بناء على دعوة رسمية وجّهتها وزارة الدفاع الأمريكية، يزور العاصمة الأمريكية واشنطن وفد أمني عراقي رفيع المستوى برئاسة وزير الدفاع ثابت العباسي، لبدء جولة جديدة من الحوار الاستراتيجي بين البلدَين.
إذ أشار بيان صادر عن وزارة الدفاع الأمريكية، أن الجولة الجديدة تأتي استكمالًا للجولة السابقة التي عُقدت في يوليو/ تموز 2021، والتي هي بالأساس حوارات مبنية على أساس اتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقّعة بين العراق والولايات المتحدة في ديسمبر/ كانون الأول 2008.
كما أشار البيان إلى تعهُّد الولايات المتحدة بتقديم الدعم اللازم لإعادة تأهيل القوات الأمنية العراقية، وجعلها قادرة على مواجهة التحديات الأمنية المختلفة.
ملفات
تمثل زيارة الوفد العراقي إلى واشنطن أولى بوادر الانفتاح الحقيقي لواشنطن على حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، إذ إنه رغم بيانات الدعم التي قدّمتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لحكومة السوداني في الفترة الماضية، إلا أنها رفضت في أكثر من مناسبة استقبال وفود عراقية ضمن إطار هذه الحكومة.
فحتى السوداني لم يتمكّن من الحصول على ضوء أخضر لزيارة واشنطن، رغم مرور ما يقرب من عام على تشكيله للحكومة، إذ علّلت الإدارة الأمريكية سبب عدم استقبالها لأي وفود تابعة لهذه الحكومة، بأنها مشكّلة من قبل أطراف سياسية مقرّبة من إيران، فضلًا عن أن بعضها خاضع لعقوبات أمريكية بسبب دعمها للإرهاب.
اللافت أن هذه الزيارة ستكون مركّزة على عدة ملفات استراتيجية تؤطر العلاقة بين بغداد وواشنطن، أول هذه الملفات هو ملف التسليح والتجهيز، خصوصًا أن أغلب الأسلحة والمعدّات التي يستخدمها الجيش العراقي هي أمريكية الصنع، وأهمها طائرات إف-16 ودبابات أبرامز وعربات هامفي التي تستخدمها القوات البرية العراقية.
أما ثاني هذه الملفات فهو تعزيز التعاون الدفاعي بين البلدَين، على مستوى الاستشارة والتدريب، خصوصًا بعد تحوُّل مهمة التحالف الدولي من القتالية إلى الاستشارية منذ ديسمبر/ كانون الأول 2021.
أما الملف الثالث يركّز على تطوير وبناء القدرات الأكاديمية في الكليات العسكرية الأمريكية، عبر توسيع برامج الابتعاث للطلبة العراقيين للدراسة والتدريب في هذه الكليات، إلى جانب بناء عملية تعاون بحثي بين الكليات العسكرية العراقية ونظيرتها الأمريكية من أجل رفع الجانب العلمي والفني.
أما الملف الرابع والخامس يناقشان تعزيز التعاون المعلوماتي والاستخباراتي في القضايا التي تخصّ تنظيم “داعش”، وتبادُل وجهات النظر في التحديات المستقبلية ومكافحة الإرهاب.
احتياجات عراقية
يحتاج العراق إلى استراتيجية جديدة لبناء قوات عسكرية كبيرة وقوية بما يكفي، لمواجهة التحديات الأمنية النابعة من تنظيم “داعش” ومن عدم حصر السلاح بيد الدولة، ولتأمين حدوده مع سوريا وتركيا وإيران.
ومن ثم فإن الحوار الاستراتيجي الحالي مع الولايات المتحدة، يمكن أن يشكّل مدخلًا لإعادة تقييم العلاقات الأمنية بين العراق والولايات المتحدة، بحيث تؤدي الولايات المتحدة دورًا حاسمًا في إعادة بناء قدراته العسكرية والأمنية التي اُستنزفت خلال الحرب ضد “داعش”.
ووفق التقديرات الأمريكية، تحتاج القوات العسكرية العراقية إلى عمليات إعادة تدريب وتأهيل لتكون قادرة على القيام بمهامها الأمنية، فضلًا عن أن العراق يحتاج إلى إعادة بناء منظومته التسليحية، وإعادة تشغيل وصيانة العديد من القواعد العسكرية.
وإلى جانب ما تقدّم، فإن القوات الجوية العراقية لا تزال صغيرة ومحدودة جدًّا، رغم أنها تضمّ بعض الطائرات الأمريكية من طراز إف-16، كما لا يمتلك العراق أسلحة دفاع جوي أو منظومات صواريخ متطورة، أو نظام إنذار ومراقبة جوي، أو قدرات أرضية للدفاع الجوي، وهي قدرات عسكرية مهمة للتعامل مع أي تهديدات عسكرية خارجية.
كما تحتاج المؤسسة العسكرية العراقية إلى تحقيق المزيد من التكامل الوظيفي على مستوى العمل العسكري، فعلى الأرض توجد اليوم 3 قوات عسكرية رئيسية، هي الجيش العراقي والحشد الشعبي والبيشمركة الكردية، وحتى اللحظة لم تُظهر هذه القوات التكامل الوظيفي في العمل الأمني الرسمي.
التزامات أمريكية
ولا شكّ في أن عملية تطوير القدرات العسكرية العراقية سيصيبها الشلل، فيما لو قررت الولايات المتحدة إيقاف التعاون في أي وقت من الأوقات، دون أن يكون هناك التزام استراتيجي يربط علاقاتها بالعراق.
فعملية الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، أدّت إلى تصدعات كبيرة عانى منها الجيش العراقي في مواجهة هجمات تنظيم “داعش” عام 2014، وعندما قررت الولايات المتحدة العودة إلى العراق عام 2016، ساعدت في دحر التنظيم وحققت إنجازات أخرى على الأرض.
هل سيقتصر الحوار الحالي على الجانب الأمني أم أنه سيكون موسّعًا وشاملًا؟ وهل سيتمخّض الحوار عن اتفاق استراتيجي جديد؟
كما تدرك الولايات المتحدة أن الحصول على التزامات مهمة وواسعة من حكومة السوداني، قد تشكّل مدخلًا لدور أمريكي أكثر فاعلية في الساحة العراقية، خصوصًا الالتزامات المتعلقة بسلامة قواتها العسكرية الموجودة في العراق، وتأمين المصالح الأمريكية من أي تهديدات مستقبلية قد تصدر عن إيران وحلفائها.
والأكثر من ذلك كله، تدرك الولايات المتحدة أهمية الضغط على العراق في إيجاد بديل لموارد الطاقة التي تحتاج إليها بدلًا من إيران، إذ إن استمرار استيراد العراق للطاقة من إيران حجّم كثيرًا فاعلية سياسة العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وهو ما استغلته إيران وتحاول الإبقاء عليه خلال الفترة المقبلة.
وعملية توقيع اتفاق النفط الخام مقابل الغاز الشهر الماضي، بين وزارتَي النفط العراقية والإيرانية، تُظهر مدى الحساسية الإيرانية الاستباقية من أي مخرجات عراقية من الحوار الجاري مع واشنطن.
لا بدَّ أن تكون هناك رؤية واضحة حول طبيعة الوجود الأمريكي في العراق، رغم كونه يندرج اليوم ضمن مظلة التحالف الدولي.
والواقع أن العراق يتطلع إلى تحقيق العديد من الحاجات والمصالح الاستراتيجية في الفترة المقبلة، فحكومة السوداني بحاجة إلى الحصول على التزامات استراتيجية من الولايات المتحدة لمواجهة تحديات حقيقية في المرحلة المقبلة.
أبرز هذه الالتزامات معالجة الأزمات الاقتصادية نتيجة الإجراءات التي يعتمدها البنك الفيدرالي الأمريكي لتقليل عمليات تهريب الدولار إلى خارج العراق، فضلًا عن تمكين العراق سياسيًّا وعسكريًّا لتحقيق المزيد من السيادة والاستقلالية في القرار السياسي.
تحديات
والتساؤلات التي تُطرح هي: هل سيقتصر الحوار الحالي على الجانب الأمني أم أنه سيكون موسّعًا وشاملًا؟ وهل سيتمخّض الحوار عن اتفاق استراتيجي جديد؟ وهل سيكون العراق بمنزلة شريك استراتيجي أم مجرد طرف إقليمي تربطه علاقة مستقرة مع الولايات المتحدة؟
لا بدَّ من القول مقدمًا إن هناك العديد من العقبات التي تقف في وجه عملية إنجاح الحوار الاستراتيجي، إذ ينبغي للحوار أن يأخذ في الاعتبار التحديات التي يمكن أن تفرضها إيران وحلفاؤها، إلى جانب قوى دولية أخرى كروسيا والصين.
فلكلٍّ من هذه القوى الإقليمية والدولية الأسباب التي تدفعها إلى عرقلة أي جهود تهدف إلى تقويض مصالحها أو أهدافها، سواء في العراق أو في دول الشرق الأوسط الأخرى، فأي اتفاق أو ترتيب أمني سيتمخّض عن هذا الحوار لن يقتصر على العراق فحسب، بل سيشمل أيضًا بنتائجه البيئتَين الإقليمية والدولية، وهو ما يفرض مزيدًا من الأعباء على العراق والولايات المتحدة.
وحتى لو تمخّض الحوار الاستراتيجي الحالي عن وضع أُسُس حقيقية لعلاقات استراتيجية متوازنة بين العراق والولايات المتحدة، فإن العراق سيظل مطالبًا بتحمُّل المسؤولية الأساسية عن إصلاح عمليته السياسية، واقتصاده المتأزّم، ووضعه الأمني الهشّ، ويتعيّن عليه أن يدرك أن المساعدات الأمريكية لن تكون من دون مقابل.
الأهم من كل ما تقدم، لا بدَّ أن تكون هناك رؤية واضحة حول طبيعة الوجود الأمريكي في العراق، رغم كونه يندرج اليوم ضمن مظلة التحالف الدولي، إلا أن هناك حساسية من قبل العديد من القوى والفصائل المسلحة المقرّبة من إيران من هذا الوجود الذي تعتبره “احتلالًا أجنبيًّا”.
ورغم أن هناك عدة بدائل يمكن الذهاب لها لتخفيف هذه الحساسية، ومنها تفعيل دور حلف الشمال الأطلسي أو القيادة المشتركة العراقية-الأمريكية، إلا أن تركيز الجهود على تطوير القدرات العسكرية والأمنية والاستخباراتية العراقية قد ينتج شراكة أمنية قوية بين العراق والولايات المتحدة، بعيدًا عن الحاجة إلى وجود عسكري مباشر يعرّض السيادة العراقية للعديد من الانتهاكات، أو يعرّض المصالح الأمريكية لأخطار مستمرة.