ثمة موضوعة نظرية خلافية في فهمها على المستوى النظري العالمي العام، كما على المستوى الفلسطيني بصورة خاصة، وهي ذات أهمية كبيرة.
عند الحديث عن أشكال النضال، وهي المتعلقة بالاستراتيجية والتكتيك، أو بأسلوب/أساليب تحقيق الهدف/الأهداف تُستخدم الموضوعة القائلة: بشرعية أو ضرورة استخدام أساليب النضال كلها في مواجهة الاستعمار أو الاحتلال الأجنبي. وهو ما شرّعه القانون الدولي، وقرارات من هيئة الأمم المتحدة، وقال به العرف العام، وتناوله المنظرون الثوريون بالترويج له.
على أن أشكال النضال تتدرج من الأدنى إلى الأعلى، أو تتعدّد في مستوياتها من وضعية إلى أخرى. ومن ثم لا بدّ من أن يُحدّد شكل رئيسي من بين أشكال النضال، وفقاً لكل حالة بعينها. الأمر الذي يطرح السؤال: ما هو الشكل الرئيسي الأنسب للنضال في هذه الحالة أو تلك؟ وهو لا يتم تبعاً للرغبات أو لثابت من الثوابت، وإنما يتوجب اختياره على ضوء مجموعة عوامل واعتبارات تتعلق بالبلد المعني وسماته وبالاحتلال المحدّد الذي يواجهه وطبيعته وسماته، كما يتعلق بتجربته التاريخية المعاصرة، فضلاً عن تداخل عوامل واعتبارات كثيرة أخرى. ولكن لا مفرّ من تحديد الشكل الرئيسي للنضال، وعلى أساسه يُصار إلى استخدام الأشكال المناسبة من النضال له؛ لأن هناك أشكالاً من النضال تتعارض معه تعارضاً صارخاً قد تفسده وتضيّع بوصلته.
فعلى سبيل المثال عندما حدّد المهاتما غاندي الشكل الرئيسي للنضال، بالنضال اللاعنفي الذي يعتمد أشكالاً من العصيان ومخالفة القوانين، لا يمكن والحالة هذه أن يُستخدم العمل المسلح النضالي بأيّة صورة أو مستوى؛ لأنه يتعارض وأشكال العصيان وتعمّد مخالفة القوانين. أو في المقابل تُستخدم نظرية اللاعنف التي تعارض العصيان وتتقيّد بالقوانين.
وهذا المثال ينطبق أيضاً على الشكل الرئيسي للنضال الذي حدّده الإمام الخميني رحمه الله للثورة العامة ضدّ الشاه، حيث كان الشعار انتصار الدم على السيف. وهذا يتعارض أيضاً مع أشكال النضال المسلح الغواري، أو حرب الشوارع، وما شابه. ومن ثم يعتمد على الأشكال التحريضية السياسية والفكرية والعقدية للوصول إلى لحظة اندلاع الثورة العامة غير المسلحة.
والأمثلة هنا لا تُعدّ ولا تحصى من ناحية ضرورة أن يُحدّد الشكل الرئيسي للنضال لتخضع له، وتوضع في خدمته أشكال النضال المناسبة له، وليس كل أشكال النضال.
حددت حركة فتح في منطلقاتها الأولى وكذلك كان شأن الفصائل الفلسطينية في تلك المرحلة، كما تثبّت في ميثاق م.ت.ف عام 1968، الشكل الرئيسي للنضال وهو الكفاح المسلح لتحرير فلسطين. ومن ثم حدّدت أشكال النضال المسلحة والسياسية والتحريضية والاجتماعية والاقتصادية (أشكال الصمود والبقاء في الأرض) المناسبة له. وبهذا اعتُبِرَت أشكال من النضال غير مناسبة له، وأخرى متناقضة معه، مثل اعتبار الشكل الرئيسي للنضال هو النضال اللاعنفي، أو العمل الديبلوماسي الذي يتنازل عن أي من الثوابت المتعلقة بالأهداف أو بالشكل الرئيسي – الكفاح المسلح الذي حُدّد.
ولكن بدأت تحدث اختراقات لهذه القاعدة العامة المتعلقة بالكفاح المسلح باعتباره الشكل الرئيسي للنضال من خلال عمليتين: الأولى التقدم ببرنامج سياسي بدأ ببرنامج النقاط العشر 1974 وذهب تدريجاً إلى الدولة 1988 على حدود 1967، وصولاً إلى اتفاق أوسلو والقبول بحل الدولتين بما في ذلك الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني وتغيير الميثاق.
أما العملية الثانية فكانت الاختراق بالانتقال من النضال السياسي لخدمة الكفاح المسلح إلى اتصالات سرّية لاحقاً نضالاً سياسياً، وذلك بالتوجّه لإقامة علاقات مع الدول الغربية، ثم مدّت علاقات سرّية مع أطراف “تقدمية” إسرائيلية فصهيونية “يسارية”؛ تمهيداً للمفاوضات المباشرة. الأمر الذي راح يتعارض مع تحديد الهدف الرئيسي للنضال ويدفع به نحو التآكل خطوة بعد خطوة، وصولاً إلى وضع شكل رئيسي آخر. وهنا لعب التنظير السوفياتي الدور الأكبر من خلال القول بـ”شرعية استخدام كل أشكال النضال”.
وأُدرِج فيه حتى ما كان محرماً. كذا بدأ الانسحاب مما حدّد من شكل رئيسي للنضال، بحجة “استخدام كل أشكال النضال، أو المقاومة، بما فيها الكفاح المسلح أو المقاومة المسلحة”. وبهذا أصبح ما هو رئيسي فرعاً من فروع النضال، يلحق بالشكل الرئيسي الجديد للنضال؛ رفعاً للعتب وتمهيداً للانسحاب من الكفاح المسلح، ومن ثم تواريه كلياً بل مكافحته وتصفيته كما حدث في مرحلة اتفاق أوسلو جزئياً، ثم كلياً في مرحلة رئاسة محمود عباس، وتوقيع الاتفاق الأمني الذي أشرف الجنرال الأمريكي دايتون على تنفيذه. وهنا أعلن رسمياً أن الاستراتيجية أي الشكل الرئيسي للنضال، هي المفاوضات مع مقاومة شعبية سلمية وجزئية ومحدودة ضدّ الجدار وبعض المستوطنات.
ومن ثم أصبح بالضرورة كما أعلن، واضع هذا الشكل الرئيسي للنضال ومنفذه محمود عباس منع المقاومة المسلحة والحيلولة دون اندلاع انتفاضة شعبية عامة. وقد أُريدَ من المقاومة الجزئية الرسمية للجدار، أن تغطي الأجهزة الأمنية وسياسة قمع المقاومة والانتفاضة العامة.
الذين لا يريدون، لأي سبب من الأسباب، أن يواجهوا هذا الشكل الرئيسي الذي حدّده اتفاق أوسلو بطبعته التي ختمه بها الرئيس محمود عباس، راحوا يتحدثون عن “استخدام كل أشكال النضال بما فيه السياسي والعسكري”.
بكلمة راحت نظرية “استخدام كل أشكال النضال”، تستخدم في الساحة الفلسطينية لتغطية كل الضربات التي وجهت للقضية الفلسطينية في الظلام ثم في العلن.
ولهذا ما أن يَطرح أحد شعار “استخدام كل أشكال النضال”، ونقطة على السطر، أو استخدام “بما فيه…”، يجب أن يُقال له: لا توجد تجربة في العالم استُخدمت فيها كل أشكال النضال في آن واحد ومرحلة واحدة ولم تحدِّد الشكل الرئيسي للنضال؛ لأن استخدام كل الأشكال يجعلها تناطح بعضها بعضاً. فنحن أمام استحالة في التطبيق العملي.
الذي يمكن أن يواجه الاحتلال ويحافظ على ثوابت القضية ويدفع إلى مواجهة الشكل الذي حدّده اتفاق أوسلو، وترجمته من خلال سلطة محمود عباس وديبلوماسيته، ومن أجل تصحيح مساره، وذلك بعد أن ثبت من خلال التطبيق العملي له بأنه فاشل وخاطئ وكارثي ويجب التراجع عنه. ولهذا فإن وضعه في إطار موضوعة “استخدام كل أشكال النضال” لن يساعده في التراجع وتصحيح المسار، وإنما يغطيه إلى أمد أطول.
من هنا يجب أن تفهم موضوعة مشروعية استخدام كل أشكال النضال أولاً، على أساس أن استخدامها كلها في آن واحد غير ممكن، وأنها سيلغي بعضها بعضاً ما لم يحدّد من بينها الشكل الرئيسي الأنسب للنضال. ومن ثم تستخدم الأشكال النضالية التي تخدمه وتكون الأكثر تدعيماً له.
ثانياً: تطبيقاً للفهم الصحيح لهذه الموضوعة وعلى ضوء خصوصية الحالة الفلسطينية وخصوصية الكيان الصهيوني، فإن الشكل الرئيسي للنضال في المرحلة الراهنة، هو المقاومة المسلحة كما هي متجلية في قطاع غزة، وهو أمر أثبت صحته وجدارته بالتجربة العملية وبأعلى مستوى من أي تصوّر أو توقع.
أما في الضفة الغربية والقدس، وبسبب ما حدث من تمايز بينها وبين قطاع غزة خلال العشر سنوات الأخيرة، ولا سيما بعد الانقسام عام 2007، فقد أصبح الشكل الرئيسي للنضال فيهما يتسّم باستراتيجية الانتفاضة الشعبية العامة وما يناسبها من أشكال مقاومة، ولّدتها التجربة في الفترة الأخيرة مثل خطف الجنود الثلاثة أو الدهس وسواهما.
لعل هذا المنهج في تحديد الشكل الرئيسي للنضال، ينطبق على مواقع الشتات الفلسطيني كلها، بحيث يحدّد الشكل الرئيسي وفقاً للعوامل والخصوصية المتعلقتين بكل حالة.