“لا لخطف القاصرات.. أعيدوا لي ابنتي الصغيرة.. لا تحرمونا من أطفالنا”، بهذه اللافتات المرفقة بأنين أمّ كردية باكية ابنتها في كوباني (عين العرب)، تتوجه الأنظار مباشرة إلى ممارسات تنظيم “الشبيبة الثورية”، الجناح الشبابي لحزب حزب العمال الكردستاني (PKK) في شمال شرق سوريا.
يعيد المقطع المتداول على وسائل التواصل الاجتماعي منذ أوائل أغسطس/ آب الجاري، الحديث عن “الشبيبة الثورية” الناشط في تجنيد الطفلات والأطفال الأكراد في مناطق شمال شرقي سوريا وأرياف حلب، حول منبج وكوباني والمنطقة المحيطة بتل رفعت، وسوقهم إلى معسكرات لأدلجتهم فكريًّا وعقائديًّا، وتأهليهم جسديًّا وعسكريًّا للدفاع عن مشروع نظام الإقليم الفيدرالي “روج آفا” الذي تسعى إليه ميليشيات “قسد”.
يتكشف الجانب المؤلم من حجم المأساة عبر أرقام وثّقها مركز “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، المهتم بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، إذ أشار إلى 49 حالة تجنيد أطفال خلال عام 2022، وتجنيد ما لا يقلّ عن 32 طفلًا وطفلة خلال النصف الأول من العام الجاري، حيث تورّط تنظيم “الشبيبة الثورية” بمعظم تلك الحالات، إلى جانب “وحدات حماية المرأة” المسؤولة عن تجنيد إحدى القاصرات على الأقل.
ووفق التقرير، فإن الحالات تنقسم إلى 13 فتاة دون سن الـ 18، و19 فتى توزعوا مناطقيًّا، بواقع 10 حالات في مدينة القامشلي، و5 في كوباني، و4 في منبج، و5 في الرقة، و3 في الحسكة، و5 في حي الشيخ مقصود بمدينة حلب.
في المقابل، وثّقت “شبكة رصد سوريا لحقوق الإنسان”، عبر تقريرها الصادر مطلع أغسطس/ آب الجاري، اختطاف 13 طفلًا خلال يوليو/ تموز المنصرم ضمن المناطق التابعة لـ”قسد”، واقتيادهم إلى معسكرات التجنيد تمهيدًا لزجّهم في الجبهات والمعارك.
تنظيم “الشبيبة الثورية”
يعرَف التنظيم باللغة الكردية بـ”جوانن شورشكر (Ciwanên Şoreşger)”، وهو مجموعة مسلحة مرخّصة لدى الإدارة الذاتية، الجناح المدني لميليشيات “قسد”، تتألف من فتيان وفتيات أغلبهم قصّر لا يتبعون بشكل مباشر لقوات الإدارة الذاتية، إنما يتبعون لقيادات وكوادر عسكرية خاصة بهم، لذلك يتم تسويق التنظيم على أنه حركة مستقلة وينشط في تجنيد الطفلات والأطفال منذ تأسيسه عام 2011.
وبحسب “مركز جسور للدراسات“، فإن “الشبيبة الثورية” تنظيم مرتبط بشكل مباشر مع حزب العمال الكردستاني، ومتّهم بشكل رئيسي في التورّط بعمليات تجنيد الأطفال في صفوف الحزب وأذرعه العسكرية، من خلال معسكرات وفعاليات تدريبية عسكرية وأيديولوجية.
هذا بالإضافة إلى انتهاكات حقوقية أخرى، تتمثل في قمع ومواجهة المظاهرات والناشطين المناهضين للإدارة الذاتية، والاعتداء المتكرر على مكاتب وأعضاء المجلس الوطني الكردي والفعاليات التي ينظّمها داخل مناطق سيطرة “قسد”.
الأطفال وقود الشبيبة
يهدف تجنيد “الشبيبة” للأطفال والقصّر لاستخدامهم في مختلف أعمال حزب العمال العسكرية، كالتجسُّس والقتال والعمليات الانتحارية والعمليات اللوجستية، بعد أن يشبع فكرهم بالدورات التثقيفية التي تتناول القومية الكردية، إضافة إلى دروس تاريخية تتعلق بالمظالم التي وقعت بحقّ الشعب الكردي، وعن أفكار حزب العمال الكردستاني وقائده أوجلان.
كاميران مصطفى علو، طفل كردي متحدر من بلدة يدي قوي جنوب مدينة كوباني، اختطفه تنظيم “الشبيبة” من أمام صالة أفراح في كوباني بعد انتهاء عرس خاله في ديسمبر/ كانون الأول 2017، حينها كان بعمر الـ 12 عامًا، ثم توجهوا به إلى معسكر شيوخ المخصص لتدريب الأطفال القصّر المختطفين غرب المدينة على بُعد 30 كيلومترًا، قبل أن يتم إطلاق سراحه بعد أن أمضى قرابة السنتَين ونصف نتيجة الضغط الإعلامي.
يشير الصحفي شيرزان علو (ابن عم الطفل المختطف) إلى وجود منظمات وهيئات شبابية تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) تتوزع في مناطق سيطرته، ومن خلال هذه الهيئات يتمّ خطف الأطفال والشباب وإرسالهم إلى معسكرات التجنيد بعد أن يدرسوا وضع كل طفل ينوون خطفه، والأسلوب المناسب لخطفه.
فتارة بإغرائه بالمال وحياة أفضل، وتارة بإثارة المشاعر القومية لدى الطفل، وأحيانًا بالتهديد والأساليب العصاباتية، لتبدأ مرحلة الأدلجة الفكرية وإثارة العواطف القومية والتدريب على السلاح، والتي قد تستغرق أشهر، قبل أن يتم تخيير الطفل بين القتال تحت راية وحدات حماية الشعب (YPG) والبقاء في سوريا، أو القتال في أي مكان يراه التنظيم مناسبًا، وعندها ينقل إلى معسكرات جبال قنديل.
ولا يقتصر الأمر على جذب الأطفال بتلك الطرق، بل من خلال طرق ناعمة تتمثل بإقحام صور مقاتلي الحزب والوحدات في المناهج الدراسية بمناطق الإدارة الذاتية، وإظهارهم بصورة الإنسان المثالي أخلاقيًّا والبطل القومي، وكذلك تسمية الشوارع والمدارس بأسماء القتلى.
ولا يمكن إنكار توجُّه الأطفال والطفلات من تلقاء أنفسهم إلى هذه المعسكرات، متأثرين بمظاهر حمل السلاح وحرية المرأة، أو بسبب مشاكل مادية أو أسرية.
يضيف علو لـ”نون بوست” أن ترغيب الأطفال بمناصب قيادية مستقبلًا (ما يسمّى بالكوادر)، يزيد من اندفاعهم نحو هذا النمط من الحياة، ويجعل ارتباطهم بهذه القوات أوثق، والعزوف عنها ضرب من ضروب الخيال، حيث يصبح الطفل جزءًا من المنظومة والحركة اللتين يستحيل تركهما فيما بعد.
“الشبيبة” و”قسد”.. سلطة فوق سلطة
قدّرت الأمم المتحدة عدد الأطفال الذين تمَّ تجنيدهم في شمال وشرق سوريا فترة 2014-2019 بـ 894 طفلًا وطفلة، ما أرغم “قسد” على توقيع خطة العمل مع الأمم المتحدة في 29 يونيو/ حزيران 2019، تلتزم من خلالها “قسد” بإنهاء ومنع تجنيد الأطفال دون سن الـ 18، وتسريح الفتيان والفتيات المجندين حاليًّا وفصلهم عن القوات، ووضع تدابير وقائية وتأديبية فيما يتعلق بتجنيد الأطفال.
إلا أنه ومن تاريخ ذلك الاتفاق، لا يزال “الشبيبة الثورية” يمارس عمليات تجنيد الأطفال بتغاضٍ من الإدارة الذاتية، ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 نظّمت عدة عائلات وقفة احتجاجية أمام مقر الأمم المتحدة في مدينة القامشلي احتجاجًا على تجنيد أطفالها، إذ أشارت غالبية العائلات التي تمّ تجنيد أطفالها وقتها خلال تلك الوقفة، إلى أن “الشبيبة الثورية” المسؤول الأساسي عن عمليات تجنيد الأطفال.
حسب تقرير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” نُشر في يناير/ كانون الثاني الفائت، لا يزال التنظيم المرخّص لدى الإدارة الذاتية يواصل عمليات تجنيد الأطفال القاصرين والقاصرات، وأن الإدارة الذاتية أو أجهزة الأمن التابعة لها لم تقم بمحاولة الحدّ من أعمال التنظيم، أو حظر نشاطه المكشوف، أو إغلاق مكاتبه ومقراته المعروفة في مختلف مناطق النفوذ.
يرى الكاتب الكردي السوري هوشنك أوسي، أن “الشبيبة الثورية” بات يشكّل سلطة فوق سلطتَي “قسد” والإدارة الذاتية، وهو ليس تنظيمًا خارجًا عن القانون وحسب، كما وصفه بعض قادة “قسد” لذرّ الرماد في الأعين، بل هو تنظيم فوق القانون، ومن يحاول الاقتراب منه كأنه يودّ النيل من هيبة حزب العمال الكردستاني.
ولم يسبق لـ”قسد” أن أدانت انتهاكات التنظيم، باستثناء إدانة وجّهها مظلوم عبدي قائد قوات “قسد” إلى من قام بالهجوم على مكتب المجلس الوطني الكردي في الدرباسية، بتاريخ 17 ديسمبر/ كانون الأول 2021.
حيث وصف عبدي من قام بالفعل بأنهم “مجموعة من المخرّبين المخالفين للقانون”، دون أن يذكر اسم التنظيم الذي يتبعون له، ما يعكس ذلك طبيعة المشهد، بتنفيذ التنظيم انتهاكات تستفيد منها “قسد” دون أن تتحمل الأخيرة مسؤوليتها.
لم يلبث على الحادثة هذه أيام حتى اضطرت قيادة “قسد” إلى كشف علاقتها بتنظيم “الشبيبة الثورية”، حيث غرّد مظلوم عبدي، القائد المشترك لـ”قسد”، متعاطفًا مع 5 قتلى و4 جرحى يتبعون للتنظيم استهدفتهم مسيّرة تركية على الأرجح، في موقع بمدينة كوباني في 25 ديسمبر/ كانون الأول 2021.
يشير أوسي لـ”نون بوست” أن “قسد” كانت تنكر وجود هذا التنظيم، لكن في النهاية جرى الاعتراف بوجوده واعتباره خارجًا عن القانون، إلا أنه ورغم كل الجرائم الموثقة التي قام بها، لا تجرؤ “قسد” على اعتبار “الشبيبة الثوريّة” منظمة إرهابية فاشية تستهدف المجتمع الكردي في سوريا لصالح حزب العمال، فـ”قسد” و”الشبيبة” يمكن اعتبارهما شقيقَين رضعا من الثدي الأيديولوجي نفسه لحزب العمال الكردستاني.
توريط الأسر الكردية الفقيرة
غالبًا ما يستهدف “الشبيبة الثورية” الطبقات المتوسطة والفقيرة والمعدمة، عكس أطفال الطبقة الغنية، ما يعكس حالة من التوريط المجتمعي، عبر استثمار الدم وربط المجتمع بحزب العمال الكردستاني وتفريعاته والجماعات والكيانات التابعة له.
يؤكد أوسو أن هناك حالة تنسيب قسرية وقهرية للعوائل الكردية إلى عقيدة العمال الكردستاني، بشكل مباشر أو غير مباشر، لأن أبناء هذه العوائل -حسب وصفه- إما شهداء وإما من مقاتلي ومقاتلات العمال الكردستاني واستطالاته الأخطبوطية الكثيرة، بالتالي قلّما نجد عائلة كردية لديها شهيد أو مقاتل ضمن العمال الكردستاني وتنتقد الحزب، وإلا فهي خائنة لدم شهيد العائلة الذي فقدَ حياته.
يمكن أن يأخذنا تأكيد أوسو إلى كتاب “الأكراد ومستقبل تركيا”، للمؤرخ الأمريكي المهتم بالشأن الكردي ميخائيل م. غونتر، والذي كتب: “أنشأ أوجلان سلطة فردية داخل الحزب منذ تأسيسه، جراء اتّباع سياسة عبادة الشخصية على الطريقة الستالينية، وهي السياسة التي اعتبرت كل اختلاف مع رئيس الحزب عملًا خائنًا، وجرت بسبب تلك السياسة سلسلة من التصفيات طالت الأعضاء المخالفين”.
مكملًا: “تشدد الحزب كذلك في مسألة ترك الحزب، ولم يمنح أعضاءه حق تركه، وتم قتل العديد ممّن تركوا الحزب أو فرّوا من معسكراته، أو أُلقي القبض عليهم خلال محاولات الفرار”.
ويعدّ استهداف الأطفال عادة أصيلة وليست طارئة على الحزب وتفريخاته، كـ”الشبيبة” وغيره، فقد استثمر مواقع التواصل لأغراض التجنيد والتحريض والاعتقال، كما التهديد والتخوين وبثّ العنف والكراهية ضد كل من ينتقد سلوكه، كما الجماعات الجهادية التكفيرية حسب أوسو، واصفًا الأطفال بوقود حروب المنظمات العقائدية، إن كانت اليسارية العنفية أو الجهادية الإسلامية، لأنه يسهل غسل أدمغتهم بالشعارات الكاذبة.
هندسة الرأي الكردي
مع اندلاع الثورة السورية، عمل “الشبيبة الثورية” بالضغط على بقية التنظيمات الشبابية التي تشكّلت في المناطق الكردية والداعمة للمظاهرات، ولاحقًا مواجهة الأحزاب الكردية عبر الهجوم على مكاتبها، لتضييق الخناق عليها حركيًّا وترهيبها من الناحية الأمنية.
أبرز انتهاكات التنظيم حرق مكتبَين للمجلس الوطني الكردي في مدينتَي الدرباسية والمالكية بريف الحسكة في أبريل/ نيسان السنة الفائتة، فضلًا عن تعمُّد “الشبيبة” مهاجمة مقارّ تابعة للأمم المتحدة ومفوضية اللاجئين ومنظمة الصحة العالمية، الموجودة في المنطقة ذاتها بالقامشلي في يونيو/ حزيران الفائت، بهدف المطالبة بإطلاق سراح عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل في تركيا، حيث رفعوا صور أوجلان ولافتة كتب عليها “شبيبة فدائيي القائد آبو (أوجلان)”.
يرى مدير مركز “رامان للبحوث والاستشارات”، الباحث المتخصص في الشأن الكردي بدر ملا رشيد، أن تنظيم “الشبيبة” يمارس دور الإبقاء على أفكار اليسارية المتطرفة داخل منظومة الحزب في سوريا نشطة وفعّالة، وهذا الدور بشكل رئيسي مرتبط بالأطروحات التي تتم من تنظيمات اليسار التركي المتطرف، مثل جبهة-حزب التحرر الشعبي الثوري (DHKP-C) وغيرها، والتي تنشط بشكل بعيد عن الأضواء ضمن المناطق الكردية في سوريا.
لافتًا في حديثه لـ”نون بوست” أن هذه التنظيمات كان لها دور بارز في إعادة هندسة الرأي الكردي العام في سوريا، ضمن فضاءات بعيدة عن مساحته السياسية والعقائدية المتمثلة بالداخل السوري، وبالانتماء إلى المذهب السنّي الشافعي، ويمكن الاستدلال على بعض من أدوراها في المظاهرات التي تحدث وتحمل رسائل سياسية وعقائدية، مثلما ظهرت مؤخرًا لافتة تحمل تصويرًا لعلي بن أبي طالب، وتتوسط اللافتة صورة لعبد الله أوجلان زعيم حزب العمال.
ويبدو أن هذه السياسة تهدد مستقبل جيل كامل من أبناء الشعب الكردي، عبر إبعادهم عن المراكز التدريسية والمدارس والجامعات بغرض الحفاظ على حياتهم، ثم توجّههم إلى الدول الأوروبية وبمبالغ باهظة جدًّا، والذي يؤدي بطبيعة الحال إلى تغيير ديموغرافية المنطقة وإفراغ المناطق الكردية من سكانها.
يؤكد رشيد أن سياسة “قسد” والتنظيمات المتفرعة عنها، بالإضافة إلى سياسة حفر الأنفاق ضمن الأحياء الكردية، بالأخص في القامشلي ومدن أخرى، تهدف إلى إحداث تغيير ديموغرافي فيها، ودفع المعارضين الأكراد للهجرة، وخلق كتلة بشرية ولو كانت صغيرة متبنية لأفكار الحزب اليسارية بشكل كامل.
الولايات المتحدة.. موقف محايد
أقرت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش الابن، عام 2008 قانون حماية الأطفال المجندين (CSPA)، الذي يحظر على الولايات المتحدة، بموجب التعديلات اللاحقة، تقديم المساعدة لأي حكومة تجنّد الأطفال أو تستخدم جنودًا أطفالًا، إلا أنها تمارس موقفًا محايدًا من قضية تجنيد الأطفال واستخدامهم في الأعمال العدائية، لا سيما أن “قسد” تملك جبهات قتال واسعة شمال شرق سوريا.
يعلّل رشيد صمت أمريكا بأن معيار الأمريكيين الأهم هو استمرار رفد قوات “قسد” بالمقاتلين والكوادر البشرية، لإدامة مهامها الأمنية في سوريا، لذا لا ترغب من جهة ولا تستطيع من جهة أخرى أن تعيق أية نشاطات يمكن أن تؤثر على سير عملياتها.
ويمكن اعتبار تصريح أمريكا في أكثر من مناسبة بأن وجودها في سوريا عمومًا متعلق فقط بمكافحة الإرهاب المتمثل بتنظيم “داعش”، دون النظر في أية قضايا مهما كانت، وهو ما تستفيد منه “قسد”، إلى جانب التفافها على أعمار الأطفال المجنّدين وممارستها لتضليل كبير عند نشر صور ضحاياها، دون ذكر أي معلومات عن تواريخ ميلادهم.