تتواصل الحملة الأمنية التي أطلقتها المعارضة السورية في يونيو/ حزيران الماضي، ضد شبكات الاتجار بالمخدرات ومروجيها شمال سوريا، والتي أطلقت عليها اسم “عملية السلام”، وتشرف على تنفيذها إدارة الشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني بمشاركة الفصائل (قوة أمنية مشتركة).
وأسفرت الحملة المستمرة عن اعتقال أعداد كبيرة من المطلوبين في مناطق الباب ومارع وعفرين وأعزاز، ومن المفترض أن تتوسع لتشمل مناطق جديدة تنشط فيها شبكات الترويج والاتجار بالمواد المخدرة.
وتركزت التحركات الأخيرة لقوات الحملة في البلدات والقرى التابعة لمناطق مارع وأعزاز والباب، بينها بلدة احتيملات، وطالت الحملة أيضًا عددًا من مخيمات النازحين قرب أعزاز، بينها مخيم شمارخ.
كما أعلنت الشرطة العسكرية مؤخرًا عن اعتقال عدد من مروجي وتجار المخدرات، مع مصادرة كمّيات من المخدرات خلال عمليات الدهم، كما ألقت القبض على أشخاص يديرون مصنعًا لإنتاج المواد الكحولية في عفرين.
واعتقلت شعبة مكافحة المخدرات والتهريب التابعة لمديرية أمن الباب، بالتعاون مع الشرطة العسكرية، تاجر مخدرات في مدينة الباب يدعى أبو وائل الحمصي الملقّب بـ”الشاويش”، وجرى اعتقاله مع شخص آخر بعد مقاومة وفتح قنبلة في منزله جانب سوق الهال القديم بالباب، وضُبطت بحوزته كمية من المخدرات والأسلحة.
وخلال الأسبوع الأول من أغسطس/ آب، كثفت الشرطة العسكرية من حواجزها الأمنية على الطرق الرئيسية وداخل المدن الكبيرة، ونشرت المزيد من الدوريات داخل الأسواق ودوريات أخرى متحركة (حواجز طيارة)، بهدف مطاردة المطلوبين الذين لم تنجح القوة الأمنية باعتقالهم خلال عمليات الدهم على منازلهم وأماكن تواجدهم التقليدية.
البداية من مارع
وفي مطلع أغسطس/ آب الجاري، قالت وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة في بيان لها، إن “قوات الشرطة العسكرية مدعومة بوحدات من الجيش الوطني نفّذت عملية السلام في مدينة مارع بريف حلب الشمالي، والتي أسفرت عن اعتقال 28 تاجر ومروج مخدرات، بعد اشتباكات عنيفة معهم أسفرت عن إصابة 13 عنصرًا من القوة الأمنية المشتركة التي نفّذت العملية”، وأضاف البيان أنه “تمَّ خلال العملية الكشف عن أماكن لزراعة مادة الحشيش”.
ووعدت الوزارة بأن “تستمر الحملة بكل عزم لمكافحة المخدرات وتهريبها إلى المناطق المحررة، وسيتم إفشال جميع مخطّطات النظام المجرم والميليشيات الانفصالية الحاقدة، الذين يسعون إلى تحويل المدن المحررة إلى مستنقع طافح بالمخدرات”.
وبالفعل كانت الحملة الأمنية في مارع الأضخم، وكانت التحرك الأول لـ”عملية السلام”، وزجّت الشرطة العسكرية بأعداد كبيرة لتنفيذ المهمة التي انطلقت ليلة 22 يونيو/ حزيران الماضي، واستمرت لأكثر من 10 ساعات.
إذ نجحت في اعتقال العشرات من المطلوبين (اُعتقل 28 شخصًا، وقُتل تاجر مخدرات أثناء الاشتباكات)، بعد اشتباكات عنيفة اُستخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والرشاشة، في حين تمكّن عشرات آخرون من الفرار، ومن المفترض أن تنطلق جولة جديدة من العمليات الأمنية في مارع، لاستكمال عمليات الاعتقال بحقّ الفارّين من قبضة القوة الأمنية خلال الجولة الأولى.
قال مصدر عسكري مشارك في “عملية السلام” لـ”نون بوست”، إن مهمة تطهير المنطقة من شبكات الترويج والاتجار بالمخدرات ليست بالأمر السهل، فنجاح العملية النسبي في مارع لا يعني بالضرورة أنها ستنجح في باقي المناطق، كالباب وأعزاز وجرابلس وعفرين والراعي وغيرها.
ففي مارع كان لتعاون الأهالي والفصائل المحلية مع قوات الحملة دور كبير في إنجاحها، أي أن الحملة كانت مطلبًا شعبيًّا، بينما تجدُ القوة المشتركة صعوبة في تكرار التجربة وبشكل منظّم في الباب مثلًا، ومن دون خسائر، حيث هناك في الباب الفصائل منقسمة، ولا يمكن ملاحقة كل المطلوبين دون الاصطدام مع مجموعات محلية تحمي بعض المطلوبين.
سبق أن أطلقت فرقة المعتصم (فصيل محلي في مارع) حملة أمنية استهدفت تجار ومروجي المخدرات في المدينة منتصف عام 2022، وأسفرت الحملة حينها عن اعتقال عدد من المطلوبين، وتمَّ ضبط مواد مخدرة من نوع “إتش بوز” بوزن 150 غرامًا، وحبوب كبتاغون وحشيش ومعدّات للتعاطي في المدينة.
لكن الحملة كانت محدودة ولم تشمل كافة المتهمين بالترويج للمخدرات في مارع لعدة أسباب، أهمها الانقسام بين الفصائل وعدم التنسيق في ما بينها، واحتماء بعض المتورطين بالترويج للمخدرات بشخصيات عسكرية نافذة.
حملات أمنية متتابعة
حاور موقع “نون بوست” الناطق باسم الجيش الوطني السوري، العقيد أيمن شرارة، للإجابة عن مجموعة من التساؤلات بخصوص “عملية السلام” ومدى جدّيتها، وما إذا كان سيتم تنفيذها على مراحل، وما هو مصير المعتقلين المتهمين بالاتجار بالمخدرات، وما هو نوع العقوبات التي ستفرض عليها، والجهود الأمنية التي تبذلها المعارضة السورية عمومًا لمكافحة المخدرات في مناطق سيطرتها شمال سوريا.
قال شرارة: “نقاتل اليوم على جبهة جديدة، عدونا فيها الكبتاغون وأنواع أخرى من المواد المخدرة، هذه الآفة الخطيرة مرتبطة بشكل مباشر بنظام الأسد الذي يجني منها المليارات وتستهدف شبابنا، ويصل ضررها إلى كل فئات المجتمع”.
وأضاف: “إطلاق الحملة جاء كضرورة ملحّة لإنقاذ المنطقة، وتلقى الحملة تأييدًا شعبيًّا واسعًا بسبب الآثار السلبية التي خلّفتها هذه الآفة على المجتمع المحلي”، وبحسب شرارة “نجاح هكذا حملات أمنية يكون نسبيًّا، فمكافحة المخدرات وشبكات الترويج والاتجار فيها تعجز عنها دول بميزانيات ضخمة”.
وأوضح شرارة: “تمَّ تكثيف الإجراءات الأمنية من قبل الشرطة العسكرية وبمؤازرة من فصائل الجيش الوطني السوري، والحملة مستمرة حتى تحقيق أهدافها، على الأقل ضرب الرؤوس الكبيرة التي تتزعّم الشبكات وإضعافها، والحد من انتشار المخدرات، ومنع انضمام أعداد جديدة من الشبان الى صفوف المتعاطين”.
متابعًا: “تسعى شبكات ترويج المخدرات إلى استقطاب شبان جدد من خلال أساليب أقناع متنوعة، مستغلة الظروف المعيشية القاسية التي تعيشها المنطقة، والضغوط النفسية التي يعانيها الشباب بسبب التهجير والنزوح”.
وأشار شرارة إلى أن “المناطق المحررة شمال سوريا وصلت إلى مرحلة الخطر، نظرًا إلى انتشار المخدرات بشكل مخيف، ولكثرة ضحايا هذه الظاهرة الذين أدمنوها وباتوا يشكّلون خطرًا على استقرار المنطقة وأمنها الاجتماعي، لذلك استشعرت الشرطة العسكرية خطورة الموقف، وبدأت بإجراءات وحملات أمنية يعوَّل عليها كثيرًا للحدّ من هذه الظاهرة”.
ويتهم العميد شرارة النظام السوري والميليشيات الإيرانية و”حزب الله” اللبناني وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، بإدخال المواد المخدرة إلى مناطق سيطرة المعارضة السورية، وذلك عبر ممرات التهريب المنتشرة بكثرة في خطوط التماسّ.
وبخصوص العقوبات التي ستفرَض على المعتقلين المتهمين بالاتجار والترويج للمخدرات خلال الحملة الحالية “عملية السلام”، قال شرارة: “يتم تحويل كافة الموقوفين إلى القضاء العسكري، وهناك عقوبات صارمة بحق هؤلاء، وهي تتناسب مع حجم هذه الجرائم”.
ويذكر أن غالبية الأحكام التي صدرت من القضاء المدني أو العسكري في مناطق المعارضة خلال الأعوام الثلاثة الماضية بحقّ تجار ومروجي المخدرات، نصّت على السجن بين سنة و3 سنوات.
وبعض العقوبات التي فُرضت خلال الأعوام القليلة الماضية بحقّ متهمين بالترويج للمخدرات كانت مخفّفة، وكثيرًا ما اتُّهمت الجهات الأمنية والقضائية التابعة للمعارضة بالفساد وانتشار المحسوبية، وعدم جديتها في التعامل مع هذا النوع من الجرائم ومرتكبيها.
وتتداول الأوساط الشعبية المعارضة في الوقت الحالي معلومات حول العقوبات المفترضة التي تنتظر معتقلي حملة “عملية السلام”، وهي على 3 أصناف، السجن لمدة عامَين للمروجين الصغار والمتعاطين، و5 أعوام لمروجي المخدرات بشكل واسع، و10 سنوات سجن لتجار المخدرات (رؤوس كبيرة).
كيف تصل المخدرات؟
أنواع كثيرة من المواد المخدرة تدخل بالفعل إلى مناطق سيطرة المعارضة شمال سوريا، عبر ممرات التهريب قادمة من مناطق سيطرة النظام السوري و”قسد”، لكنّ هناك أنواعًا أخرى تُصنع محليًّا بعدما انتشرت ورش و”مكابس” تصنيع الحبوب المخدرة في عدة مناطق.
وسبق أن أعلن الفيلق الثالث التابع للجيش الوطني في مارس/ آذار 2022 عن ضبطه معملًا لصناعة المواد المخدرة في أعزاز، واعتقل حينها مجموعة من العاملين فيه، وضبطت الفصائل أواخر العام 2021 معملًا آخر في برج عبدالو بريف منطقة عفرين شمال حلب.
وفي مطلع عام 2023، زعم جهاز الأمن العام التابع لهيئة تحرير الشام في إدلب، أنه دهمَ وكرًا لصناعة حبوب المخدرات وصادرَ كميات من الحبوب، بالإضافة إلى المعدّات التي تصّنع الحبوب واُعتقل صاحب المعمل.
وذكر ضياء العمر، المتحدث باسم جهاز الأمن العام، أن “عملية الدهم نُفّذت بعد مراقبة استمرت لشهرَين متتابعَين، شملت قيام وحدات الرصد والمتابعة في جهاز الأمن العام بمراقبة تاجر المخدرات قادمًا من مناطق ريف حلب الشمالي إلى ريف إدلب ومتابعة وجهته، إضافة إلى ورود معلومات بإدخال معدّات لإنشاء معمل للحبوب المخدرة في ريف إدلب.
مكملًا: “وأثناء دخوله إلى أحد المواقع التابعة له، داهمت القوة التنفيذية مكانه، لتقبض عليه وتعثر على موقع سرّي لتصنيع المخدرات وضبطت آلياته، وعلى أكثر من 70 ألف حبة مخدرة مصنّعة حديثًا”.
عادة ما تتبادل كل من الفصائل وتحرير الشام الاتهامات حول شبكات تهريب المخدرات وترويجها، حيث يزعم كل طرف أن منشأها مناطق سيطرة الآخر.
تنتشر أنواع عديدة من المواد المخدرة في مناطق المعارضة، أهمها مادة الكبتاغون و”الكريستال ميث”، أو “الشبو” أو “الإتش بوز”، وشبكات توزيعها تنشط في مدن أعزاز ومارع وعفرين والباب وجرابلس والراعي.
أما مادة الحشيش فباتت زراعتها منتشرة بشكل واسع، بعض المتعاطين يزرعونها في منازلهم خوفًا من عمليات الدهم، وبعضهم يزرعها بشكل علني بمساحات واسعة، وهؤلاء في الغالب محميون من شخصيات نافذة ومقرّبون من قادة في الفصائل.
القسم الأكبر من المواد المخدرة يدخل المنطقة عبر ممرات التهريب، وأكثرها شهرةً تلك الممرات المنتشرة بين بلدتَي سكرية كبيرة وسكرية صغيرة إلى الجنوب الشرقي من مدينة الباب، وهي خطوط تماسّ تسيطر عليها الفرقة الرابعة من جانب النظام السوري قبالة قرى منطقة الخفسة.
وتدخل عبر تلك الممرات كميات كبيرة من المواد المخدرة، إضافة إلى كونها من أشهر ممرات تهريب البشر بين مناطق المعارضة والنظام، ويسيطر على منطقة السكرية من جانب المعارضة مجموعة من التشكيلات العسكرية التابعة للفصائل التي تتقاسم العائدات.
وتُمثّل منطقة تل رفعت وقرى الشهباء الواقعتين تحت سيطرة “قسد” شمال حلب، محطة “ترانزيت” للمخدرات التي تهرّبها المليشيات الإيرانية و”حزب الله” اللبناني من حلب المدينة نحو مناطق المعارضة في الشمال.
وتُعدّ بلدتا نبل والزهراء (معقل الميليشيات الإيرانية شمال حلب) من أهم معاقل تصنيع الكبتاغون وأصناف أخرى من المواد المخدرة، حيث تتدفق هذه المواد عبر نقاط الانتشار المشترك لقوات “قسد” والنظام في جبهات شمال وشرق تل رفعت، وفي المنطقة القريبة من جبل الأحلام جنوبي منطقة عفرين.
يتطلع الأهالي في مناطق سيطرة المعارضة شمال سوريا إلى نتائج جدّية بخصوص الحملة على شبكات ترويج المخدرات، وألا تكون كسابقاتها، حملات فاشلة ودعائية لم يكن لها أثر فعلي في الحد من انتشار هذه الآفة.
في المقابل، تَعد الشرطة العسكرية التابعة لوزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة بمواصلة حملاتها، ورفع جاهزيتها الأمنية خلال الفترة القادمة، حتى تحقيق أهدافها ولو بشكل جزئي.
وهنا يمكن القول إن جدّية إدارة الشرطة العسكرية لا تكفي لتحقيق النتائج المرجوة، بل يجب أن يكون هناك حزم وجدّية من قبل الفصائل ومشاركتها الفعلية بالحملة، وكفّ يد المتورطين بحماية المطلوبين وتجار المخدرات.
فالفصائل توجّه إلى بعض تشكيلاتها وقادة فيها تهمًا بخصوص حماية مروجين وتجار للمخدرات، بل إنّ بعضهم متهم بإدارة شبكات الترويج للمواد المخدرة.