلة على البحر الأسود.
بدوره، قال وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا، إن الرئيس التركي هو الزعيم الوحيد القادر على إعادة نظيره الروسي فلاديمير بوتين إلى اتفاقية الحبوب، وأشار كوليبا إلى أن كييف تتفاعل مع أنقرة فيما يتعلق بعودة بوتين إلى هذه الاتفاقية.
صداقة أردوغان وبوتين
يعول الأوروبيون والأمريكيون على أردوغان لإقناع بوتين باستئناف اتفاقية الحبوب، ذلك أن الرئيس التركي هو الزعيم العالمي الوحيد الذي يتمتع بثقة حقيقية من جانب قادة روسيا وأوكرانيا، والوحيد أيضًا الذي لديه حوار سياسي رفيع المستوى مع روسيا، رغم وجود اختلافات بينهما في بعض الملفات المشتركة، كالملف الليبي والأذربيجاني.
رغم هذه الاختلافات، عرفت العلاقات التركية الروسية في السنوات الأخيرة تقاربًا كبيرًا، لوجود مصالح مشتركة بين الطرفين، فموسكو بحاجة كبيرة لأنقرة والعكس كذلك، والتقى أردوغان وبوتين منذ سنة 2016 إلى الآن، أكثر من عشرين مرة، وتحدثا هاتفيًا ما لا يقل عن أربعين مرة، ما يؤكد عمق العلاقات بينهما، وهو ما دفع القوى العالمية والإقليمية للتعويل على أردوغان لإقناع بوتين بخصوص ملف الحبوب.
مكتب أردوغان:
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيقوم بزيارة لتركيا، تم الاتفاق على الزيارة بين الجانبين خلال اتصال مباشر، أنقرة ستواصل بذل جهود مكثفة لاستئناف صفقة الحبوب. pic.twitter.com/ibLRok3sr2
— رؤى لدراسات الحرب (@Roaastudies) August 2, 2023
وفي الحرب الروسية ضد أوكرانيا، تعرضت موسكو لعزلة دولية، إلا أن تركيا اختارت الإبقاء على علاقاتها مع روسيا، وعرف أردوغان كيف يوسع نفوذه، ففي الوقت الذي أغلقت فيه كل القنوات الدبلوماسية تقريبًا في وجه موسكو، قدم أردوغان نفسه كوسيط بين بوتين وزيلينسكي وظل حتى اليوم اللاعب الأساسي الذي يرغب الطرفان معًا في الحديث معه.
تعتبر تركيا بالنسبة إلى روسيا بمثابة نافذة على العالم، فالعلاقة مع أنقرة مهمة وذات قيمة كبيرة بالنسبة لموسكو، لذلك يأمل الكرملين في المحافظة عليها، وسبق أن قال بوتين لأردوغان: “أريد أن أقول ذلك بصراحة: أنت تعرف كيف تضع أهدافًا طموحة وتسعى إلى تحقيقها بثقة”.
ماذا لو تعنت بوتين؟
سبق أن أكد بوتين في اتصال هاتفي مع أردوغان استعداد روسيا للعودة إلى صفقة الحبوب بمجرد تنفيذ الغرب لالتزاماته، إذ تتهم موسكو الدول الغربية بعدم الوفاء بالتزامات واتفاقيات صفقة الحبوب، خصوصًا الالتزامات المتعلقة بالجزء الروسي.
تريد موسكو من خلال قرار وقف العمل باتفاقية الحبوب، الضغط على الغرب لتمكين المنتجين الروس من تصدير المزيد من المواد الغذائية والأسمدة إلى بقية العالم، إذ تقول إن العقوبات الغربية حالت دون ذلك، رغم أنه لا توجد عقوبات غربية محددة على الصادرات الزراعية الروسية.
تعد روسيا أكبر مصدر للقمح في العالم، بحصة 19% من السوق العالمية، وقد زادت صادراتها من القمح خلال العام الماضي، وفقًا لشركة سوفكون للاستشارات الزراعية، في ظل تراجع الصادرات الأوكرانية، وتعد أوكرانيا من أبرز الدول المنتجة للحبوب في العالم، لكن السفن الروسية تقيّد وصول إنتاجها إلى موانئ في البحر الأسود.
وتأمل روسيا في الضغط على الدول الغربية لوقف العقوبات المسلطة عليها، إذ تقول موسكو إن القيود المفروضة عليها، تجعل البنوك الدولية وشركات التأمين ومسؤولي الشحن يحجمون عن التعامل مع مُصدري المواد الغذائية الروس.
يقول بوتين إن بلاده قد تحل محل صادرات الحبوب الأوكرانية إلى أكثر الدول الإفريقية احتياجًا
من المستبعد أن تقبل واشنطن والاتحاد الأوروبي بشروط الروس، فذلك يعني هزيمتهم وتراجعهم، وهو ما سيعطي دفعًا قويًا لروسيا لمواصلة حربها ضد أوكرانيا، ما يعني أن وقف العمل باتفاقية الحبوب سيتواصل لوقت إضافي.
من شأن إصرار روسيا على عدم تجديد اتفاقية الحبوب أن يرفع أسعار الحبوب في العالم، بعد أن انخفضت لأشهر قليلة بفضل هذا الاتفاق الذي سمح بتصدير نحو 33 مليون طن من الحبوب – خصوصا القمح والذرة – من الموانئ الأوكرانية وصولًا لتركيا، ومنها إلى بقية العالم.
ارتفاع أسعار المواد الغذائية المتوقع، سيؤدي مرة أخرى إلى زيادة التضخم والفقر وانعدام الأمن الغذائي في الدول النامية التي تعتمد على الواردات لتوفير حاجياتها من المواد الغذائية، وهو ما سبق أن حذرت منه الأمم المتحدة.
بالتوازي مع ذلك، حذّر المنسق الأممي للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث من حدوث مجاعة، مشيًرا إلى أن 362 مليون شخص في 69 دولة يحتاجون حاليًّا مساعدات إنسانية، ويوجد في قلب هذه الأزمة الإنسانية، بعض الدول العربية.
إجراءات روسية أحادية
في الوقت الذي تشدد فيه روسيا ضغطها على الغرب، قال بوتين إن بلاده قد تحل محل صادرات الحبوب الأوكرانية إلى أكثر الدول الإفريقية احتياجًا، موضحًا أن شحنات مجانية للحبوب إلى ست دول، بما في ذلك الصومال وإريتريا، ستجري في الأشهر الأربع المقبلة.
وقال بوتين خلال افتتاح أعمال قمة “روسيا-إفريقيا” الثانية في سان بطرسبرغ قبل أسبوعين إن روسيا قادرة على تعويض إفريقيا عن الحبوب الأوكرانية، معتبرًا أن الغرب استغل اتفاق الحبوب للحصول على احتياجاته وحرم الدول الفقيرة من حقوقها.
الرئيس الروسي #فلاديمير_بوتين يعد بشحنات حبوب مجانية لست دول إفريقية.#روسيا #أفريقيا pic.twitter.com/Rxj4w1AwuQ
— الراصد الروسي (@Alrassidrus) July 28, 2023
أضاف الرئيس الروسي أن بلاده ستتمكن من تأمين شحنات مجانية من 25 إلى 50 ألف طن من الحبوب لبوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا، وذلك على خلفية قلق دول إفريقية من توقف اتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية في البحر الأسود.
بالتوازي مع ذلك، طلب بوتين من أردوغان دعم تركيا لتصدير موسكو الحبوب، وقال الكرملين: “نظرًا إلى الحاجات الغذائية للدول الأكثر حاجة، تتم دراسة الخيارات للسماح بإيصال الحبوب الروسية (…)، ثمة إرادة بالتعاون في هذا المجال مع تركيا”.
يبقى كلام بوتين في هذا الشأن إلى حد الآن مجرد وعود فقط، لم تترجم على أرض الواقع، ما سينعكس سلبًا على الأمن الغذائي العالمي، فروسيا وأوكرانيا من أكبر منتجي ومصدري الحبوب في العالم، وأي تذبذب في الإنتاج أو التصدير لديهما سيؤثر مباشرة على أغلب دول العالم.